كلّما حصد غدرُ "الانقِتَالِيِّين" أرواحا بريئة، يتجدّد التقاطب بين واسِمِي الإسلام بتوفير ظروف الغلوّ والتشدّد التي تمهّد للعنف العمَلي، وبين مُبرّئِي تلقّي الناس لهذا الدين جملة وتفصيلا، وإلقاء اللوم على قراءات "أفراد متطرّفين مستلبين". وفي سياق إنساني كِيلَت فيه للإسلام اتهامات عديدة، وأصبحت سِمَته الأساس في بعض المجالات التداولية، تزداد حاجة المؤمنين وغير المؤمنين إلى وقفات صادقة مع النفس، تفكّ عن الكثير من المفاهيم والتصوُّرات والاعتقادات ما شابها من قيود العادة، والانغلاق، والتسليم المقلِّد دون إعمال لواجب محاولة الفهم، ونعمة التفكير وأمر "استفتاء القلب". في خضمّ هذه التطوّرات، أصدرت الرابطة المحمدية للعلماء دفاتر جديدة تروم "تفكيك خطاب التطرف"، وتخوض غمار وضع مفاهيم تُوُوطِئ على التسليم باستيعاب معانيها ونهاياتها المنطقية ما تيسّر من الزمن، على طاولة التشريح.. وفي سلسلة جديدة، تحاول جريدة هسبريس الإلكترونية قراءةَ "دفاتر تفكيك خطاب التطرف" من أجل تقديمها للجمهور العريض الذي تعنيه وتمسّ تصوّراته ورؤيته للعالم وعمله فيه، ومن أجل فتح باب النقاش حول مضامينها التي تهم كل الأطراف باختلاف تمَوقعاتهم السياسية والثقافية والعقدية؛ لأن مسألة العيش المشترك تتجاوز الأفراد والجماعات، لتمسّ وحدة المصير وطبيعة المستقبل الذي نريده. مفهوم الحاكمية لا يدّعي محمد الناصري، كاتِبُ الدفتر الرابع من "دفاتر تفكيك خطاب التطرف" الذي صدر عن سلسلة "الإسلام والسياق المعاصر" للرابطة المحمدية للعلماء، أنه سيحل، من خلال منشور ''مفهوم الحاكمية.. من أجل تجاوز إشكالات المفهوم والتوظيف الإيديولوجي"، كل الإشكالات المرتبطة بهذا المفهوم، ومن تم إنهاء كل نزاع أو جدل صاحبه قديما وحديثا؛ لأنه على قدر كبير من الخطورة بالنظر لتأثيرات المفهوم العملية الواقعية، بينما يحاول بحثه وضع ''مفهوم الحاكمية'' في مكانه الصحيح من المنظومة المعرفية الإسلامية، وتخليصه من معانيه التحريضية التي استخدمت لتبرير كل الأعمال الإرهابية وأعمال العنف. وأشار الباحث إلى أن هناك محاولات جادة سابقة عن هذا العمل يشترك معها في المقصد والغاية من تناول هذا المفهوم بالدراسة والتحليل والنقد، مثل أعمال طه جابر العلواني، وأبو القاسم حاج حمد، وهشام أحمد عوض جعفر، ومحمد عمارة، وعمر عبيد حسنة، وطه عبد الرحمن، وحسن لحساسنة، والحسن العلمي. وذكر محمد الناصري أن الحاكمية الإلهية "تعبير شاع استخدامه في الأدبيات الإسلامية عموما، وأدبيات الصحوة الإسلامية خصوصا، ويشار به إلى التزام شريعة الله بدليل ما يرد في بعض الآيات القرآنية، مثل: ''ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون"، "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون"، و"إن الحكم إلا لله". وتُكَرِّسُ مقابلة الحاكمية الإلهية، بالنسبة للكاتب، مع الحاكمية الوضعية التي ينتجها الإنسان دون التزام بالشرع الإلهي، "تناقضا ضمن ثنائية حادة، لاعتبار الحاكمية الوضعية معارضة للحاكمية الإلهية وبالتالي فإن المنطق يتداعى لتترادف الحاكمية الوضعية مع الكفر والشرك، وهو منطلق اعتبار جميع المجتمعات ذات الأنظمة الوضعية مجتمعات كافرة، دون توسط بين الأمرين. وبهذا تقوم، حَسَبَ المصدر نفسه، "بعض الحركات الإسلامية بتمييز نفسها عن الآخرين في مجتمعاتنا بوصفها مجسدة في ذاتها وتكوينها إطارا لحاكمية