ضمن خريطة المجالات شبه الصحراوية المغربية توجد واحدة من المعالم الطبيعية، ذات عمق تاريخي وحضاري، يتجلى في التركيبة البشرية والنظام المعماري الاجتماعي وكل أشكال العمارة المحلية. إنها واحات طاطا بالجنوب الشرقي للمغرب، التي تغذّيها ينابيع تمدّها بالحياة، كما تلعب دورا محوريا في إنعاش الاقتصاد المحلي، وتوفير لقمة العيش للقاطنين بالمنطقة، عبر منتوجات مصدرها المجال الواحي. وإذا كانت الواحات بعدد من جهات المغرب تعيش حالة من الاندثار والتدهور الجليّيْن، ساهم فيهما السلوك البشري، وأنماط العيش الجديدة، والأنماط الاقتصادية التي انخرطت فيها هذه المجالات، بالإضافة إلى ما تدفعه من ضريبة التغيرات المناخية، فإن المجال الواحي بطاطا لم يسلم من الوقع السلبي لتلك التحولات، التي أضحت تُفقد الفضاء عناصر حياته كإرث طبيعي وثقافي وتاريخي. مصدر استقرار في تصريح لهسبريس قال قاسم أقبيل، وهو فاعل جمعوي بطاطا، إن الواحات تعتبر "من أهم ما تتميز به المناطق الشرقية والجنوبية بالمملكة. كما تتميز باستقرار العنصر البشري قديما، أساسه مزاولة مجموعة من الأنشطة الزراعية وتربية الماشية وغير ذلك. وعموما، نجد مجموعة من الأنشطة ذات الصبغة التسلسلية، من مرحلة الإنتاج إلى التسويق ثم الاستهلاك". وأضاف أقبيل "من جانب آخر، يرتبط استغلال الواحات بقوة سكانها، الذين لا يستغنون عن أبسط مكوناتها، التي تستعمل مثلا في البناء، الذي له ارتباط مباشر بالاستقرار. فكل مواد البناء في الواحات من ثرواتها، وخاصة نمط البناء التقليدي المسمى باللوح، ثم التسقيف الذي تستعمل فيه جذوع النخيل وسعفه، مع العلم أن هذه البنايات تتلاءم وطبيعة المناخ بالواحات، فهي تكون منخفضة الحرارة صيفا ودافئة شتاء". وعن أسباب ما تشهده واحات طاطا، وغيرها من واحات المغرب من اندثار، قال أقبيل: "أول أسباب الاندثار هو انتشار الأمراض، خاصة مرض البيوض، الذي يعتبر سرطانا ينخر الكثير من الواحات. ولحد الآن لا توجد وصفة مناسبة للقضاء على هذا المرض الفتاك". أما السبب الثاني فيلخصه أقبيل في "توالي سنوات الجفاف، حيث تعاني الكثير من الواحات من ندرة المياه، مما يفسح المجال أمام الكثير من الطفيليات والأمراض، فتكون النتيجة اندثار أو بداية اختفاء الكثير من هذه المجالات الطبيعية". ولا تقتصر العوامل المتسببة في اتساع رقعة تدهور المجالات الواحية على ما هو طبيعي، بل هناك "سبب آخر، بشري بامتياز، هو التوسع العمراني على حساب الحقول والمزارع، حيث يفضل الكثيرون الاستقرار وسط النخيل، ولو على حساب اجتثاث هذه الخيرات، مما يُقلّص مساحة الواحات، بالإضافة إلى إدخال زراعات جديدة أكثر استهلاكا للمياه"، يضيف الفاعل الجمعوي. حرائق مدمّرة في السنوات الأخيرة لم تمر سنة دون تسجيل حرائق تأتي على مساحات كبيرة من الواحات. وأوضح أقبيل في هذا الصدد أن أبرز أسباب ما تشهده الواحات من تدهور هو "انتشار الحرائق، فجل واحات الشرق والجنوب عانت من هذه الظاهرة الخطيرة، حيث إن طاطا وآسا فقدتا آلافا من الأشجار، أما تغجيجت فحدث ولا حرج. ففي كل سنة نسجل أزيد من 5 حرائق فما فوق، بمعدل 100 نخلة في كل حريق، بمعنى 500 نخلة بشكل سنوي، ناهيك عن باقي العوامل التي تقضي على تاريخ عمّر ملايين السنين، وهنا نذكّر بمسؤولية الجميع في هذه الآفة الخطيرة من تربية وزجر ومراقبة، لكن للأسف نعيش واقعا نتقاذف فيه المسؤوليات لا غير". وعن الأسباب المحتملة في تدمير جزء كبير من الواحات بسبب الحرائق، قال أقبيل إنها كثيرة ومتعددة، "ففي فصل الصيف، مثلا، قد ترتبط الحرائق بارتفاع درجة الحرارة، أو ببعض النفايات التي تؤدي إلى اشتعال النيران كالزجاج والولاعات". كما يمكن ذكر عوامل أخرى "مرتبطة بكون جنبات النخيل مكان مفضل لبعض السلوكات المرتبطة أساسا بتناول المخدرات، مما يهدد سلامة الواحات وقاطنيها، إضافة إلى النزهات أو الرحلات التي يقوم بها الشباب أو الأطفال أو حتى الأسر، حيث يوقدون النيران للطبخ أو الشاي أو التدفئة. وعموما، أسباب الحرائق متعددة، لكن نتائجها واضحة، وهي واحات منقرضة وأسر مهددة". وفي ردّه على سؤال لهسبريس عن محدودية استغلال المجالات الواحية في إنعاش الاقتصاد المحلي عبر السياحة الواحية، قال الفاعل الجمعوي: "لا يمكن تعميم الحكم بعدم استغلالها. بالعكس هناك تجارب ناجحة بالرغم من قلتها، خاصة بإقليم طاطا ومنطقة تغمرت، لكنها تجارب ذاتية، لكون دور الجهات المسؤولة ضعيف أو نادر. في المقابل توجد تجارب بواحة تغجيجت، غير أنها لم تلق الدعم والمواكبة". في الحاجة إلى اهتمام رسمي أما عن الحلول المقترحة من أجل استغلال المميزات الطبيعية والعمرانية والثقافية في المجالات الواحية لأجل مساهمتها في إنعاش الاقتصاد المحلي وتوفير فرص الشغل للساكنة، فيرى الفاعل الجمعوي أنه "من الضروري إصدار أو إعداد مخطط رسمي يهتم بسياحة الواحات على غرار الشواطئ، عبر برامج تنموية حقيقية مرتبطة أساسا بالبنية التحتية والإيواء والتأطير ثم التسويق. وبالرغم من اهتمام السياح الأجانب بالسياحة الواحية، فإن الوضع الحالي لهذه الواحات لا يساير، للأسف، حاجات هذه الفئات، وتبقى المبادرة الحرة منطلقا لتحريك المياه الراكدة في هذا المجال". وإذا كانت وضعية الواحات بعدد من مناطق المغرب لا تبعث على الارتياح، جراء ما تتعرض له من أشكال الاندثار والتدهور، فإن المغرب وضع مخططات عمل وبرامج لتطوير وتهيئة هذه المجالات من أجل الحفاظ على البيئة وتطوير التراث الثقافي والمعماري وخلق فرص للشغل. كما ساهمت برنامج قطاعية، كمخطط المغرب الأخضر، في التقليص من عوامل الاندثار التي تُهدد الواحات بالزوال، وفي الحفاظ على مقوماتها الطبيعية والإنتاجية والثقافية.