في ظلّ حيرة وذهول عالميين بعد تفجير مسجدين في جنوب نيوزيلاندا وبعد العمليات الإرهابية التي استهدفت كنائس في سريلانكا مؤخراً، تطرح مجدداً مسألتين في غاية الأهمية والإلحاح على بداهتهما، الأولى - أن الإرهاب لا وطن له ولا دين ولا قومية ولا لغة ولا منطقة جغرافية ولا يمكن مجابهته بالوسائل العسكرية والأمنية لوحدها. والثانية- الحاجة إلى التربية على السلام واللّاعنف، وبقدر ما يشمل الأمر المجتمعات فإنه يشمل الأفراد أيضاً، فالتطرّف وهو وليد التعصّب إذا ما انتقل من التفكير إلى التدبير وأصبح سلوكاً سيتحوّل إلى عنف، والعنف حين يضرب عشوائياً ويستهدف خلق الرعب والفزع في المجتمع يستهدف إضعاف ثقة الناس بالدولة والقانون، وعندها يصير إرهاباً ممتداً على مساحة جغرافية واسعة من العالم. وعلى الرغم من الجهود المبذولة لتعزيز التزام الدول والمجتمعات بنشر ثقافة السلام ورفع الوعي بأهمية اللّاعنف، إلّا أن ما قامت به الدول والمجتمعات والمنظمات المعنية على اختلافها ليس بالمستوى المطلوب، حيث تفشّت ظواهر العنف والإرهاب في جميع المجتمعات، وكانت الهجمات الإرهابية التي وقعت في الولاياتالمتحدة في 11 شتنبر2001 محطة أساسية وغير مسبوقة للوقوف عند الخلل الذي تلمّسه المجتمع الدولي إزاء نقص الوعي بأهمية وضرورة التربية على قيم السلام واللّاعنف، وكان ما أعقب ذلك من أعمال إرهابية اتخذ أشكالاً مختلفة ووسائل متنوّعة ، شملت العالم أجمع بما يلقي مسؤولية كبرى على الدول والمنظمات الدولية، ولاسيّما الأممالمتحدة لتعميم ثقافة السلام واللّاعنف، وتعزيز مستلزمات تعميق الوعي بأهميتها من خلال وسائل تربوية وتعليمية حديثة ومتطورة تسهم في تعزيز القيم الإنسانية . ويتطلب ذلك وجود استراتيجية ذات بعد إنساني في تعزيز الجهود الرامية للتربية على السلام واللّاعنف، ولاسيّما حين تكون الأدوات المعرفية مقترنة بالأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، الأمر الذي تحتاج إلى ربط التعليم بعملية التنمية المستدامة، والتربية بقيم التسامح والسلام واحترام حقوق الإنسان، وذلك بتنقية المناهج الدراسية ورفع كل ما يتعارض مع هذه القيم وإيلاء الاحتياجات الضرورية للمجتمعات من أجل مواجهة التحدّيات، خصوصاً بتدريب المعلمين وتأهيلهم في إطار مناهج جديدة تستجيب لروح العصر وتنبذ كل ما له علاقة بالكراهية والعنصرية والعداء للآخر الذي هو بشر لا أكثر ولا أقل مثل غيره له الحقوق وعليه الواجبات ذاتها. ولا بدّ لعملية التربية على السلام واللّاعنف من تعزيز المعارف والمهارات وتعميق القيم والمثل الإنسانية لإحداث تغييرات في سلوك الأطفال والشباب وأسرهم وعموم الناس لمنع حدوث الصدام والعنف والسعي لحل الخلافات بالوسائل السلمية، سواء على صعيد الأفراد أم الجماعات أم الحكومات والدول. وقد انشغلت اليونسكو بالعديد من الأنشطة الرامية إلى تعزيز ثقافة السلام واللّاعنف، وذلك بمعالجة قضايا العنف المدرسي وإدماج حقوق الإنسان والتربية على السلام في البرامج الوطنية وسعت لبناء القدرات والتعليم في حالات الطوارئ، إضافة إلى إعادة البناء في المناطق التي تعرّضت للحروب والنزاعات. ولعلّ من مستلزمات التربية على السلام وتعزيز ثقافة اللّاعنف الاهتمام بالمتلقين والمتعلمين وبالمحتوى والوسائل والبيئة التعليمية، إضافة إلى اختبار النتائج والعمل في ضوئها، وبخصوص بيئة التعليم فإن الرياضة والفنون والآداب وتنمية المواهب تلعب دورها في ترسيخ ثقافة المشترك الإنساني والتواصل مع الآخر. وكانت قد تأسست جامعة دولية للسلام وأعدت برامج تتعلّق بالقانون الدولي وتسوية النزاعات ودراسات السلام الدولي وثقافة السلام والأمن الإنساني والثقافي والفكري والبيئي والغذائي والصحي وغير ذلك، وتزداد الحاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى للاستثمار في التربية على السلام واللّاعنف، وذلك بتعزيز الطرق التقليدية في تسوية النزاعات وفتح قنوات جديدة للتفاهم من خلال الفنون والآداب بمختلف أشكالها، وتعزيز الحوار سواء على الصعيد المحلي أم على الصعيد الدولي بما فيه ما أقرّته الأممالمتحدة تحت عنوان : الحوار والمصالحة، خصوصاً بالإقرار بالتنوّع والتعددية والحق في الاختلاف. وعلى الرغم من معاناة العالم العربي من التعصّب والتطرّف والعنف والإرهاب، فثمة وجه ثقافي للمقاومة باللّاعنف وهو تعزيز ثقافة السلام والتسامح، حيث تم إنشاء جامعة للّاعنف وحقوق الإنسان، العام 2009 في لبنان، في إطار العقد الدولي لثقافة السلام واللّاعنف (2001-2010)، وهو الذي ورد في قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 53/243 في 10 نونبر لعام 1998 بمبادرة من اليونسكو التي ستحتفل بالذكرى ال 20 لهذه المناسبة المهمة، وكان من برامجها واختصاصاتها التربية على اللّاعنف وفلسفة اللّاعنف وثقافة اللّاعنف ومسرح اللّاعنف، واللّاعنف وحقوق الإنسان واللّاعنف والقانون الدولي الإنساني والأديان واللّاعنف والإعلام واللّاعنف وحلّ الخلافات باللّاعنف. ولأن منطقتنا الأكثر ضرراً من العنف والأكثر تأثراً به، خصوصاً وهي تعاني من احتلال وحروب ونزاعات طائفية وإثنية واحترابات محلية، كما يحصل في اليمن وسوريا وليبيا والعراق، ناهيك عن فلسطينالمحتلة إضافة إلى تداخلات إقليمية ودولية، فإنها ينبغي أن تكون الأكثر انشغالاً بفكرة اللّاعنف حيث تحتاج منطقتنا إلى الوقاية مثلما تحتاج إلى الحماية وأخيراً إلى معالجة تركة الحروب والنزاعات، بحيث تولى التربية والتعليم الأهمية التي تستحقها . *باحث ومفكر عربي