الله؛ بمعنى أنها تعتبر أن في داخلها الحركي يكمن "الخلاص"، وهي "مدينة الله" والآخرون "مدن الشيطان"، فتُسْبِغُ هذه الإطارات الحركية على نفسها "مشروعية التصرف" باسم الله وحَاكِمِيَّتِهِ، وفي سبيل تحقيق غاياته ترى تبريرا لكل الوسائل مستحلة الأنفس والدماء والأموال براحة ضمير تامة". الحاكمية حديثا يذكر محمد الناصري أن من أسهم في اضطراب مفهوم الحاكمية في القرن العشرين ثلاثة أطراف، أولها: أبو الأعلى المودودي وسيد قطب، وثانيها: الإسلاميون الذين شرحوا فكر الرجلَين، وثالث الأطراف هم الإسلاميون الذين استنبطوا المفاهيم الشائعة عن الحكم والدولة وقيم السلطة والشرعية انطلاقا من آيات القرآن وخاصة سورة المائدة وأحاديث النبي عليه الصلاة والسلام؛ وهو ما يستدعي الكثير من عمليات التحليل والتفكيك وإعادة التركيب حتى لا يساء فهم الإسلام كله بسبب إساءة فهم هذا المفهوم خصوصا مع اقتران هذا المفهوم ب''التوحيد". واستحضر الكاتب ما أثارته الحاكمية من جدل ونزاع بين طوائف المسلمين في تاريخهم، مثل: الخوارج قديما وغلاة المكفرين في هذا الزمان ممن أساءوا فهمها ووضَعُوها في غير موضعها لتتحول من "حاكمية الله" إلى ''حاكمية الطوائف" التي نصبت نفسها وكيلا عن صاحب الشريعة، وانقلبت الحاكمية عندها إلى "كلمة حق أريد بها باطل" كما قال علي رضي الله عنه للخوارج، بفعل تفسيرهم قوله تعالى: "إن الحكم إلا لله"، تفسيرا سياسيا وتأويلها تأويلا خاطئا، وهو سوء فهم يرجعه أبو اسحاق الشاطبي إلى جهلهم بمقاصد الشريعة، والتخرص على معانيها بالظن دون تثبت، أو الأخذ بالنظر الأول.. وهو ما يراه كاتب الدفتر منطبقا أيضا على غلاة المكفرة في هذا الزمان، الذين نبتوا "من بقايا الخوارج، وظهروا في هذا الزمان بسبب قلة العلم وسيادة الجهل بين المتحمّسين، وسادت في أوساطهم انحرافات فكرية خطيرة تهدّد منحى الاعتدال في العمل الإسلامي". وفي محور "الحاكمية باعتبارها مفهوما تحريضيا أو التوظيف الإيديولوجي لمفهوم الحاكمية"، يقول الناصري إن أبا الأعلى المودودي أوّل من صاغ فكرة الحاكمية الإلهية في الإطار السياسي والاجتماعي والقانوني، وقام بتوظيف ذلك من أجل بناء نظرية سياسية تقوم على منظومة عقائدية، فتتجلى الحاكمية الإلهية في السلطتين السياسية والقانونية، واختار هذا المصطلح للتعبير عن مبدأ سيادة الله وما يفرضه من وجوب سيادة التّشريع الإسلامي ويعدّ أوّلَ من ربط الحاكمية بمفهوم الإيمان والتوحيد وأعطاه صبغة عقِيدِيّة؛ فالله تعالى وحدَه هو الحاكِم بذاته وأصلِه، وحُكْمُ سواهُ موهوب وممنوح، ولاحَظَّ للإنسان من الحاكمية إطلاقا، وخلافة الإنسان عن الله في الأرض لا تعطي الحقّ للخليفة في العمل بما يشير به هواه وما تقضي به مشيئة شخصه، لأن عمله ومهمّته تنفيذ مشيئة المالك ورغبته.. كما يرى أن الإسلام يضاد ويعارض الممالك القائمة على المبادئ المناقِضة للإسلام، ويريد قطع دابرها، ولا يتحرّج في استخدام القوّة الحربية لذلك. ويتبنّى سيد قطب النهج نفسه عندما اعتبر الإسلام "إعلانا عاما لتحرير الإنسان في الأرض من العبودية للعباد بإعلان أُلوهية الله وحدَه"، التي تعني "الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كلّ صوَرِها وأشكالها وأنظِمَتِها وأوضاعها والتمرّد الكامل على كل وضع في أرجاء الأرض يكون الحكم فيه للبشر بصورة من الصور"، مجملا حديثه بقول: "مملكة الله في