"إن المصالح الفرنسية، ثقافية كانت أو اقتصادية ستحترم" من بيان أول نوفمبر 1954 تابعت بعض الكتابات والتصريحات التي أعقبت الانتخابات النيابية المغربية، والتي حاز فيه حزب العدالة والتنمية المرتبة الأولى، كما هو معروف. وقد صدرت تلك التصريحات، بصفة خاصة، عن بعض النخب التي قدمت نفسها، منذ ما يزيد عن نصف قرن من الزمن لشعوب هذه الأقطار، إما كمُنظّرة لها باعتبار تنظيرها السبيل الوحيد نحو الرقي والتقدم، و"الالتحاق بركب الحضارة" وفق معايير العصر والعصرنة؛ هذه العصرنة التي عدها كثير من هذه النخب تيارا كاسحا أن لم تعمل على تبيئته في محيطك بإرادتك جرفك دون إذن منك، وإما بزعمها، أي النخب، أنها الأجدر والأقدر على توجيه القيادة السياسية ل"الدولة "الوطنية" الوليدة وفقا للفلسفات السياسية المعاصرة وأنظمتها القائمة على الولاء لمؤسسات الدولة وليس للأشخاص كما كان الأمر في الأنظمة التقليدية البالية، وإما أنها اصطفت وراء متزعمي الانقلابات العسكرية التي سادت جل الدول العربية غير الخليجية البترولية بتقديم نفسها بأنها طليعة تلك الشعوب، والمرجع الفكري للعسكر، متبنية شعارات الانبعاث العربي، واسترجاع فلسطين، وتحقيق القومية العربية، إلى غير ذلك من الشعارات التي حفل بها المعجم السياسي والإعلامي لدى أنظمة جامعة الدول العربية مشرقها ومغربها. وكان أهم قاسم مشترك بين المنتمين إلى هذه النخب هو اعتقادهم الراسخ، إلى درجة اليقين الدغمائي، بأنهم هم وحدهم من يمثل الضمير الحي لشعوبهم، والرؤية المستقبلية الواعدة بأسباب الخروج من التخلف السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وأنهم المعول عليهم دون غيرهم على تحقيق هذه الطموحات والقطيعة مع عصور التخلف الحضاري، وتمكين الشعب على ممارسة الحكم. فماذا تحقق من هذه الشعارات وهذه الوعود بعد أكثر من نصف قرن؟ الجواب النهائي قدمه حراك الشارع وثورات الشباب، ومفاده أن الأنظمة العربية بنخبها والمستفيدين من ريعها تجاوزت أنظمة الاستبداد الشرقي القديم بدركات كثيرة بتوظيفها لوسائل القمع الجديدة، وبخاصة وسائل البوليس السياسي الذي أنشأه الاستعمار في مجتمعاتنا كي يسلطه على الوطنيين الأحرار، فأصبح في زمن حكام دولة "الاستقلال" مسلطا على المطالبين بحقوقهم الطبيعية المشروعة، والمحتجين الاجتماعيين، والمختلفين معهم في الرؤية السياسية والثقافية. وبدل أن يقف أولئك "المنظرون" موقفا نقديا من أنفسهم أولا ومن الجهات التي ساندوها لمدة تزيد عن نصف قرن ثانيا، بهدف البحث عن مواطن الخلل في تنظيرهم الذي أوصل شعوبا عربية كاملة إلى حافة الإفلاس السياسي، وإلى الوضع المعيشي الذي يزيد الفقراء بؤسا وفقرا، ويوسع الهوة بينهم وبين الأغنياء الذين يزدادون غنى بتكديس الثروة بشكل لا يستند إلى أي مشروعية أو شرعية قانونية، والبحث بالتالي عن تقديم اقتراح حلول سياسية واقتصادية لمجتمعهم، مع مرونة ثقافية تكون قادرة على زرع الأمل الحقيقي في النفوس وليس التخويف غير المبرر من منح الشعب، الذي لم يستطيعوا إقناعه بشعاراتهم طيلة عقود من الزمن، الثقة لتيارات سياسية أخرى لطالما بقيت مقموعة بسبب مركزي هو اختلافها المرجعي الثقافي. راح هؤلاء المنظرون المتهمون من قبل خصومهم بأنهم شركاء الحكام ليس في تبرير الاستبداد والفساد وفرض تبعية ثقافية فحسب، بل في حصر مفهوم الدولة وربطه بكامله