لقد عرفت سنة 2011 سلسلة كثيرة من الأحداث السياسية بالمغرب لم تشهدها العشرية السابقة بأكملها،وهو ما يجعل متابعة هذه الأحداث السياسية بالتحليل العميق والعلمي صعبا للغاية،اللهم بعض الكتابات السطحية أو الايديلوجية التي تنتشر في بعض المنابر الإعلامية.هذا ويعد حدث فوز حزب العدالة والتنمية ذو المرجعية الدينية الإسلامية في الانتخابات البرلمانية المغربية وتبوئه رئاسة الحكومة بالمغرب، بالإضافة الى دينامية حركة 20 فبراير وما أسفرته من تعديلات دستورية بالمملكة ،أهم الأحداث السياسية التي عرفتها هذه السنة بالمغرب. إن الصعود السياسي للإسلاميين بكل من تونس ومصر والمغرب وليبيبا وسوريا والأردن والعراق وغيرها، يطرح مجموعة من الأسئلة والاستفهامات لاسيما بهذه الطريقة السريعة والمتداخلة.ولفهم ما يجري في المنطقة من صعود قوي للإسلاميين فيما يمكن تسميته بمحاولتهم للسيطرة على الحكم بدول المنطقة،يجب ربطه مع السياقات العامة والتحولات السياسية الدولية منذ سقوط جدار برلين، ونهاية الحرب الباردة، وانهيار المعسكر الاشتراكي بداية التسعينيات، وانفراد الولاياتالمتحدةالأمريكية بقيادة العالم بالتدخل المباشر أو بالتحكم في المؤسسات الدولية، وعلى رأسها هيئة الأممالمتحدة ومجلس الأمن الدولي.فبعد خمود بركان الأيديولوجية الماركسية التي كانت تؤرق الغرب وأمريكا،طفت على السطح وبقوة أيديولوجية أخرى تنبأ منظرو الغرب بخطرها المستقبلي على مصالح الغرب بالعالم ،إنها أيديولوجية الإسلام السياسي التي تتبنها الحركات الإسلامية العسكرية(تنظيم القاعدة،الجيش الإسلامي للإنقاذ،جماعة التكفير والهجرة...) والسياسية منها(جماعة الإخوان المسلمين،حركة التوحيد والإصلاح،جماعة العدل والإحسان،الجبهة الإسلامية للإنقاذ...) بعدد من دول العالم الإسلامي،وتتجلى أهم تلك التنظيرات الغربية في كتابات هنتكتون حول توقع صراع الحضارات بالعالم ،وكتابات توماس فريدمان حول مشروع الشرق الأوسط الكبير والفوضى الخلاقة، وكتابات فوكوياما حول نهاية التاريخ، وغيرها من التنظيرات، التي تصب كلها في سبيل الحفاظ على التفوق الأمريكي في العالم على مختلف المستويات.وقد كانت التوجهات الأمريكية منذ منتصف التسعينيات تنحو إلى احتواء المد الإسلامي سياسيا وبالقوة العسكرية إن اقتضى الأمر ذلك (ضرب منشآت حيوية بالسودان الذي كان قد تبنى مشروعا سياسيا إسلاميا) ،وقد كانت تفجيرات الحادي عشر سبتمبر بنيويوك نعمة على الإسلاميين المعتدلين، ونقمة على الإسلاميين الذين يتبنون العمل المسلح ،فقد تبنت أمريكا بعد ذلك من خلال تصريحات الساسة الأمريكيين سياسة تعبر عن الرغبة في التعامل والتعاون مع الحركات الإسلامية المعتدلة والتي لا تتبنى العنف من أجل الوصول إلى الحكم في الدول الاسلامية لكبح جماح المتطرفين الاسلاميين الذين عجزت معظم الأنظمة الحالية في الحد منهم ،وكذا الحد من انتشار الفكر الإسلامي بصفة عامة ،وهي الخطة الاستباقية التي سرعت بها الولاياتالمتحدة وبلورتها من خلال تكثيف الاتصالات مع مجموعة من التنظيمات والحركات والأحزاب الاسلامية بالعراق ومصر وتونس والمغرب خصوصا عن طريق السفراء والمبعوثين،وكذا استقبال مجموعة من أطر الحركات الإسلامية بالجامعات ومعاهد الدراسات الأمريكية(مثلا مصطفى الخلفي من حزب العدالة والتنمية،نادية ياسين من جماعة العدل والإحسان...)