تأتي هذه اللمعة في سياق أحداث متتالية لم يكن الوقت يسمح حينها بالكتابة، ولا بأخذ مسافة منها للتفكير فيها بتحرر من ضغطها واستبانه ردود الأفعال التي خلفتها. على رأس تلك الأحداث اللقاء التاريخي بين رمزيتين دينيتين لهما حضور وتمثيل عالمي: إمارة المومنين، والمسلمين المنضوين تحت لوائها في العالم، بالإضافة إلى أتباع الديانتين اليهودية والمسيحية في المغرب، باعتبارها راعية لحقوقهم وشعائرهم الدينية؛ والبابوية الكنيسة، والمسيحيين الكاثوليك المنضوين تحت لوائها في العالم كذلك. وإذا أردنا أن نختزل دلالات هذا اللقاء في كلمات لقلنا إنها: دعوةُ مَن في العالم إلى قيم السلم والمحبة والتعايش، ونبذ الكراهية والبغض والحروب. والتحرر من خلفيات الخصام التي تتغذى على أحداث من الماضي، من أجل مستقبل تسوده مبادئ وقيم الوئام التي تحفل بها الأديان. فإذا عجزت السياسات المحكومة بالمصالح المنتجة للحروب عن التقريب بين الشعوب، فلم لا تضطلع الأديان من جهتها بهذه المهمة وهي الأوفر حظا والأكثر تابعا؟ حيث يتوجب تحريك موقعها من الخلف إلى الأمام، ومن هنا أهمية الصفة الدينية لهذا الحدث؛ ثم تحريرها من عوائق الفهم والتواصل ورواسب الماضي، بما يجعل المدخل الائتلافي فيها مقدما على الخلافي، ومنظومة القيم المشتركة فيها مقدمة على الأحكام المختلفة التي تخص كل ديانة على حدة. لقد كان، ولا يزال، هذا الدور المنوط بالأديان من أجل ترشيد سلوك الإنسان، حلما وطموحا اشتغل عليه فلاسفة ومفكرون، ويكفي أن نذكر منهم أبرزهم من المتأخرين اللاهوتي الكبير هانس كينغ، الذي رشح المسيحية إلى هذا الدور، والفيلسوف المغربي الكبير طه عبد الرحمن الذي رشح الإسلام للدور نفسه، وتعقب أطروحة كينغ في كثير من جوانبها منوها ومنتقدا. ورأيي هو ما أشارا إليه كذلك من ضرورة تفعيل المشترك بينهما والتنويه به، والتزام أتباعهما بالقيم الضرورية للحياة المشتركة، كل من مرجعيته الدينية في جوانبها الملهمة والموجهة. أهمية ورمزية هذا الحدث وضرورة الالتفاف على القيم الدينية التي يدعو العالم إليها، يمكننا أن نفهما من خلال عدة أحداث لا تزال آثارها حاضرة وحيَّة بيننا. من ذلك أنه جاء مباشرة بعد الحدث الإجرامي الشنيع في نيوزيلاندا والذي ذهب ضحيته خمسون من المسلمين، نحسبهم شهداء عند الله تعالى؛ والذي نفذ الجريمة يميني مسيحي متطرف وحاقد، تدل على ذلك كتاباته على الأسلحة واستحضاره للتاريخ ولمحطات وأحداث بعينها فيه، أي أنه كان على "وعي" بما يفعل. ويقينا، فهذا "الوعي" لا يحمله بمفرده بل كل التيار الذي ينتمي إليه، والذي نجده أحيانا، للأسف، ممثلا في أحزاب سياسية أو حركات احتجاجية أو جمعيات ثقافية أو غيرها. كما أننا لمسنا بالمقابل يقظة لضمير إنساني مسيحي، متضامن ومؤمن بحق الغير مثل إيمانه بحق نفسه، في الصور الإنسانية الجميلة التي تابعناها، من التطوع لحراسة المسلمين ومساجدهم، ورفع الآذان في القنوات والمساجد، وتنكيس العلم، والحضور الكثيف في جنائز الشهداء...الخ، سواء كان ذلك من المسؤولين أو من عامة المواطنين. أعتقد أن هذا الحدث الذي حمل صورتين مختلفتين تماما: إحداهما غاية في الجرم والبشاعة، والثانية غاية في النبل والتضامن؛ يدعونا إلى أحد اختيارين: إما الاستمرار في خطاب الاحتقان والحقد والكراهية، الحريص على استحضار مفردات الصراع التاريخي وإن تقادمت وكانت لها ظروفها التي تبررها؛ أو طي هذه الصفحة لفائدة خطاب السلم والمحبة والتعايش من أجل المستقبل. الاختيار الأول لن نجني منه إلا المزيد من الصور البشعة والجرائم الإنسانية في حق المسلمين أو المسيحيين أو الأبرياء عموما. وعلى دعاته من المسلمين، أن يستحضروا أن مئات الملايين من المسلمين أي أضعاف مضاعفة لما هو موجود في عالمنا العربي، يعيشون في الغرب وفي آسيا، أي في دول غير مسلمة وتدين بديانات مختلفة، ففي أوربا مثلا أزيد من 25م من المسلمين، وفي الهند 170م، وفي الصين حوالي 120م، وفي روسيا حوالي 30م.