بهؤلاء الحكام وحدهم، وليس بمؤسساتها التي تضمن استمرارها، واستمرار وحدة الوطن بعد زوال الحكومات والحكام، طبقا لما هو متعارف عليه في الأنظمة الديمقراطية القائمة على التداول على السلطة، وليس على امتلاك الدولة بطريقة القذافي ومن شابهه، وما أكثرهم. وقد ميز ابن خلدون، منذ زمن بعيد، بين الدولة وهي الحكومة في زمانه، التي خلص إلى أن زمانها الفزيائي لا يتجاوز في التجربة التاريخية للعرب والبربر، وفي كل الأحوال، أربعة أجيال، وبين المُلك، أي الدولة في ثقافتنا الحاضرة، الذي يوجد قبل الحكومات المتعاقبة ويستمر بعدها، ويبني الحضارة. وهذا المفهوم الضيق للدولة أمر خدم، بلا شك، الحكام المستبدين من أجل الاستئثار بالدولة وبالثروة الوطنية بتواطؤ سافر من هذه النخب. لكن بعض هذه النخب عوض أن تراجع نفسها والفساد الذي ألحقته بوظيفتها المفروض أنها تقف إلى جانب الحقوق المشروعة للشعوب أمسى دورها لا يختلف عن دور فقهاء السلطان المبررين لسلوك السلاطين والأمراء، فقد عملوا كل ما وسعهم لتسويغ ممارسات الحكام المنافية لقيم الحرية والعدالة والكرامة التي قيل أنها مبادئهم في الحياة ومنطلقاتهم لتحرير شعوبهم من التخلف وثقافة القرون الوسطى الظلامية !!! حين رأت هذه النخب المتواطئة مع أنظمة الفساد والريع السياسي والاقتصادي والمتبنين لمناهج فكرية وثقافية مدفوعة الثمن والشهرة، أن الشعب قد سئم من أدوارهم ومن وعودهم العرقوبية، التي لا تشرف الفكر الحر وقيم المواطنة المنشودة، راحوا يماثلون آراءهم في المختلفين معهم مع نظرية (لومبروزو Lombroso) في الإجرام، التي تفيد "أن المجرم إنسان بدائي بطبعه ودوافع الإجرام ونوازعه توافرت عنده وراثيا، وأنه مطبوع على الإجرام مهما يتم ثنيه عنه عن طريق التربية". وتماشيا مع استنتاجات مماثلة لهذه القراءة القبلية للوقائع والظواهر السياسية، ذهب الكاتب المصري عبد الحليم قنديل إلى القول إن "الثقافة التي يحملونها (أي الإسلاميون) معادية بطبيعتها للتغيير والتنمية والتحديث"، نلاحظ جيدا عبارة "بطبعها". مما قد يعني ليس فقط تطبيق نظرية لمروزو في جانبها الثقافي والسياسي، بل تشير إلى ضرورة استعداء الجيش على الإسلاميين على الطريقة الجزائرية في 1992، قبل أن يؤيده كاتب مصري آخر هو جمال الغيطاني بقوله "أرى أن فوز الإخوان والسلفيين نكسة كبيرة للمجتمع ... وأن برامج تلك الأحزاب تتناقض مع مبادئ الديمقراطية والحرية " ثم وصل بعد ذلك إلى ما اعتبره مطلبا ملحا وهو "على الجميع تحمل المسؤولية"، بالإشارة إلى ضرورة تحمل الجيش لمسؤوليته. ويسير في الاتجاه نفسه الناقد المعروف، وزير الثقافة في آخر حكومة لمبارك، جابر عصفور، حين يقرر أنه يختلف عن الكثيرين المتشائمين من صعود الإسلاميين قائلا "لا أعتقد أنهم سوف يصلون للحكم في يوم ما"؛ وهو تصريح يكاد يكون نسخة متطابقة لتصريح جنرالات الجيش الجزائري بعد فوز حزب إسلامي في أوائل التسعينيات بالانتخابات التشريعية . (عن المصري اليوم أون لاين، بتاريخ 5 12 2011). نترك مصر لأهلها ليحددوا علاقتهم بأهرامهم وبالموميات الموجودة في داخل أقبيتها، فلنحول نظرنا إلى ما يوجد في كهوفنا، التي زعم البعض أنها في طريقها لولوج عصر "الحداثة" بتحويلها إلى عمارات تتلألأ بالأنوار الساطعة كما "موروكو مول"، لكن الكاتب الفرنسي، ذي الأصول المغربية، الطاهر بنجلون يبدو أنه حزين