ثقافتنا الضائعة ، أين هي ؟ أين مثقفونا ، أين كتّابنا مما يجري من رداءة و0نسلاخ في مجتمعنا الآن ..! أكيد أن جواب مثل هذه التساؤلات الفضفاضة سيكون تحت ذرائع متوهمة: المثقف محاصر ، المثقف محروم من حقه في إبداء رأيه ، والتعبير بحرية عن ما يعتريه . المثقف يلزمه محيط عمل.. ! ذرائع المثقفين لا تنتهي إذن... ! ما يُعاب على مثقفينا حاليا ، هو مزجهم بين الثقافتين ؛ ثقافة المسؤولية والثقافة المضادة ، ثقافة : اُترك سفينة المسؤولية تغرق ! ولتعتصم بالجبل العاجي والجانب الناجي، إذ لا عاصم اليوم من الناس إلا جبل المثقف الذي يَحرِزُه ويعفيه من الغرق في همومهم والذّوذ عن حقوقهم والحديث بلسانهم ، إذ أن مسؤولية الناس ثقيلة ، ومطالبهم لا تنتهي ، وأوطانهم تقهقُرها لا حد له ! إذ كيف يتناولون مشروع تغيير الإنسان ومجتمع الناس وكلامهم غير مسموع ، وأقلامهم لا تملك حولا ولا قوة وسط محيط شائك. هل يعاني مثقفونا _ الآن _ من الاستلاب القاتل ؟ أم أنه يناسب أقلامهم "البريئة" التي لا تجد غيره بابًا لتلجه وتطمئن المُقامَ هناك في ثقافة الاستلاب المقيت.. !؟ ثقافة إمّعية تخلط الأصل بالفرع، والجزء بالكل ، وتفتل حبْلا واهيا بألوان شتى لا يبْلُغ أن يكون حبل دمًى لا ينطق عن حاله وحال أمته و حال مجتمع ذاق مُرّ التّيه والطّيش والبلادة التي بدأت يتأصّل بين ثنايا مثقفيه الأوفياء الاستلاب البغيض ! أين أقلام مثقفينا من كل ذلك إذن ؟ وما حال الثقافة المنشودة في زمن يهوِي بالمثقفين في هوّاتٍ سحيقة ، لا يُذكر لهم ذِكر ، ولا يُؤبَه لهم قيد ما يملكون من حرية . يذوب غيرهم في ثقافة غارقة في التشبث ، تقاوم كي لا تزول أو تزلَّ ! ويلعنون قطار التقدم الذي أملى على عقولهم التفكير والاجتهاد ، يتمنون لو أن الحياة ذات وجه واحد يعرفونه ويعرفهم فكيف إذن يتفلّتون من ذلك، وهم منتصرون لاشيء عليهم إن ضمنوا النجاة من سبة التقادم والرجعية الفكرية .باتت قريبة وأن الناس من حجّتهم قد آمنوا لكنهم على حين غرة استكبروا وتركوهم غرقى في وحل " القديم " وما يمليه " الجديد" عليهم.... . الثقافة الأصيلة تنتظر وتحتضر أيضا أمام ثقافة السرعة وثقافة الاستهلاك المنخفض القيمة ، فلا فنّ سلم من الابتذال ولا الأقلام عفّتها موجة السوقية والدّونية وبيع الذمم . ولا المسارح عادت تنطق رُكُحها بالثقافة ، وما عادت الكتب والروايات الأدبية تحمل أدبا رفيعا ولا تتكلم بلغة راقية محترمة. لم تعد الثقافة تشفي غليل المجتمع الذي يبني نفسه أو بالأحرى المجتمع الذي يُصنع تحت أعين الصانعين الذين لا تروقهم الثقافة بمفهومها الراقي كرافعة للنهوض والتقدم، بل يخيطون ثقافة على مقاسهم تعتني أشد الاعتناء بالابتذال وتحتضن التفاهة والرداءة بدفء وحرارة. لغة الثقافة المطلوبة عادت خواءً من ذوقٍ ، تعاني الاعتداء اللغوي الممنهج ، وتُقبَر في لغة أشبه باللغة ، إلا أنها مهينة لا تبين ولا تكاد تكون حرة مكرمة من أبناء ثقافتها ومن "حراس" هويتها الضائعة ! قد يقول قائل : " الثقافة لا مذهب لها ولا دين ، والمثقف حُرّ فيما يكتب وفيما يقول وفيما يناقش و عما ينقّب وينظّر ! هذا قول غير مُختَلف فيه من ناحية أن الإنسان الآن أصبح مُعوْلمًا غير منتمٍ لأرض أو لوطن أو ثقافة بذاتها ؛ بل الثقافة الحقة تبادُل غير 0ستبدال مقيت وتناسُخ غير 0ستنساخ مَعيب . الاختلاف يُضفي عليها صبغة التنوع ويرصّعها بجواهر الأصالة والانتماء ويمنحها لباسا مُهَلهلاً استطاع المثقف اليوم أن يكون حريصا على لباسه دون الالتفات إلى أنه يليق به أم لا ! فكيف يفلت المثقف الآن من هذا الشّرخ الصّارخ الذي يُجبِره على القفز أعلاه أو الوقوع أسفله عن طواعية دون إكراه ؟ لا سبيل إلى النجاة من فخ الإزدواجية الثقافية إلا بتصحيح مسار الانتماء ، والعودة إلى منابع "المعرفة الجوهرية" التي تمنح المثقف مناعة قوية من الذوبان والانصهار بسهولة أمام موجة الانسلاخ الذي يعْترِي الثقافة والمثقفين وكلّ أحوال الناس عامّة ونُخبة .