الشعب يريد إصلاح النظام.. ومن يريد إصلاح الشعب؟ ثمانية أعوام مضت على المظاهرات التي خرجت على وقع ثورات تونس ومصر وما جاورهما. كانت اللافتات والهتافات متعددة بتعدد شرائح المتظاهرين، لكنها كانت تلتقي حول مطلب أساسي مفاده أن الشعب يريد إصلاح النظام. وأوضح البيان التأسيسي لحركة 20 فبراير بأن "تراكم المعضلات الاجتماعية يرجع بالأساس إلى الاختيارات السياسية وبنية النظام السياسي المغربي". طالبت الاحتجاجات بحل الحكومة والبرلمان ووضع دستور ديمقراطي لملكية برلمانية وإسقاط الفساد والاستبداد وإحلال المحاسبة والمساءلة وبناء مجتمع تسود فيه الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان. وأقل ما يمكن أن يقال في شأن هذه المطالب أنها كانت طموحة إلى حد الجموح. ورغم إقرار دستور جديد وانتخاب الشعب لحزب العدالة والتنمية الإسلاموي ليقود مسيرة التغيير نحو الأفضل وإطلاق سلسلة مشاريع تنموية، فإن حصيلة مشروع الإصلاح هزيلة بالمقارنة مع شموخ المطالب. بل الأسوأ من ذلك أن البلد يتراجع بشكل صادم، حيث إن ليبيا والعراق وفلسطين تقدمت على بلدنا المستقل والمستقر في مؤشر "التمنية البشرية" ل 2018. وجاء هذا التراجع بالموازاة مع التصاعد الصاروخي للمديونية العمومية التي أثقلت كاهل المواطن، إذ قفزت من 534.1 مليار درهم عام 2010 إلى 970 مليار درهم في 2017، حسب تقرير المجلس الأعلى للحسابات. وتراجع المغرب أيضا في ترتيب مؤشر "سيادة القانون"، الذي ترصده مؤسسة مشروع العدالة الدولية، وسقط بضع درجات في سلم الترتيب العام لمؤشر "الازدهار والرخاء العالمي"، الذي يصدره المعهد البريطاني. كما تراجعت الحريات المدنية والسياسية في بلادنا، وعلى رأسها حرية الصحافة، حسب منظمة "فريدم هاوس". أما بالنسبة للتربية والتعليم، فما زال البلد يقبع أسفل سافلين، كما جاء في تقرير "التنافسية في العالم العربي" للسنة الماضية. وفي المنحى ذاته، عرف مطلب "الشعب يريد إسقاط الفساد" فشلا صريحا، بالرغم من وجود إستراتيجية وطنية لمكافحته وهيئة وطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها. وبالرغم من كل المبادرات والخطابات والنوايا الحسنة، ما زال الفساد بكل أنواعه مستفحلا في المجتمع في ظل غياب المساءلة والمحاسبة. لائحة التراجعات طويلة جدا، رغم ارتفاع عدد الأبراج والمارينات والمولات والطرق السيارة والطراموايات والقطارات التي بلغ بعضها سرعة البرق. انتقد السياسيون إخفاقات المشروع الإصلاحي وتناولها الإعلام الوطني والدولي وحللها الخبراء والفقهاء على حد سواء. إخفاقات يعزيها الشعب إلى النظام، في حين يرجعها النظام تارة إلى الظرفية الجهوية والعالمية، وتارة إلى مؤسساته ومدى نجاعة المشروع الإصلاحي. وبما أن الحديث عن النظام والمشاريع الإصلاحية نال حيزا مهما من اهتمام العامة والخبراء، أود هنا أن أسلط الضوء على "الشعب" الذي لم يُمنح حقه من النقاش والتحليل، رغم أنه يشكل الركن الأساسي لقيام الدولة ذاتها، فلولا وجود الشعب لما وُجد أي نظام. درس لقنه التاريخ لجيوش "داعش" التي كانت تطمح لإنشاء "دولة الخلافة الإسلامية". ويحدد علم الاجتماع مفهوم الشعب بمعنيين رئيسيين: الاجتماعي والسياسي. فالشعب، حسب المفهوم الاجتماعي الواسع، هو المجتمع بكل فرد من أفراده. أما المفهوم السياسي للشعب فيُعنى به الأفراد الذين يتمتعون بمباشرة الحقوق السياسية ويشكلون عموما فئة الناخبين. وقد أصبح مفهوم "الشعب" يَطرح على الجميع أكثر من سؤال منذ خرجت ملايين الأشخاص في الأوطان العربية بين من يريد إسقاط النظام ومن يكتفى بالمطالبة بإصلاحه. ويكمن أكبر إشكال في مطلب "الشعب يريد إصلاح النظام" في كونه يقوم على فرضية أن الشعب المغربي صالح. فهل هو كذلك؟ لا شك أنه منذ الانفراج، الذي تلا "سنوات الجمر والرصاص"، أصبح الشعب يتمتع بهامش لا بأس به من الحريات ولو في إطار الخطوط الحمراء نفسها، ولذلك كان متوقعا أن يرقى الشعب بسلوكياته. لكن في ظل العلاقة الجدلية بين الشعب والنظام، لوحظ أيضا تراجع في تجليات المواطنة، وازدياد في فساد سلوكيات الشعب الذي اختلط عليه الحابل بالنابل، وأصبح يظن بأن الحرية تعني التسيب، وأن الحقوق لا تلزمه بأدنى حد من الواجبات. ولذا دعونا نتساءل: هل يستطيع أفراد شعب يتهربون من واجب دفع الضرائب ويدمنون على الرشوة ويبيعون أصواتهم لمن يمثلهم في الجماعة وفي البرلمان أن يسقطوا الفساد أو يحاسبوا كبار مختلسي المال العام؟ هل يمكن لجزء من الشعب الذي يحتل الأرصفة، ويُسخّر الملك العمومي لمصلحته الخاصة، ويخرب الحدائق ليسرق خشب كراسيها وحديد أسوارها أن يبني دولة المواطنة؟ أما أبناء وبنات الشعب، الذين خرجوا يهتفون "كلنا سعد" ليبرئوا المطرب النجم من تهم الاغتصاب والاعتداء المتسلسل قبل أن يقول القضاء كلمته، هل يؤمنون حقا بالقانون، ناهيك عن سيادته؟ هل يدرك أفراد شعب قد يتوضأ خمس مرات في اليوم، ثم يتبول على أعرق وأجمل معالم البلاد مثل قصر البديع بمراكش أو أبواب فاس العتيقة أو القلعة البرتغالية بالجديدة، ما يميز سلوك الإنسان عن الحيوان؟ هل يحق لشعب يسرق حاويات الأزبال ويرمي بالقمامة في الشارع ويلوث شواطئ البلاد وبحارها ووديانها أن يحتضن المؤتمرات الدولية للحفاظ على البيئة؟ هل الشعب الذي يقيم حفلات ليلية تغلق الأزقة، ثم يطلق الأبواق لتؤرق الجيران وتحرمهم من حقهم في الراحة والنوم، يدرك أين تبدأ وأين تنتهي الحقوق والحريات؟ هل يمكن لأفراد شعب امتهنوا التسول وسرقة البورطابلات وإشهار السيوف في وجه البنات والاعتداء على المواطنين والمواطنات، هل يمكنهم أن يساهموا في بناء مجتمع آمن ونامي ينبذ ثقافة العنف والنصب والكسل والاحتيال؟ إذا تحلينا بقليل من الصدق مع أنفسنا، أظن أنه بإمكاننا الإجابة عن كل هذه الأسئلة ب "لا وألف لا". وإن كان مثل هذا السلوك يقتصر على فئة من الشعب يشترك فيها الأمي والمتعلم والرجل والمرأة، فإنها حاضرة بقوة في كبرى مدن المملكة، وتجعل مشروع إصلاح النظام والمجتمع بأكمله شبه مستحيل. لقد جرت العادة أن تُعزى مظاهر فساد جزء من الشعب إلى تفشي الجهل والأمية والفقر وتقصير السلطات في تطبيق القانون والحد من حالة التسيب التي تعيشها أجزاء من البلاد. وفي هذا الموقف تجاهل الحقوقيات والحقوقيين ومنظماتهم الحكومية وغير الحكومية في مهمة توعية الشعب بما له وما عليه. إذ نجحوا إلى حد معقول في نشر ثقافة حقوق الإنسان وفشلوا في أن يقرنوا كل حق وكل حرية بالواجب والمسؤولية التي تقابله، مما ساهم في استفحال حالة الفوضى التي نعيشها منذ سنوات. وانعكس هذا الفشل على أكبر الاحتجاجات بشكل خاص، إذ كاد هذا الشعب، الذي يريد إصلاح النظام، يقود البلاد إلى حرب أهلية خلال ما صار يعرف ب "حراك الريف"، الذي انقسم حوله المغاربة بين مؤيد ومعارض. ففي خضم هذا الحراك تجاوز الجميع الخط الرفيع الذي يفصل بين حرية التعبير والتحريض على كراهية الآخر وتأجيج نعرات التمييز العرقي بين المواطنين. فمن جهة، تبنت قيادة الحراك خطابا يقدس "شعب الريف" وينعته بموطن "الرجال"، "الأحرار الحرائر"، "الشرفاء" ويدنس مغاربة "الداخل" بالخصوص الذين نعتهم ب "العبيد"، "العياشة"، "العروبية"، رعاة الدعارة والديوثية. وقوبل هذا