، وهي أرقام لا توجد في كثير من بلدان المسلمين ولو مجتمعة. كما أن المسلمين في تلك الديار يحتلون المرتبة الثانية دائما دينيا وديمغرافيا. فكيف لا يُراعى هذا الوجود الإسلامي في العالم؟ وكيف يُفتي مفت أو يخطب خطيب انطلاقا من فقه لواقع وسياق مختلف بما يحرض ضد هؤلاء ويؤلب عليهم؟ وأين هذا من موقف الشرع في حق وحرية التدين ومسؤولية الناس على اختياراتهم؟ ومن الجدال بالتي هي أحسن؟ ومن البر بالمخالفين والقسط معهم ما داموا غير مقاتلين. وأين هم من سماحة النبي صلى الله عليه وسلم حينما زاره الوفد النصراني من نجران واستقبلهم في مسجده وأذن لهم بالصلاة فيه، وقد كان في موقع قوة وكانوا في موقع ضعف والآية معكوسة اليوم؟ أين هم من الموقف النبيل لأم سلمة رضي الله عنها، وقد كانت ضمن الهجرة الأولى التي عقد هذا اللقاء التاريخي والرمزي تيمنا بها، طلبا للسلم والعدل في العالم، حينما قالت لمن سألها عن مقام المسلمين في الحبشة وأهلها على النصرانية: "كنا في خير دار عند خير جار". وقبل ذلك قول الرسول الكريم عليه السلام: "اذهبوا إلى الحبشة فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد" وهو على نصرانيته، اعتبارا لقيمة العدل المشتركة. وقوله في حلف الفضول "لو أني دعيت به في الإسلام لأجبت" اعتبارات لقيمة التضامن ونصرة المظلوم. لم يمنع اختلاف الملة والدين من العدل والإنصاف، ومن الاعتراف بالحقوق والحريات وصون الكرامة والمعتقدات، وكان هذا من المسلمين وهم في عز القوة والتمكين. وهذا دستور المدينة من أقوى الحجج في الباب حينما جعل من أهل الكتاب (اليهود خاصة) "أمة" مثل أمة المسلمين، لها ما لها وعليها ما عليها. وإذا قلنا هذا في حق ما ينبغي أن يكون من المسلمين تجاه غيرهم، فإننا نقول مثله في حق ما ينبغي أن يكون من المسيحيين تجاه غيرهم كذلك. إذ ينبغي ألا يغيب عن التطرف المسيحي، اليميني الإنجيلي منه خصوصا، أن مئات الآلاف، والملايين من المسيحيين موجودون في العالم الإسلامي، وأن نفتَ سموم الحقد والكراهية والاعتداء على المسلمين، لن يولد إلا عنفا وكراهية مقابلة له. وأن الأجدر بهذه التيارات المسيحية تفعيل قيم المحبة والأخوة والتضامن والعفو والصفح والسماحة...، المقررة في تعاليم ووصايا المسيح عليه السلام. أي أن أصحاب الديانتين معا مطلوب منهما تحريك المساحة المشتركة بينهما من القيم أولا، أما ما اختلف فيه وحوله من أحكام واعتقادات فيخص كلا منهما على حدة. وعلى رأس هذا المشترك منظومة القيم التي تحتاجها الإنسانية في هذا العصر وهي تعيش حالة من الاقتراب من بعضها، والتداخل بين شعوبها، ووحدة قضاياها، ما لم يكن له مثيل ولا نظير سابق. وكل ذلك يستدعي تفعيل مفردات دينية مهمة، والرفع من منسوبها إلى أقصى درجة ممكنة، هي من الفقه والفكر الواجب في هذا الوقت، مثل: التعارف والتدافع وتدبير الاختلاف والسماحة والتراحم والتعاون على الخير مع الغير أيا كان... هذا اللقاء التاريخي بين المرجعيتين الدينيتين، والتقارب الكبير الحاصل بينهما، من دلالاته كذلك العمل على تجاوز محطات الصراع والصدام