الأرض… لا قيام لها إلا بإزالة الأنظمة والحكومات التي تقوم على أساس حاكمية البشر" و"تحطيم الأنظمة السياسية الحاكمة أو قهرها حتى تدفَع الجزية وتعلن استسلامها والتّخلية بين جماهيرها وهذه العقيدة، لتَعتنقها أو لا تعتنقها بكامل حريتها"، ولا يتمّ ذلك بمجرد التبليغ والبيان لأن المتسلطين على رقاب العباد المغتصِبين لسلطان الله في الأرض لا يسلمون في سلطانهم بمجرَّد التبليغ والبَيان، بل لا بدّ من الجهاد بالسيف إلى جانب الجهاد بالبيان، لتحرير الإنسان في الأرض كُلِّ الأرض". ويقيم سيّد قطب فكرة الحاكمية في إطار استحضار معاني الجاهلية المعاصرة، حَسَبَ قراءة محمد الناصري، وبناء على هذا التقابل تتضّح أكثر معالم الحاكمية عندَه، فهو يرى أن "العالم يعيش اليوم كلّه في جاهلية من ناحية الأصل الذي تنبثق منه مقوِّمات الحياة وأنظمتها"، والجاهليّةَ تسند "الحاكمية إلى البشر فتجعل بعضهم لبعض أربابا .. في صورة ادعاء حقّ وضع التصوّرات والقيم والشرائع والقوانين والأنظمة والأوضاع بمعزل عن منهج الله للحياة، وفيما لم يأذن به الله". تفكيك الحاكمية يرى محمد الناصري أن عبارات أبي الأعلى المودودي وسيد قطب، التي أورد أمثلة منها في موضوع الحاكمية، عامَّةٌ وموهِمةٌ للّبس والغموض، وجرّدا فيها الإنسان من كلّ حقّ في الأمر والتّشريع والتقنين بل والتنفيذ، فردا كان أم جماعة بل وحتى الأمة، ثم تحوّل هذا المفهوم بالجهود والشروح التي بُذِلَت من كتّاب الحركات الإسلامية إلى قرين للتّوحيد فصارت تُسقَطُ عليه كلّ عناصر التوحيد أو مقوِّمات العقيدة من ولاء وبراء وسواها، وتُربَطُ بها بشكل وثيق، وهو ما ساد معه نوع من سوء الفهم واضطراب في الرؤية داخل المجتمعات الإسلامية. وذكر الناصري أنه بالنّظر إلى أزمات الواقع العربي والإسلامي، وإخفاقاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بالإضافة إلى التحامل الغربي على الإسلام والمسلمين، تلقّفَ الكثير من منظِّري الحركات الإسلامية السياسية المتشدّدة التصوُّرَ المذكور، فعملوا على استثماره في تكفير المجتمع وتكفير الحكّام، وتكفير المحكومين لأنهم رضوا بهم، وتكفير العلماء لأنهم لم يكفّروا الحكّام، واستثمروا ذلك في تسويغ وتبرير القيام بالأعمال الحربية ضد غير المسلمين وشرعَنَتِها واعتبار أن القتال لا ينحصر بحالة العدوان على أهل الإسلام أو دعوَتِهم، بل شرع القتال ابتداء لإخضاع الأنظمة الكافرة لسلطان الإسلام، وهو ما كا نمن بين نتائجه بالنسبة للكاتب: الأعمال الإرهابية، وأعمال العنف.. وتقوية المدّ العدائي ضدّ الإسلام بتوفير أدلّة مادية وظّفها مشروع التخويف من الإسلام أوسع توظيف. ويذكر دفتر الرابطة المحمدية للعلماء حول "مفهوم الحاكمية" أن "الحكم في الإسلام فعل بشري واجتهاد بشري، ومحاولة لاختيار أفضل السبل والوسائل لتحقيق مصلحة الأمة وإدارة شؤون البلاد وحماية تعاليم الدين أو سياسة أمور الدنيا انطلاقا من القيم الإسلامية في الكتاب والسنة، واستصْحابا للمسيرة الحضارية التاريخية والإفادة من كافة التجارب الأخرى"، مستشهدا في هذا السياق ب"الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحقّ بها"، وتوكيل الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الأمر لاجتهاد الناس بقوله: "أنتم أعلم بأمر دنياكم"، ثم استشهد بما كتبه عمر عبيد حسنة حول أن "تعدّد الرؤى والاجتهادات والسياقات التاريخية