1- فتح خطاب 9 مارس الباب أمام لجنة مراجعة الدستور ل"الاجتهاد الخلاَّق لاقتراح منظومة دستورية لمغرب الحاضر والمستقبل"، لكن يبدو أن الجهد الذي يبذله أعضاء اللجنة لصياغة هذه المنظومة لن يسترشد بأي خيالٍ سياسيٍ خلاَّقٍ، وسيظل محكوماً بالتوَجُّهات العامة والإطار المرجعي اللذين حددهما الملك. أي استخراج الأحكام الفرعية من أدلتها التفصيلية كما يقول الفقهاء، وهو اجتهاد لن يستجيب لمطالب الشعب المغربي بإرساء نظام سياسي ديموقراطي في ظل ملكية برلمانية. ولعل فتوى العلامة النحرير والأستاذ الكبير الدكتور محمد الطوزي تؤكد هذه الحقيقة لما اعتبر أن "الأولوية تتمثل في الوقت الراهن في ملكية دستورية، أي نظام يضبط فيه القانون لوحده العلاقات بين الحكام والمحكومين". لماذا؟ يجيب العَلاَّمَةُ المُجْتَهِدُ المُجِدِّدُ أن "أفق ملكية برلمانية يقتضي توفر طبقة سياسية متطلبة، وذات مصداقية، تتحلى بالنضج وتشعر المواطنين بالثقة، وهي أمور مفتقدة في الوقت الراهن". فهل هذا هو الاجتهاد السياسي الخلاَّق أم الاجتهاد الأخرق الذي يمارس الحجر السياسي على إرادة الشعب؟!. 2- إن كلام الشيخ المفتي العلامة الطوزي حقٌّ أريد به باطل، ولا يخلو من المغالطات حينما يخلط بين الشعب والمجتمع السياسي. لقد خرج الشعب، وهو يملك قوة الإرادة غير المُمَخْزَنَة، إلى الشارع ف"قال كلمته" قبل أن "يقول الملك كلمته" مطالباً بإسقاط الاستبداد والفساد وتفكيك المنظومة المخزنية لإرساء نظام سياسي ديمقراطي ولم ينتظر حتى تتشكل الطبقة السياسية المتطلبة وذات المصداقية كما يريد المجتهد الطوزي. وربما تمضي عقود وعقود دون أن تتكون هذه الطبقة السياسية التي يعتبرها علامتنا النحرير شرط وجوب الملكية البرلمانية!!. فالفتوى السياسية الطوزية السلطانية لا تأخذ بعين الاعتبار قانون التحوُّل الذي يعيشه المغرب، مثل باقي المجتمعات التي تَجْهَدُ لفك أغلال الاستبداد، وهو (أي التحول) الكفيل بإفراز طبقة ونخبة سياسية بإمكانها التفاعل مع متغيرات الواقع السياسي لنفي ديناصورات السياسة التي لا تحترم حتى أبسط قواعد الاختلاف بينها على الهواء. ولا يمكن أن نُسْلِمَ إرادة الشعب لطبقة سياسية شاخت وهرمت لتساهم في إنجاز ما عجزت عن تحقيقه منذ عقود. إنها مشغولة، يا سيدي العلامة، بفتات المائدة المخزنية. إذاً، فالفتوى الطوزية السلطانية لا تصلح لاقتراح منظومة دستورية لمغرب الحاضر، الذي يتطلَّع مُواطِنُوه للكرامة والحرية، فكيف لمغرب المستقبل؟!. ثم لماذا تريد يا شيخنا الجليل العلامة النحرير أن ننفخ الروح في جثة سياسية هامدة لتصبح ذات مصداقية؟. وهل قَدَرُنا أن نصبر على هذه الطبقة السياسية المخزنية في أفق إعادة تأهيلها لتبلغ مرحلة النضج ومن ثم تحظى بالمصداقية؟ وهل يُؤْمَلُ الخير من طبقة التُجَّارِ ومُحْتَرِفِي السياسية، الذين "باعوا الماتش" وأسلموا الروح لبارئها؟. تعرفون جيداً يا شيخنا الجليل كيف تُصنع النخب السياسية والأحزاب السلطانية، وكيف يُدَجَّن المثقفون في ظل نظام مخزني، وكيف يُرَوِّجُ هؤلاء لفتاوى الحجر السياسي والوصاية على الشعب!. ولكم في "البام" وطبقته السياسية ونخبته ومثقفيه ذكرى يا أولي الألباب. ولا شك أن المخزن إذا رفع يده عن الحياة السياسية وتدجين المثقفين والأكاديميين سيتمكن المجتمع من إفراز طبقته السياسية ونخبته التي تلتحم بآماله وتعبر عن مطالبه. 