التاريخي الذي كانت له ظروفه وسياقاته، والذي لا يزال يغذي مخيال كثير من المسلمين والمسيحيين على حد سواء. حيث يستحضر المسلمون الغزو الصليبي، كما يستحضر المسيحيون الغزو الإسلامي. والمفروض أن هذه المحطة من العلاقات التي كانت مبنية على واقع إمبراطوري مفتوح ليس له حدود إلا تلك التي تفرضها الحرب، قد انتهت وانتهت معها كثير من اصطلاحاتها ومفرداتها التي نشأت في سياقها، مثل (دار الحرب والسلم، والكفر والإيمان... وغيرها) لدى الطرفين معا. وأن نظام الدولة الحديثة بحدودها المجالية، وهوياتها الدينية والثقافية، والقوانين الدولية المنظمة، تحول دون ذلك اليوم. وإن انتهكها منتهك فذلك عدوان ينبغي أن تتضافر الجهود لدفعه. وقد يقول قائل: هل بالإمكان فعلا تجاوز تلك المحطات والتحرر من خلفياتها؟ أقول نعم. وإلا سقطنا في منطق الحتمية التاريخية، وليس التداول التاريخي بين الناس. فالحجة والبرهان في آيات الكتاب لا في أحداث التاريخ. وهذه أوربا دخلت دولها حديثا في حربين عالمتين هلك فيها ملايين الناس، وخلفت خرابا ودمارا لا يوصف، وها هي اليوم تتجاوز ذلك وتتوحد على كل المستويات. بل وتتصدر الحضارة فيها، والإبداع العلمي والتقني والفلسفي، دولة مثل ألمانيا لم تُبق فيها الحرب شيئا وقادتها شمولية نازية عرقية بجنون، حيث تحررت من كل ذلك واستحالت خلقا آخر. فأين يمكن أن تتجلى الحكمة، في محطة صلح وتقارب وتعاون تراعي المصالح المشتركة بين المسلمين والمسيحيين في العالم، أم في استحضار محطات الصراع والتشبث بمفردات عفا عنها الزمن، والتي تُجيش العقول والقلوب وتملؤها حقدا متبادلا، حتى إذا وقعت واقعة، لا قدر الله، نذب هؤلاء أو أولئك حظهم واستعدوا للرد عليها بمثلها أو أكثر. وكما هو مطلوب تجاوز أحداث من التاريخ الماضي، تعمل على استدامة حالة الصراع بين الطرفين، مطلوب كذلك تجاوز أحلام وطموحات المستقبل التي تلعب الدور نفسه. مطلوب في الجانب الإسلامي مثلا تقويم اختلالات تيارات الغلو لديه بتجاوز حلم استرجاع "الخلافة" كما كانت في الماضي بكل لواحقها التي صاحبتها، حتى الإماء والعبيد ومظاهر الرق التي أعلن الإسلام مشروعه التحريري للقضاء عليها؛ حيث تخوض تيارات الغلو في الإسلام حروبا تبيد فيها أنفسا، وتهتك فيها أعراضا، وتعتدي على حرمات صانتها الشريعة وجعلتها من كلياتها، في فهم معكوس للدين يجعل أصوله فروعا وفروعه أصولا. مطلوب كذلك من الجانب المسيحي تقويم اختلالات تيارات الغلو لديه بتجاوز حلم وطموح تحقيق "النبوءات" بطقوسها المختلفة، التي حشدت لها نصوصا فرعية معظمها دخيل على الفكر المسيحي نفسه، والتي تقسم العالم إلى مؤمنين وأشرار وتبشر بالحرب العظمى، مخالفة بذلك نصوصا كلية هي صلب الرسالة وروحها في الأخوة والمحبة والعفو والصفح والبر والإحسان والرفق واللين... وغير ذلك مما تقدم. من الأحداث التي واكبها هذا اللقاء التاريخي، ما يحدث للقدس من تغيير معالمه وهويته الدينية والتاريخية لجعلها هوية يهودية وحيدة، وفرض واقع سياسي جديد بنقل السفارات والتمثيليات الدولية، والإمعان في إضعاف مواقف المحيط الإسلامي، والتوسع المستمر بإقامة المستوطنات واحتلال المزيد من الأراضي، وتهميش الوجود والحضور المسيحي ومعاناته كذلك...