إتلاف للمحاصيل، مواجهات واشتباكات، اعتداءات، اختطافات، استنفار للسلطات العمومية، وغير ذلك، بعض من المظاهر التي باتت تؤثث المشهد العام بمناطق عديدة في سوس، وأضحت وقائع مسترسلة في الزمان والمكان، أطرافها الرعاة الرحل وأهالي سوس. ولم تهدأ بعد وتيرة الاحتجاجات المندّدة بالأضرار التي تُخلّفها قطعان مواشي الرحل على النبات والشجر وموارد المياه، فنشأت تنسيقيات وهيئات مدنية جعلت من قضية الرحل واحدة من أبرز مطالبها، التي دُبجت في بيانات عديدة، كما صدحت بها حناجر "آيت سوس" في الرباط والدار البيضاءوأكاديروتزنيت وتارودانت. وأعادت أحداث الجماعة الترابية "أربعاء الساحل"، ضواحي إقليمتزنيت، قضية الرعي الجائر إلى واجهة الجدل في سوس، وذلك بعد ما شهدته "السيحل" من مواجهات دامية بين رعاة رحل من الأقاليم الجنوبية للمغرب وساكنة المنطقة، وصل صداها إلى البرلمان وإلى وزارة الداخلية، وكانت موضوع أسئلة نواب برلمانيين من سوس ومن الجنوب إلى الحكومة، ودفعت إلى رفع مطلب بتشكيل لجنة استطلاع برلمانية للوقوف على حجم الأضرار والاعتداءات ومعاينة الآثار المدمرة لآفة الرعي الجائر ميدانيا. ملف الرعي وتداعيات توجه رعاة رحل إلى مناطق سوس من أجل البحث عن الكلأ لماشيتهم، فتح جبهات لتبادل كل أشكال النعرات العرقية، كما حوّل مناطق إلى مواقع للتوتر، وانفلتت ردود الفعل من سياقها الاجتماعي المعيشي، الذي يفرض على الطرفين حفظ مصدر عيشهما، إلى سياق ينهل من قاموس عنصري متجاوز، أصبح معه البحث عن حلول واقعية وملموسة لرأب هذا الصدع ولتلافي كل ما من شأنه استباحة أملاك الطرفيْن أمرا مستعجلا. ترحال بديل حسن، واحد من الرعاة الرحل القادمين من الجنوب الشرقي للمغرب، التقت به هسبريس في المنطقة الجبلية لاشتوكة آيت باها، قال إنه يعيش على تربية الماشية التي "تفرض علينا الترحال والبحث عن المراعي بمختلف أرجاء المغرب"، مضيفا: "قبل أن أحط الرحال بمنطقة ما، أستبق الأمر بزيارتها، ليس فقط للبحث عن المراعي والكلأ، بل للقيام بنوع من البحث عن عادات ساكنة تلك المنطقة، والاطلاع على أعرافهم وتقاليدهم، مثل أوقات حظر جمع ثمار الأركان وغير ذلك، من أجل تفادي الاصطدام مع الأهالي، وهو ما جعلني أكوِّن رصيدا من تلك الأعراف التي أعمل على احترامها التام، وأسمي ذلك بالترحال البديل". وعن حياة الترحال، قال الكسّاب حسن: "هو نمط عيش وثقافة وهوية ورثناها عن أجدادنا، فرضته طبيعة منطقتنا، والتنقل والترحال جزء من عاداتنا وتقاليدنا، فنرحل نحو الأماكن التي تتوفر فيها المراعي والمياه، رفقة مواشينا وأبنائنا وممتلكاتنا، رغم بساطتها، والتشبث بتقاليد أجدادنا يجعلنا نتكبّد المعاناة والويلات في صمت خلال تلك الرحلات التي نجوب فيها مختلف مناطق المغرب، حيث ينعدم الاستقرار، وتكون الجبال والفيافي موطنا لنا، وتغيب أبسط ضروريات العيش، لكن رغم ما نُقاسيه، يبقى مبدأ احترام أعراف المناطق المستقبلة أحد أهم مبادئنا، لتجنب الدخول في مواجهات مع الساكنة، والتعايش معها إلى حين حول موعد مغادرتنا". الرحل متضررون مناطق عديدة في سوس عرفت نفوق أعداد من رؤوس المواشي المملوكة للرحل، فكان ذلك بمثابة الزيت الذي صُبّ على النار، فوقعت مناوشات ومواجهات وتبادلا للاتهامات، وصلت حدّ اختطافات وشبه "حرب عصابات". وفي هذا الصدد، نفى محمد محمد