نتطرق من خلال هذه السلسلة (28 مقالا) لاستعراض محطات فكرية وأطروحات فلسفية أنارت طريق الحضارة الغربية في تعاملها مع مسألة حقوق الإنسان التي برزت بشكل يزداد ثقلا وعمقا منذ الربع الأخير من القرن العشرين، والتي تحمل في ثناياها إيديولوجية القرن الواحد والعشرين المفتوحة على كل الاحتمالات. إن الاعتبارات النقدية الواردة في هذه المقالات ليست من باب التسرع في إصدار أحكام القيمة، ولا من باب التحامل المبني على الآراء الجاهزة والاندفاعات العشوائية المتطرفة، وإنما هي قراءة موضوعية في بعض مرجعيات الفكر الفلسفي الغربي الذي تتغذى عليه منظومة حقوق الإنسان المعاصرة. 28/9 - السياسة والإنسان في فكر طوما الأكويني ينتمي طوما الأكويني (1225/1273) إلى عائلة أرستقراطية من جنوبإيطاليا. تلقى تعليمه في كل من جامعة نابولي وجامعة باريس التي زوال بها مهنة التدريس لعدة سنوات. لقد كان ابن القرن الثالث عشر الميلادي، ذلك القرن الذي ازدهرت فيه النظريات الرشدية في الأوساط الغربية حتى أنها ضايقته في معارفه وفي إيمانه، فرد عليها بكتاب تحت عنوان: "في وحدة العقل للرد على الرشدية". علما بأنه كان في جانب كبير من دراساته يعتمد على آراء ابن رشد والغزالي وابن سينا. وكان شغله الشاغل هو إيجاد قاعدة توفيقية بين الفلسفة والدين. لهذا اعتبرته الكنيسة معلمها البارز ومرجعها المتين في اللاهوت والفلسفة السكولاستيكية (المدرسية)، بحيث لم تكن دراساته للأرسطية والأوغسطنية والأفلاطونية الجديدة والرشدية، إلا بهدف الدفاع عن المسيحية. ولكونه من أتباع التنظيم الرهباني الدومينكاني فلقد كتب مؤلفا تبشيريا بعنوان "الرد على الخوارج" ويعني به الخارجين عن المسيحية. وبالفعل لقد جعله وثيقة مرجعية لدى مبشري تنظيمه الرهباني في كل من الأندلس والمغرب حينذاك. والكتاب المشار إليه كان عبارة عن دعاية تبشيرية كتبت بأسلوب فلسفي، وفيه يتطرق كاتبه لوجود الله وصفاته، والجواهر العقلية وقدم العالم، والإنسان وغاية الأشياء، والخوارق والعناية الإلهية، وما إلى ذلك من المفاهيم المعروضة بخلفية مسيحية. وأولى طوما الأكويني أهمية خاصة لفلسفة أرسطو وشروحاتها الرشدية، لكنه شوهها من خلال تأويله لما لم يكن متفقا معه من الأفكار والنظريات التي تحملها، وكذا إقرار زيادات لا يرى أنها تتنافى معها أو أنها قد تكون مكملة لها. وواضح أن غرضه كان من وراء ذلك هو تقديم أرسطو وكأنه مسيحي في فكره وفلسفته، لذلك فهو يعتبر مؤسسا لتيار الأرسطية المسيحية. وبصفة إجمالية فإن المذهب الطومي يتميز بكونه روحانية مبنية على المركزية الربوبية الراديكالية، وهذا معناه أن الله هو مصدر كل شيء، وهو الماسك لكل شيء، وإليه يرجع كل شيء. ولم يتزحزح قيد أنملة عن هذا الخط الذي رسمه لنفسه قصد التعبير عن نهجه. ففي أهم وأكبر مؤلفاته المعروف بما أسماه "المجموعة اللاهوتية" استهل طوما الأكويني كلامه بتقديم الطريقة المنهجية التي اعتمدها في ترتيب ودراسة اللاهوت: "لما كان الغرض المقصود بالذات في هذا التعليم اللاهوتي هو تعريف الله في ذاته، ومن حيث هو مبدأ الأشياء، ومن حيث هو غايتها. فسنبحث في الله أولا، وفي حركة الخليقة الناطقة إليه ثانيا، وفي المسيح الذي هو الطريق إليه ثالثا". هذا ولم يكن من السهل على طوما الأكويني تحقيق ما كان يصبو إليه من انتصار للفكر اللاهوتي المسيحي، فمن جهة كان الإسلام في أعز مظاهر قواه الحضارية والثقافية الفاعلة، بحيث كان من الصعب التصدي له والنيل منه، خاصة بعد فشل الحملات الصليبية آنذاك. ومن جهة أخرى كانت الكنيسة تعتمد على نظام إقطاعي متشرذم، وكان ذلك نتيجة لتفتيت السلطة الزمنية الممثلة في الإمبراطورية الرومانية المتهالكة. وينضاف إلى ذلك ظهور الحركة العلمانية التي كانت الجامعات منطلقها الأول. ولهذا سعى طوما الأكويني إلى بناء فكره على نهج عقلاني بطابع مسيحي يرجى منه الصمود على جميع الجبهات. الإنسان بالعقل والإيمان في التحليل الطومي يأتي الإنسان في المرتبة الثانية من مراتب الخليقة بعد الملائكة وقبل العجماوات. وهذا الترتيب يعتبر ترتيبا طبيعيا للوجود، وبالطبع يطرح عدة تساؤلات حول مبدأ الأشياء، وأول سؤال هو: هل الله موجود؟ والحل المنهجي الذي اعتمده طوما كان حلا مبنيا على العقل والإيمان في نفس الوقت. والعقل هنا لا يسمو فوق الإيمان وإنما يظل دائما تابعا له، وبه يمكن الوصول إلى معرفة الوجود. والقاعدة تفترض الانطلاق من الملاحظة الأولية للموجودات الطبيعية مع إسناد ذلك إلى مبدأ العلية، بحيث توجد علل لكل المعلولات الموجودة في العالم، ولا يمكن للعقل أن يدلنا على التسلسل اللامتناهي للعلل، إذ لا بد له أن يقف عند علة أولى، وهذه العلة الأولي هي الله. وهذا كل ما يستطيع العقل القيام به، حيث أنه من المستحيل على عقل الإنسان أن يتخطى فكرة وجود الله ليأتي ببرهان على هذا الوجود إلا بالإيمان، وما الإنسان إلا موجود من الموجودات. وهكذا برز عنصر الإيمان كسلاح يدافع به طوما عن تماسك نظريته، فمثلا مسألة قدم العالم أو حدوثه التي شغلت الفلاسفة تطرق إليها من زاوية النفي لمشروعية طرحها، بحيث يرى أن العالم لا هو قديم قدم الله ولا هو مخلوق في الزمان أو حادث. لماذا؟ لأن الله لا يريد بالضرورة إلا ذاته، ويريد ما دون ذلك بالاختيار. بمعنى أوضح أنه لا سلطة على مشيئة الله الذي قد يريد العالم قديما وقد يريده حادثا، وأما اختيار هذا الرأي دون الآخر فيعتمد أساسا على الإيمان، مما يفيد أن الإيمان هو الذي يعلمنا بأن العالم حادث أو قديم. بعد هذا فقط يمكن للعقل أن يتدخل للبحث عن البرهان فيما هو موجود. وأما الإرادة فهي من المكونات العقلية للإنسان. بعبارة وجيزة: الإنسان يريد إذن فهو عاقل. وطبيعة نشاط العقل تتجلى في إدراكه للكليات من خلال الحواس التي تنقل إليه الجزئيات، وارتباط الإرادة به هو ارتباط غائي، يستهدف الخير الكلي الذي هو الله. وهكذا يخلص طوما الأكويني إلى أن العقل إشراق إلهي يساعد الإنسان على إدراك وجود الله بالإيمان ثم الاستدلال عليه. وحدة القرار السياسي تؤكد الطومية على أن الجماعات البشرية مبنية على العقل والإرادة، لذلك فهي قائمة على قاعدة تعاقدية. لقد قدم شيشرون تعريفا مفاده أن الجماعة "كثرة منظمة خاضعة لقانون عادل يرتضيه الفرد ابتغاء منفعة مشتركة". وجاء من بعده أوغسطين منتقدا هذا التعريف ومعتبرا أن العدالة الكاملة مستحيلة خارج المسيحية، وأعطى تعريفا يقضي بأن الجماعة "اتحاد أفراد عاقلين للاستمتاع معا بما يحبون". وهو تعريف غير مضبوط طالما أن هؤلاء الأفراد قد يحبون أشياء كثيرة، منها الثروة وحتى الحروب. لذلك كان طوما الأكويني يميل إلى تعريف شيشرون، سيما وأن هذا الأخير يقر بمبدأ القانون الطبيعي، وهذا في نظر طوما يحيل وجوبا على القانون الأزلي. ومن وجهة نظر الطومية لقد أوجد الله الإنسان مدنيا بطبعه وميالا بالبديهية إلى الحق والخير، لذلك كان الله مصدرا لكل سلطة. وأما الغاية من الحياة الاجتماعية فليست هي الاستمتاع وإنما هي كامنة في استكمال الفرد لطبيعته الإنسانية. وفيما يخص الدولة فإن مهمتها تقتصر على مساعدة الفرد من أجل استكمال إنسانيته الناقصة، وتبقى الأخلاق والدين من مهام الكنيسة. وبما أن الغاية الزمنية خاضعة للغاية الأبدية فإن على الدولة أن تخضع للكنيسة. وفي معرضها لأنظمة الحكم ترى الطومية أن أفضل هذه الأنظمة هو النظام الذي يعتمد على سلطة الملك أو الفرد الفاضل، لأن هذا النمط مطابق للطبيعة، حيث أن الأشياء على مستوى التدبير قائمة على مبدأ الوحدة، فالله وحده يدبر العالم، لكن الطومية تضيف ضرورة الانتخاب فيما يخص الملك. وما دامت الأنظمة في طبيعتها مهددة بالفساد، لأن الإنسان لم يستكمل إنسانيته بعد، فإنه يتضح من الناحية العملية ضرورة اعتماد نظام وسطي يتمثل في ملكية يساندها مجلس من أخيار الناس يتولى الشعب انتخابهم. وهو النظام الذي سنه الله لموسى: حيث كان موسى يمارس الحكم بمساعدة اثنين وسبعين من الحكماء الذين اختارهم الشعب، بينما كان اختيار الملك (الموحى إليه) من الله. *أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة- طنجة [email protected]