إلخ. في هذا السياق يمكن النظر إلى "نداء القدس"، نداء إسلاميا مسيحيا مشتركا ومتساندا، أقوى من كثير البيانات والنداءات، وأكثر رمزية ودلالة وقوة في المنتظم الدولي؛ حينما يصدر من مرجعيتين دينيتين عالميتين: إمارة المومنين الممثلة للمسلمين والتي ترأس لجنة القدس، والبابوية الممثلة للمسيحيين سواء في القدس نفسها، أو في البلدان التي تمارس سياسة الضغط والاكراه وتغيير الواقع الديني والتاريخي. أما مجرد رفع شعارات دون النظر الى موازين القوى المتحكمة، فإنها تبقى مجرد شعارات لا غير. من دلالات هذا اللقاء التاريخي، في الزيارة إلى معهد تكوين الأئمة المرشدين والمرشدات، الإشارة إلى أن محاصرة جيوب الغلو والتطرف، والنزوع الحرفي الظاهري أو التأويلي الباطني، في التعامل مع النصوص الدينية؛ إنما يكون بالعلم والمعرفة وبالتربية على القيم ومكارم الأخلاق. كما يكون بالرفع من منسوب الوعي المسلح بالمنهج والحس النقدي الذي يزن سليم الرأي من سقيمه، ويدرأ الشبه في الفكر قبل أن تتحول الى غلو وممارسة في السلوك. إننا في هذا المعهد أمام ظاهرة استثنائية في المغرب، تؤكد فعلا "الاستثناء المغربي"، وتعمل على تخريج أجيال من القيمين والفاعلين الدينيين في صفوف الرجال والنساء معا، تستدرك على ثغرات التدين المغشوش فتصلحها، وعلى اختلالات الفهم فتقومها، وعلى تنوير عامة الناس بما يجب عليهم في تدينهم، ويحفظ وحدة صفهم وأمنهم واستقرارهم الروحي، وبما هو طارئ دخيل على ذلك يثير الفرقة والخلاف بينهم. فتلك نعمة ينبغي أن تُحمد وتُشكر، وذلك سبق مغربي اضطلعت به إمارة المومنين في تكوين أطرها الدينية، وإرسالها في الناس تدرأ الفتنة عنهم؛ بحيث تَجنب المغربُ عواصفَ الخلاف والتنازع الديني التي عصفت بالأمن الروحي، وبوحدة واستقرار كثير من البلدان. فكثير من المتتبعين للشأن الديني لا يدركون أن ثمة عملا عميقا منتظما، صامتا في معظمه، ينطلق من عمق الوحدات الصغرى في بنية التدين المغربي المتمثلة في الأفراد أعيانا، الى وحداته الكبرى المتمثلة في مؤسساته وأدائه الجمعي، وذلك على صعيد الوطن والأمة تكوينا وتأهيلا وتأطيرا. ويكفي أن نذكر هنا مؤشرا واحدا هو أضخم ملتقى تكويني وتأهيلي في العلوم الشرعية، يعرفه المغرب منذ ما يقارب العقد من الزمن وليس له نظير في عالم المسلمين؛ يستهدف حوالي 56 ألف إمام مرتين كل شهر، ويؤطرهم حوالي 1400 مؤطر، ويساعدهم مثلهم من الأئمة المرشدين خريجي هذا المعهد، وتُنجِزُ فيه بطاقات التكوين نخبةٌ من العلماء المتمرسين. فذلك جزء من رسالة المعهد في سعيه الى ترسيخ قيم التدين الوسطي المعتدل، من خلال اختيارات المغرب المذهبية التي جمعت محاسن ما تفرق في غيرها من المذاهب. وذلك ما جعل أفئدة كثير من الطلاب من بلدان العالم من أوروبا وإفريقيا تهوى اليه، وما جعل وفودا من أصقاع العالم تزوره للتعرف عليه. وتبقى زيارة القيادتين الدينيتين إليه تعريفا لمؤسسة البابوية الكنسية على أحد أهم منجزات إمارة المومنين المتفردة في هيكلة وتأهيل الحقل الديني وجعله مواكبا لروح العصر، وباعثا على الأمن والطمأنينة، ومؤمنا بقيم السلم والسماحة بين المتدينين وبالمشترك بين الأديان. وما أحوج كثير من البلدان الغربية والشرقية الى نظير لهذه المؤسسة في التكوين وإعادة التأهيل، من أجل وعي يحاصر الغلو والتطرف باسم الأديان في المسيحية واليهودية والهندوسية وغيرها، ويحد من الإساءة الى المقدسات، ومن الميز العنصري والعرقي، ومن الصور النمطية...، وغير ذلك. فتلك رسالة من المغرب ومن رمزيته الدينية إمارة المومنين، بحضور الرمزية الدينية المسيحية ذات التأثير الأكبر في العالم، إلى أن هذا المسلك هو أنجع المسالك في نبذ العنف والتطرف وتقويم الاختلالات الفكرية، وسحب بساط "الشرعية الدينية" من تحت أقدام الأصوليات المتشددة في الأديان كلها.