سالم، كساب من آسا، في تصريح لهسبريس، أن يكون الرعاة يتعمّدون الاعتداء على ساكنة سوس، مضيفا: "إن كانت هناك حالات معزولة، فلا يجب التعميم"، موردا أن "من ساكنة هذه المناطق من يتعمّد تسميم المواشي، فتنفق عشرات الأغنام، مما يكبّدنا خسائر فادحة، ونعيش بدورنا وأسرنا ومواشينا في هلع ورعب، كما أن من هؤلاء من يعمد إلى استفزاز الرحل ووصفهم بأبشع الأوصاف ويشكك في وطنيتهم، ويحاول خلق نعرات قبلية بين الأمازيغ والصحراويين". وأردف الكساب ذاته أن "الرعاة لا يقصدون هذه المناطق من سوس إلا بسبب فترات جفاف المراعي بالمناطق الجنوبية، وهم مجبرون على البحث عن الكلأ لماشيتهم، وهي المهنة الوحيدة التي يُتقنونها، ولا يقبل عقل أن يتكبدّوا عناء قطع كل تلك المسافات الطوال، مع ما يُواكبها من متاعب ومصاريف، من أجل الاعتداء على أهل سوس"، مردفا أن "هذا القطاع جد حيوي، وينبغي إتاحة المراعي، ودعم القطاع في فترات الجفاف، حفاظا على هذه المواشي، ولأجل التخفيف من المشاكل الكثيرة التي نُعانيها، لا سيما في فترات الجفاف". تطور خطير لم تضع "الحرب الضروس" بين الرحل وساكنة سوس أوزارها بعد، بل شهدت تطورات وُصفت بالخطيرة، فبعد الاتهامات بالقتل والاختطاف والاعتداءات الجسدية وتسميم القطيع، أصبح وتر قضية الوحدة الترابية للمغرب إحدى الأوتار التي يعزف عليها على خلفية كل تلك الوقائع. وفي هذا السياق، أبرزت كتابات معادية للمغرب خُطت على جدران مؤسسة تعليمية في جماعة أربعاء الساحل، ناحية تزنيت، أن وراء الستار من يزيد الأمور تعقيدا والسير بملف الرعي نحو المجهول، ما سيُفسد كل المساعي الرامية إلى حلحلة هذا الملف الشائك. عادل أداسكو، فاعل جمعوي، قال في تصريح لهسبريس إن "قضية الرعاة الرحل أخطر مما يتصور غالبية المتتبعين لهذا الملف القابل للتصعيد، والدليل ظهور عبارات موالية لما يسمى جبهة البوليساريو على جدران إحدى المؤسسات التعليمية بمنطقة أربعاء الساحل بتزنيت، في اليوم الموالي من المواجهات التي عرفتها المنطقة، ويعتبر ذلك تطورا خطيرا يؤكد محاولة الضغط علي المسؤولين بفرض مافيات الرعي الريعي علي مناطق سوس، أو التلويح بورقة الانفصال". "ما يقوم به الرعاة الرحل من التهديد بالولاء للانفصاليين هو ابتزاز حقيقي للدولة، وقد تعودنا ذلك من بعض الطلبة والرعاة، فالابتزاز والمساومة هما استغلال لقضية الصحراء لتبرير الخروقات الكثيرة التي يقوم بها هؤلاء الرحل، بينما الحقيقة هي أنهم لا يعترفون بقوانين الدولة المغربية ولا بممتلكات السكان، بل ينتهكون كل شيء، فسكان سوس لا يمكن أن يرضخوا للابتزاز، كما لا يمكن لهم التخلي عن ممتلكاتهم وأرضهم مهما كلفهم ذلك من تضحيات"، بتعبير أداسكو. حلول مؤجلة احتجاجات هنا وهناك، دعاوى قضائية، خسائر في الممتلكات، اعتداءات وتبادل للاتهامات، عناوين عريضة لمسلسل تواجد الرحل في مناطق سوس، حرّكت فاعلين من سوس ومن الجنوب؛ فمن مطالب بحماية الساكنة من "بطش" الرحل، إلى مراسل لوزير الداخلية حول حماية الكسّابة الرحل من المضايقات والاعتداءات والمتابعات القضائية. هي مبادرات اعتبرتها تنسيقية "أكال" "منتهية الصلاحية" تروم تغليط الساكنة، ومحاولة الأحزاب تزكية الأمر الواقع الذي ما زال ينتظر حلولا جذرية تضمن حقوق كافة الأطراف وتنزع فتيل المواجهات المتواصلة بين الرحل وساكنة سوس.