3- إن التاريخ والمنطق لا يقبلان الانتظار والتسويف لإنضاج طبقة سياسية تحظى بالمصداقية حتى نرسي نظاماً سياسياً على المقاس أو متوافقاً عليه. فهذا كلام العاجز عن الفعل في التاريخ وصناعة المستقبل، وكذلك كلام المغلوب على أمره الذي لا يرى المستقبل إلا من سم الخياط. وهو كلام المجتهد المنسلخ عن واقعه وآمال أبناء وطنه الذين لا يرغبون في إيقاف عجلة التاريخ لِيَعُودوا إلى أحضان الاستبداد. إن أية رؤية أو فتوى أو اجتهاد سياسي لرسم قواعد نظام الحكم منفصلٍ عن محيطه السياسي والاجتماعي ولا يستلهم روح العصر ولا يستشرف المتغيرات فسيكون اجتهاداً مُشَرْعِناً للمَخْزنَة ولحكم القَهْرِ والغَلَبَةِ ومُوهِناً ومُهْلِكاً للحرث والنسل. فهو يستنسخ المنسوخ الذي اندثرت كل أسباب نزوله، ولا يريد أن يُؤَمِّنَ المستقبل المتفاعل مع حركة التاريخ في اتجاه بناء نظام سياسي ديموقراطي يقطع مع المنظومة المخزنية. ثم لا أدري كيف تتجاهل هذه الفتوى السلطانية المخزنية تطلعات حركة 20 فبراير التي تعد اليوم قاطرة الحراك السياسي. أليست الروح السياسية الجديدة التي انبعثت مع دينامية الحركة تمثل الحضن الشرعي لطبقة سياسية جديدة ذات مصداقية تشعر المواطنين بالثقة؟. إن النخبة السياسية المخزنية تمد المخزن بالأوكسجين ولن يسمح أبداً بدفنها وإِنْ أَسْلَمَتْ روحها... 4- لم يكن معظم الدكاكين السياسية المُتَهَرِّئة لِيُحَرِّكَ ساكناً لولا حركة 20 فبراير، بل اشتبهت الطبقة السياسية التي آمن بعض رموزها "المجاهدين" بموت المخزن في مطالب الحركة، ولم يأل آخرون جهداً في تسخيفها وتشويهها قبل أن يتنبَّهوا إلى الروح السياسية الجديدة التي بلورها الحراك السياسي ل20 فبراير. فهرع هؤلاء إلى التمسح بأهدابها والتنويه بمطالبها قبل أن "يفوتهم القطار". وهنا لا بد أن نرد على مغالطة العلامة المجتهد الطوزي لما اعتبر أن "الإصلاحات التي أعلنها الملك تأتي لتعزيز مسلسل تم الشروع فيه منذ سنوات، وأن كون الخطاب الملكي تصادف مع الاحتجاجات الشعبية التي يعيش على وقعها العالم العربي تدل على أن الملكية تحافظ على قدرتها على استباق الأحداث"!. ربما يستقيم هذا الاجتهاد (أو لنقل التحليل السياسي) إذا أجريت التعديلات الدستورية قبل خمس أو ثلاث سنوات لما كان بعض الدكاكين السياسية المخزنية يزايد على خصومه لانتزاع المواقع الحكومية فحينها نقول إن الملكية استبقت الأحداث، أَمَا وَأَنَّ لجنة تعديل الدستور تشكلت بعد خروج حركة 20 فبراير فهذا يؤكد أن الملكية أرادت احتواء مطالبها لاستباق كل المفاجآت والمخاطر عبر رسم أفق المنظومة الدستورية التي سترعى اللجنة ولادتها. أما الحديث عن تعزيز مسلسل الإصلاحات الذي تم الشروع فيه منذ سنوات فلا أعتقد أن أحداً يُصَدِّق هذا الكلام سوى العلامة النحرير الطوزي، ولن يُصَدِّقَهُ حتى مُتَلَقِي المجلة الذي تَوَجَّه إليه بخطابه، لأن كل المراقبين للشأن المغربي وحتى بعض خُدَّامِ المخزن والمسؤولين الحزبيين