،وكذا تقديم جوائز فكرية وثقافية وتحفيزات لشخصيات إسلامية معتدلة بعدة دول. وسأقوم بجرد مجموعة من الوقائع في سياق هذا التحالف الأمريكي مع حركات الإسلام السياسي اللاعنفية، من خلالها يمكن فهم هذا المسلسل الذي سرع في استكمال حلقاته سقوط(أو إسقاط) الدكتاتور زين العابدين بن علي وفتح أبواب الحكم أمام الإسلاميين: 1- دور قناة الجزيرة في التعريف برموز الإسلام السياسي بالمنطقة،هذه القناة التي استفادت من احتضان دولة قطر(...). 2-استقبال واستقرار مجموعة من أطر الحركات الاسلامية واستفادتهم من تكوينات خاصة بالمعاهد والجامعات ومراكز الدراسات الأمريكية على نفقة الحكومة الفدرالية الأمريكية. 3-التحالف الأمريكي مع الجماعات الإسلامية السنية والشيعية بالعراق لإسقاط نظام الدكتاتور صدام حسين. 4-تسريب مجموعة من المعلومات الخطيرة والمشكوك في حجيتها، في لعبة غير مفهومة اسمها ويكيليكس،هدفها خلط الأوراق وتوجيه الرأي العام (مثلا تحذير العاهل المغربي للأمريكان من حزب العدالة والتنمية ،وهي معلومة تعطي انطباعا أن الحزب يمثل بعبعا). 5-استغلال الاضطرابات الاجتماعية في تونس وجلوس السفير الأمريكي مع الجنرال رشيد عمار، الذي أجبر زين العابدين بن على مغادرة تونس وإسقاط حكمه السياسي الذي تميز بالفساد،ونقل هذه العدوى إلى دول الجوار،ثم فوز حزب النهضة الإسلامي المعتدل المعارض بالانتخابات التونسية. 6-استغلال الاضطرابات السياسية بمصر،وقيام المجلس العسكري (الحاكم الفعلي لمصر) بتنحية الرئيس حسني مبارك الذي تميزت فترة حكمه بالفساد،وخلال هذه الفترة برز دور شخصية محمد البرادعي الذي لعب دورا في الضغط الغربي على إيران إبان رئاسته لوكالة الطاقة الدولية،وكذا البروز السياسي للإخوان المسلمين الذين من المرجح جدا وصولهم إلى الحكم . 7-تنسيق حلف الناتو مع بعض الجماعات الإسلامية الليبية(رئيس المجلس العسكري الحالي لطرابلس عبد الحكيم بلحاج كان قياديا في الجماعة الليبية المقاتلة،والتي قامت بمراجعة فكرية للتخلي عن العنف) للإطاحة بالدكتاتور معمر القدافي الذي بنى حكما شموليا بليبيبا. 8-مرونة النظام السياسي المغربي، ودهائه، وسرعة التقاطه للإشارات وللوضع الإقليمي،فقام بتعديلات دستورية وانتخابات سابقة لأوانها أعطت السبق لحزب العدالة والتنمية الإسلامي المعروف بولائه المطلق للنظام السياسي المغرب،والمتميز عن باقي الأحزاب السياسية المغربية بالانضباط التنظيمي المحكم مما سهل عليه الفوز الانتخابي. مما سبق يمكن استنباط السياق العام الإقليمي والدولي لوصول عبد الإله بنكيران إلى رئاسة الحكومة المغربية في إطار الدستور الجديد، وفي إطار النظام السياسي المغربي الذي يبقي الملك فاعلا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وعسكريا ودينيا رئيسيا.فكما علق أحد الظرفاء على ذلك فإن الدستور المغربي الحالي كأنه يقول لباقي الفاعلين السياسيين بمن فيهم رئيس الحكومة مقولة "سير ضيم" ،حيث أن المؤسسة الملكية تبقى مشرفة على المؤسسات التي تحدد التوجهات الكبرى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية والدينية والثقافية والإعلامية للبلد(المحكمة الدستورية،المجلس الأعلى للحسابات،المجلس الاقتصادي والاجتماعي،مجلس المنافسة،،المجلس الأعلى للأمن ،المجلس الوطني لحقوق الانسان،الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري، المجلس الاستشاري للأسرة والطفولة،المجلس الاستشاري للشباب والعمل الجمعوي،المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية،المجلس العلمي الأعلى...)،وهو ما سيجعل الحكومة بعيدة عن المفاتيح الحقيقية للحكم بالمغرب،وبالتالي الإسهام في التنمية وتحسين أوضاع المواطن، حتى وإن صدقت نواياها،وهو ما لا أعتقد أن الصراحة كفيلة بحلها كما عبر بنكيران. *باحث في العلوم السياسية