الخطاب بخطاب لا يقل عنه خطورة وصف مؤيدي الحراك ب "الأوباش"، "تجار المخدرات"، "المهرّبين"، "أولاد السبليون" واتهمهم ب"الانفصاليين". وشكلت هذه النعوت الأخيرة ترسيخا لوصمة التمييز، التي طبعت الريف في عهد الملك الحسن الثاني، الذي قابل احتجاجات أبناء المنطقة والحيف الذي طالهم بالشتم والقمع وسياسة التهميش. وفي الوقت الذي كان من المفترض أن يتدخل المسؤولون بسرعة لنبذ خطاب الكراهية ومجابهة كل أطياف الشعب الجاهل بقواعد حرية التعبير، لم ترقَ السلطات خلال وبعد الحراك إلى مستوى مسؤولياتها في إطار العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي يحظر "أية دعاية للحرب وأية دعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية تشكل تحريضًا على التمييز أو العداوة أو العنف". لقد ترك الحراك جرحا عميقا في المجتمع في غياب مساءلة حقيقية للجميع. وأوضح في الوقت ذاته بأن مثقفي البلاد وأكاديمييه وحقوقييه ساهموا في نشر ثقافة صبيانية تصر على حق المواطن في الاحتجاج دون الالتزام بإطاره الذي يحظر المس بسلامة الأشخاص الذاتية والمعنوية أو الاعتداء على ممتلكاتهم. ولم يفهم المحتجون من الشباب أن أكثر الدول ديمقراطية في العالم تمنع التظاهر غير المرخص له أو المعلن له وتعاقب من يعتدي على الممتلكات العامة. وتطبق هذه الدول بصرامة قوانين تزجر كل من يمارس الشتم والتجريح ويحث على الكراهية التي عادة ما تؤدي إلى حروب أهلية، بل إلى جرائم إبادة وجرائم ضد الإنسانية. وفي الوقت الذي كثر الحديث عن حقوق الإنسان، نادرا ما تتم الإشارة إلى اقترانها بواجبات الإنسان لدرجة تجعلهما وجهين لعملة واحدة. وقلما يُذكَّر المواطن بأن نجاح الأنظمة الديمقراطية يكمن في كونها تضمن للفرد الحقوق مقابل قيامه بالواجبات التي تفرضها الدولة وتحميها بترسانة من التشريعات العقابية. فعندما يلتزم المواطن بواجب دفع الضرائب عن الدخل مثلا، فإنه ُيمَكّن الدولة من تمويل الخدمات والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي يطالب بها. وبما أن الواجب يتصدر الحقوق والمسؤولية تسبق الحرية، فقد ذهب الزعيم الهندي ماهاتما غاندي إلى حد التصريح بأن "المصدر الحقيقي لكل الحقوق هو الواجب. إذا قام كل منا بواجبه فإن الحقوق سوف تتوطد من تلقاء ذاتها. فالعمل هو الواجب، والحق هو ثمرته". رسالة في غاية الأهمية لم تجد بعد طريقها إلى العموم، ولم تلق الاهتمام الذي حظي به الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي اكتفى بالمادة 29/1، التي تذكر بأنه "على كل فرد واجبات تجاه الجماعة التي فيها تنمو شخصيته النمو الكامل والحر". ولم يتم الترويج كما يجب للإعلان العالمي لواجبات ومسؤوليات الإنسان (اُنقر هنا لقراءة الإعلان) منذ تبنيه من طرف مجلس الإنترآكشن في ربيع 1997 لضمان التوازن بين الحريات والمسؤوليات. فبالإضافة إلى الديباجة، جاء هذا الإعلان ب 19 مادة مقسمة إلى 5 أجزاء رئيسية، هي: "المبادئ الأساسية الإنسانية"، "اللا عنف واحترام الحياة"، "العدالة والتضامن"، "الصدق والتسامح" و"الاحترام المتبادل والشراكة". وتكفي قراءة الإعلان واستيعاب مضمونه لإدراك أنه يصعب التفاؤل بأي حركة أو حراك مجتمعي ينادي بالحقوق خارج إطار المسؤولية والواجب. كما يتضح بأن محاربة الفساد تبدأ بمحاربة المواطن الفاسد، وبأن إصلاح الشعب شرط أساسي لإصلاح النظام، أيا كان نوع هذا النظام. فماذا لو رفع المواطنون المغاربة في الذكرى الثامنة أو التاسعة لحركة 20 فبراير شعار : "الشعب يريد إصلاح الشعب" بدلا من الشعارات السابقة؟ *كاتبة وإعلامية