السابقين في دواليب السلطة (اصْحَابْ الكَامِلَه)، يشهدون على "الردة" السياسية والحقوقية والاجتماعية (..) التي عاشتها البلاد بعد الخروج على المنهجية الديمقراطية. ولاحظ الجميع كيف اتجهت المملكة نحو نموذج البنعلية والنموذج البلطجي الفرعوني بإنشاء حزب الدولة وتمييع الحياة السياسية وزواج السلطة والمال... في الوقت الذي كنا نسمع فيه "حَيْحَةَ" الانتقال الديموقراطي وجعجعة مشروع المجتمع الحداثي الديموقراطي دون أي طحين يسد الفقر والمجاعة السياسيين. 5- إن هذا الاجتهاد السياسي الأخرق الذي يرسم أفق المنظومة الدستورية غير ملائم لإنتاج نظام سياسي ديمقراطي، عدا عن وصايته السياسية التي ترى أن الشعب قاصر لا يحتاج اليوم إلى ملكية برلمانية!، هو ما جعل حركة 20 فبراير ترفض اللقاء بلجنة مراجعة الدستور التي "لم تحترم مبدأ السيادة الشعبية ولا تتوفر فيها مقومات هيئة تمثيلية ديموقراطية كفيلة بوضع دستور ديموقراطي"، بل تطالب بإسقاطها ما دامت مخرجاتها لن تتجاوز "ملكية دستورية" تحافظ على نظام الفيرما (نظام المزرعة)!. وتعيد إنتاج المفهوم الجديد للسلطة كما أفتى الشيخ المجتهد "يمكن القول، والأمر أساسي في المغرب، بأننا بصدد مفهوم جديد للسلطة". يا سلاااااااام!!. وهل أصبح المفهوم الجديد للسلطة الذي أسَّسَ له خطاب الدارالبيضاء (12 فبراير 1999) وَوُصِف ب"التاريخي" مفهوماً قديماً؟!. ربما. فقد رأينا تجليات هذا المفهوم الذي تم ربطه ب"الخدمة العامة وصيانة الحقوق وحفظ المصالح واحترام الحريات والقوانين" فذاق المجتمع المدني والمجتمع السياسي قبل غيره حلاوته. فهل سنعيد مرة أخرى تجديد ثوب المفهوم الجديد للسلطة حتى نصون الحقوق ونحفظ المصالح ونحترم الحريات والقوانين!!. هذا الكلام يعني أن العهد الجديد ظل يمارس المفهوم السلطوي للسلطة، وهو ما لا يحتاج إلى شواهد (قوانين البخوش والذبان... وحقوق القرعة في المؤخرة بسجن تمارة..). ولن يكون في الإمكان أبدع مما كان. 6- ليس وحدها الطبقة السياسية التي تحتاج إلى نضج سياسي وتأهيل لتحظى بالمصداقية، وإنما طبقة المثقفين وخصوصاً "الأكاديميين" الذين يُصْدِرُ بعضهم الفتاوى السياسية بغير علم أو يجتهد وهو منفصلٌ عن محيطه السياسي والاجتماعي ومُحَاصَرٌ بين قاعات الدرس ومدرجات الكليات مُنَظِّراً للانبطاح (أكاديميو السلطان). إن خطر هذه الطبقة أقوى وأشد من خطر الطبقة السياسية إذا نكصت عن رسالتها والقيم الحاملة لمشروع التنوير والعقلانية والحداثة والديمقراطية (وليس الديموستبدادية). وسيأتي يوم تُعْرَضُ فيه اجتهادات وفتاوى وأعمال هؤلاء الأكاديميين المجتهدين على مشرحة التاريخ لِيُمَحِّصَ الباحثون الفتاوى السلطانية المَخْزَنِية المُقَلِّدة من الفتوى المُتَنَوِّرَةِ التي تَتَسَاوَقُ مع روح العصر والمُلتَحِمَةِ بآمال الشعوب ومطالبها المشروعة. ويبدو أن المرحلة الراهنة تحتاج إلى مثقفين وأكاديميين يرهفون السمع إلى نبض الواقع السياسي والاجتماعي ويواكبوا حركية ودينامية المجتمع، لأن المخزن استطاع تَدْجِينَ هؤلاء الفقهاء السياسيين وشيوخ العلوم السياسية فراحوا يُزَوِّقوا ويُجَمِّلوا ما لا يمكن تجميله ب"لَعْكَرْ عَلّخْنُونَ".