المتنوِّعة في إطار الحاكمية الإسلامية دليل على بشرية الحكم وعدم قدسيته". ويؤكّد الناصري أن شكل نظام الحكم والحاكمية طريقة في الإدارة تتطوّر وتتغيّر بحسب الظروف والاستِطَاعَات، وتفيد من تجارب الذات والآخر، وليس من الثوابت والمقدّسات، مضيفا، في استشهاد بكتاب "إشكالية الحاكمية في العقل المسلم" أن أي محاولة بسيطة لاستقراء الخلاف حول المفاهيم والممارسات والأشكال منذ عهد الصحابة الأوّل في شقيقة بني ساعدة، وتحليل ما دار من الحوار والمناقشة والآراء المتباينة، شاهد على أنها طريقة في الإدارة التي من طبيعَتها التطوُّرُ، ومنوطة بالعقل شريطةَ أن تنضبط بالشورى والعدل والأهلية والمساواة.. والقيم الأخرى الضابطة للمسيرة والهادية إلى الرُّشد؛ وهو ما يعني أن "الاجتهاد في إدارة الحكم لتحقيق المصالح ودرء المفاسد يجري عليه الخطأ والصواب، والأخذ والرّد، والقَبول والرّفض، والتّغيير والتّبديل لأنه في نهاية المطاف فعل بشري يتميّز عن غيره بالالتزام بالقيم كدليل عمل ومعيار فعل وإطار مرجعي، وضابط منهجي". حاكمية تحرّرُ البشرية يستشهد الناصري بمجموعة من الآيات التي تنسب فعل الحكم إلى البشر، مثل: "وداوود وسليمان إذ يحكمان في الحرث.."، و"ففهّمناها سليمان وكلا آتَينا حكما وعلما"، و"إذا حَكَمتُم بين الناس أن تحكموا بالعدل"..، ليستدلّ على كون الحاكمِ مجتهدا سواء على مستوى التقاضي وإدارة الخصومة والفصل بين المتخاصِمين أو على مستوى الدولة وإدارة شؤونها، وليس متحدّثا باسم الله، ولا ظِلّا له.. بل هو بشر من البشر بكل ما تعنيه هذه البشرية من أبعادٍ في مقدّمَتِها جعلُه محلّا للمحاسبة. كما أنه على قدر اتباع الإنسان وتحاكُمه إلى حاكمية الله التشريعية وإرادته الدينية يكون الانسجام والتوافق والتجاوبُ مع الكون من حوله الذي يخضع بدوره لإرادة الله. ويرجّح الكاتب أن يكون مردّ هذا الخلاف والتباين والتشاكس والاختلاف والاحتراب والصراع أنّه لم يؤثَر بيان نبوي محكم ملزم، أو سنة راشدة واضحة في تحديد أبعاد الأمر بدقة، وإنما كانت ساحة الأمر ولا تزال محلا للاجتهاد الذي يجري عليه الخطأ والصواب والذي يأتي في معظم الأحيان ضمن السياق التاريخي ونوازل الناس وتنازع الفرق والأحزاب وصراعها ومحاولة توفير الغطاء الشرعي لذلك الاجتهاد من الكتاب والسنة، وبسبب جهل العديد من قادة الحركات الدينية أصول الخطاب القرآني، وِفْق قراءة الناصري، حوَّلوا عالمية الإسلام إلى مجتمعات الانغلاق غير القابلة للتعايش مع غيرها، ففشلوا في التعايش، إلى جانب أن ادعاء منطق الحاكمية الإلهية قد شوَّه مفاهيم الدين وأوجد حالة من الانفصام ما بين المسلم ودينه حين لا يتقبّل حالات التعصّب والمغالاة والفُرقة وإسقاط حقوق الغير، وبين المسلم ومجتمعه حين قَبولِه بهذه المقولات الزّائفة على علّاتِها ظانّا أنها من صلب دينِه. ويشدّد محمد الناصري على أنه على الرغم من أن القيم الحاكمية في الإسلام بكل أبعادها متأتية من الوحي، فإنها حاكمية تُحَرِّرُ البشرية وتُخرِجُها من تسلّط أي أحد باسم الحقّ الإلهي، كما تعطي للإنسان قدرة مستمرة على تجديد الأحكام من خلال تعامل الأجيال القارئة مع القرآن، وهي حاكمية تتّسع فيها دائرة "التصرّف البشري" بالقدر الذي تتّسع به مدارك الإنسان ومفاهيمه، وتتغيَّر استنباطاته بالقدر الذي تتغيَّر به الأزمنة والأمكنة وصولا إلى تأصيل "منهج الهدى ودين الحق".