"أوصيكم يا أبنائي بالقراءة والكتابة، وعليكم أن تعودوا أنفسكم على ممارسة الكتابة وتدوين خواطركم ومشاهداتكم اليومية، دونما إبطاء أو إجهاد في البحث عن الجُمل المنمقة، بل عبٌروا عن أحاسيسكم باللغة الريفية الأمازيغية أو العربية أو بخليط بينهما، فالمهم هو التعبير الصادق الأمين عن المشاعر، والأهم هو اكتساب ناصية الكتابة والتعود على ممارستها". هذه إحدى وصايا عبد الكريم الخطابي - زعيم المقاومة المغربية في الريف - غير المعروفة رغم آلاف الدراسات والكتب التي تناولت حياة وتاريخ هذا القائد الذي تحول إلى ما يشبه الأسطورة. شهادات مغمورة يلف الغموض زوايا عديدة من تاريخ مقاومة المغاربة للاستعمار الإسباني والفرنسي في الريف بقيادة عبد الكريم الخطابي. وهذا ليس نقصا في مستوى الدراسات المقدمة عن هذه المقاومة وعن قائدها، وإنما بسبب شح الشهادات 'الحية‘ عنها وكذلك بسبب التركيز على الجوانب الحربية و "البطولية" منها دون الالتفات للجوانب الأخرى من "المشروع" الكبير الذي كان الخطابي (محمد عبد الكريم الخطابي) بصدد إقامته في منطقة الريف (شمال) التي تمكن من انتزاعها من أيدي الاستعمار الإسباني. مؤخرا قامت دار النشر "تيفراز" (ملامح) بنشر مذكرات محمد الرايس الأجديري تحت عنوان: "شهادات عن المقاومة في عهد الزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي". ما يغني هذه الشهادة القريبة من الحدث، أنها تتضمن كذلك شهادات أخرى لمقاومين شاركوا في صنع حدث المقاومة في عشرينيات القرن الماضي، وكانت تعتبر في عداد ما ضاع من الشهادات لولا الحرص على تدوينها من قبل محمد الرايس. يقول نجله عبد الحميد الرايس في حديث لإذاعة هولندا العالمية: "هذه الشهادات هي لرجال ومجاهدين قاوموا بأنفسهم وشاركوا في معارك التحرير كل من موقعه، كل بطريقته. هذه الشهادات تقدم لنا جوانب مغمورة من تاريخ المقاومة، جوانب لم يلتفت إليها العديد من المؤرخين بحكم أنها تجارب ذاتية، تجارب شخصية لمجاهدين ساهموا بكل طاقاتهم وبكل جهدهم (....). الشهادات مر عليها قرابة قرن إلا أنها ما زالت تحتفظ بقيمة كبيرة". أول مدرسة مشروع عبد الكريم الخطابي لم يكن فقط محددا في إشهار سلاح المقاومة ضد الاحتلال الإسباني والفرنسي (1921-1926)، ولكنه أيضا اهتم بجوانب تأسيس مقومات دولة حديثة. فشق الطرق السيارة التي كانت منعدمة تماما في المنطقة وفي معظم جهات المغرب آنذاك، وأدخل نظام الحالة المدنية فكان أول من سجله فيها هو ابنه البكر عبد الكريم، وأقام محكمة للفصل بين المتخاصمين وأسس كذلك مدرسة حديثة في أجدير – مركز الثورة – وما إلى ذلك من مبادرات كانت تصب في التأسيس لكيان سياسي حديث، وتجيب في الوقت نفسه عن المأزق الذي وضعت فيه الدولة المغربية التقليدية نفسها وتكالب قوى الاستعمار عليها. وكثيرا ما كان عبد الكريم يوصف من قبل خصومه، حتى من قبل بعض رجال الحركة الوطنية السياسية المغربية، بأنه رجل حرب فقط، إلا أن المذكرات/ الشهادة الحالية تظهر على العكس هذا الجانب المغمور من اهتمامات الخطابي (1882-1963)، ولعل هذا أيضا ما يعطي قيمة مضافة لمذكرات محمد الرايس، ابن أخت الخطابي. وكان محمد الرايس من بين أوائل أبناء الريف ممن التحق بالمدرسة المستحدثة وكان شاهدا، وهو طفل، عن زيارة الخطابي للمدرسة والحديث مع التلاميذ يوصيهم بضرورة التمكن من ناصية الخطابة والتواصل مع الآخر بأية أداة كانت " باللغة الريفية الأمازيغية أو العربية أو بخليط بينهما ". ومما تضيفه هذه المذكرات كذلك هو مما تتضمنه من انطباعات وارتسامات عن شخص الخطابي، سجلها المدون مما عايشه بنفسه، أو نقله عن أصحاب الشهادات التي نقلها عن مقاومين آخرين احتكوا مباشرة بالخطابي. ديْن يؤكد عبد الحميد الرايس أن أوراق والده أو "التقاييد" كما تسمى بالاصطلاح الفقهي التقليدي، ظلت في منأى عن أعين الباحثين والأكاديميين، و"تنشر لأول مرة بعد مضي أزيد من ستين سنة على تدوينها". وهذا ما يجعلها من بين الشهادات 'العذراء‘ عن فترة ما تزال تشغل فضول الباحثين والمهتمين داخل المغرب وخارجه. وعلى الرغم من أهمية هذه الوثيقة التاريخية، ورغم وصية محمد الرايس لابنه عبد الحميد أن يعمل على نشرها، إلا أن عبد الحميد تردد كثيرا قبل نشر مذكرات والده: "الحقيقة أنني ترددت كثيرا قبل نشر هذه المذكرات، لأنني كنت دائما أتساءل: هل تتضمن الجديد؟ هل يمكن أن تضيف شيئا إلى الساحة الثقافية التي تعرف كثيرا من النتاجات التاريخية لمؤلفين أكاديميين ولباحثين ولمجموعة من المهتمين (...) إلا أنني في الأخير رأيت أنني مدين للوالد ومدين لهؤلاء الرجال، ولو احتفظت بهذه الشهادات لبقيت حبيسة منسية مهملة". أنقر هنا للاستماع إلى حديث الأستاذ عبد الحميد الرايس لإذاعة هولندا العالمية *يُنشر بالاتفاق مع إذاعة هولندا العالمية