بوصول حزب لا ينتمي إلى قيم الحداثة المتلألئة في كتاباته إلى رئاسة الحكومة، بفضل اختيار صناديق الانتخاب له دون غيره. فقد هاجم الروائي هذا "الحداثي" في حوار مع راديو فرانس الدولي، (الأربعاء 30 نوفمبر المنصرم،) هاجم الأمين العام لهذا الحزب واصفا إياه ب"الشعبوي"، وبأنه معادي للحريات الفردية، ويخشى أن يحرم مستقبلا المغني جون إلطون، ومن على شاكلته، من إحياء حفلاته في المغرب. لكن بنجلون عبر من جهة أخرى عن سروره لأن الملك لايزال يحتفظ بسلطات واسعة في الدستور الجديد، قبل أن يعلن أن "مكان الإسلاميين المسجد وليس الحكم". ونسى صاحب جائزة كَنكور Goncourt الفرنسية أن الشأن الديني في المغرب من مشمولات اختصاصات الملك دستوريا وبصفته أمير المؤمنين. لكن الباحث في علم الاجتماع السياسي محمد الطوزي، الأستاذ بجامعة إيكس أونبروفانس (Provence -en-Aix) الفرنسية ذهب في حديث مع "أنباء موسكو"، نشره موقع "هسبريس" بتاريخ 5 12 2012، إلى أبعد من ذلك جاء فيه "مؤلم جدا على المستوى العاطفي أن يقبل الملك بتقاسم الحكم مع الإسلاميين، فالكل يعرف أنه يكرههم". وإذا كان الألم مسألة عاطفية شخصية فيمكن أن يكون لصاحبها بعض العذر لأن الموضوع يخصه هو وحده، أما أن يقول بصيغة المتأكد أن الملك يكره الإسلاميين الذين هم جزء من شعبه، وهو ملك جميع المغاربة وأمير المؤمنين بنص الدستور، الذي شارك السيد الطوزي في إعداده، فإن المغاربة لا يعلمون بوجود ناطق رسمي باسم الملك مذ غادر الأستاذ حسن أوريد هذا المنصب. ولهذا سيكون من الأنسب أن يعرف الشعب المغربي هل ما قاله السيد الطوزي يعبر فعلا عن رأي جلالة الملك في جزء من شعبه حتى لو كان هذا الجزء مجرد حزب يمارس السياسة بمرجعية مخالفة لمرجعية السيد الطوزي. ولا نعرف على وجه اليقين أين يمكن تصنيف مثل هذه التصريحات والأحاديث، التي بلغت في جرأتها "الإخبار" عن مواقف ملكية من بعض الأحزاب المغربية. اللهم إذا كان الأمر يتعلق بتقديم مساندة ما لما صرح به بعض الرسميين الفرنسيين مؤخرا ضدا على نجاح أحزاب في منطقة شمال إفريقيا ليس لها توجه ثقافي فرانكوفيلي، كما أشرت إلى ذلك في مقال سابق، ولو بنسْب أشياء إلى عاهل البلاد عسى ولعل أن يتم استدراج الرأي العام الذي يثق في ملكه إلى أطروحاتهم . وعلى كل حال فالمسؤولون الفرنسيون يسعون بكل ما أوتوا من قوة إلى توظيف المنحدرين من شمال إفريقيا في الوقوف إلى جانب ما أسسوا له في مرحلة الاستعمار، ورعوه بكل الوسائل زمن "الاستقلال". وهاهي وزيرة الشباب الفرنسية من أصول الحركى الجزائريين، جانيت بوغراب، تدلي بدلوها في نتائج الانتخابات المغربية والتونسية فتقول: ""انه امر مقلق للغاية.. لا أعرف أي إسلام معتدل". فهل نحن بصدد مكارثية فراكوفيلية جديدة (NeoMcCarthyism) أم أن كل هذا "الطنطانو" مجرد جعجعة بدون طحين، إلا الطحين المعبر عنه في الثقافة الشعبية التونسية. اعتادت شعوب شمال إفريقيا على سماع هذه الجعجعة لفترة تزيد على نصف قرن من الزمن، حاول أصحابها ترسيخ التبعية لما وراء البحر الذي انطلق ذات يوم من 1012، مقابل امتيازات الريع السياسي والاقتصادي للفئات الحاكمة ونخبها، ودون تحقيق ما وُعِد به المواطنون، لا في كثيره ولا في قليله. مما أدي إلى فقدان الثقة بين الحكام والمحكومين، هذا الفقد الذي نرى نتائجه اليوم في حراك الشارع العربي إفريقيا وأسيويا؟