-6- حول المائدة: في بيت سامية، كانت الوجبة من سمكِ السردين. من بحر أزرق هذا السردين. يبدو له، وهو ضمن الملايين من أمثاله، أنه حرٌّ وحر وحر. يؤدي ما شاء من رقصات، وكأنه أسرابُ الزرزور، في وقت جني الزيتون. ثم تنتهي به الحرية أسير شِباك الصيد، ليصل في رحلة الحرية الزرقاء إلى صحن سامية. وما سامية إلا ابنة البحر الأزرق، يا لها من صُدف. أسيرٌ يلتهم أسيرا. يتحدث الأب أولا. هذا ما بقي من فروسية الرجال في عصرنا الأزرق هذا. فروسية المبادءة بالكلام في المنزل فقط، ومع الزوجة والأبناء. سيتحدث عن ماذا في نظركم، وهو قدوة أهل البيت، أو هكذا يتوهم؟ يقول، في رواية متواترة عن فيسبوكيين: مقابلة "الريال مدريد" لم تكن في المستوى، ظهر اللاعب رقم 10 مُنهكا، وكأنه قضى ليله يرقص في حفل زفاف مدريدي. هناك من سلط النقد على الحكَم متهما إياه بالتغاضي عن هفواتٍ من بعض لا عبي "البارصا". يُعلق أحمد، كبيرُ أبنائه، لأنه في المرتبة الثانية، من حيث المبادرة بالكلام المنزلي. يقول: اسمع يا عزيزي - هو لا يقول والدي- قلت لك إن البارصا هي البارصا، صعَدتم إلى السماء أم نزلتم إلى أعماق الأرض. تتدخل الأم، وهي الثالثة في الترتيب، بعد الذكور الفيسبوكيين: ألا تسألوني عن سعر السمك؟ ألا تشتهون سمكا آخر غير هذا السردين، المشكوك في كون غذائه من لحم المهاجرين؟ قبل أن يستجمع الزوج عناصر الإجابة، يرد الابن عِصام: شاهدت في الفيس شريطا مرعبا عن مهاجرين أفارقة غرقوا بسواحل الأبيض المتوسط، ربما قرب سبتة المغربية. يقتنص أحمد الفرصة: ها أنتم عند كلامي، كانوا في طريقهم لمشاهدة روعة الأداء، أداء البارصا طبعا وليس الريال. يقولها وهو ينظر جانبا جهة الوالد. تعلق سامية: منذ هولاكو ونحن في الفيسبوك، وما خلنا أننا سنخرج مع تعليق العزيزة الوالدة، حتى أعدتمونا إلى البحر الأزرق. متى نتحدث عن بغداد هولاكو، إنه فرض منزلي طالبنا به أستاذ التاريخ. يتذكر الأب، وهو أستاذ بدوره، خطأه وهو يدشن الكلام حول مائدة الغذاء. آه معكِ حق معك حق، كان علي، قبل فيسبوك، البارصا والريال، أن أسألكم عن دروس الصباح في مؤسستكم. لم أفعل لأني لا أريد لصاحب البارصا أن يدشن افتخاراته المعهودة، التي لا تنتهي. تتنهد الأم، حتى وأنت تُصحح تعود إلى ارتكاب نفس الأخطاء: البارصا الريال الفيسبوكيون الزرق.. تُعلق صغرى البنات، رِيمة، منهية نقاش المائدة: با با با با، أريد شراء "طابليت"، خاصة بي، جميع صديقاتي انتهت مطالباتُهن بالحصول عليها. تعلق الأم: حتى أنتِ، وماذا ستشاهدين في لوحتك الإلكترونية، وأنت لم تتعلمي حتى حروف العربية في لوحتك الطباشيرية؟ سأطَّلع على صفحة سامية في فيسبوك. هكذا انتهت وجبة الغذاء: مدخل إلى صحن السردين، من مُقبلات الفيس. و"دِسير" الختام، من أماني البنت الصُّغرى المتعلقة بفيسبوك اختها سامِية. عِمتِ ظهيرة أيتها العائلةُ الزرقاء. أما حديث غرقى الهجرة الاقتصادية، في أعماق البحر الأبيض المتوسط، فانتهى غريقا بدوره في بحر الفيس. أيها المهاجر القادم من بؤس إفريقيا الأزلي، والذاهب إلى حيث الأنوار، وحيث الخبز الأبيض، لم تعد غير شأن فيسبوكي، لا شأن له بإنسانيتك المهدورة، ولا يهم أن تطردك من بلادك عشرات السنين من النهب الكولونيالي، وترسيخ مقدمات الاستبداد في قارتك. كل هذا لا يهم، يمكن أن نتحدث عن أسلافك من السود الذين هُجروا إلى مزارع القطن الأميركية، ولا نتحدث عنك أنت. قضيتك اعتقلها فيسبوك، ومُحال أن تصل إلى تاريخ، لم يعد أحدٌ يهتم به. تماما كقضية سقوط بغداد تحت حوافر هولاكو، هذا موضوع للبحث، أما سقوطها الحديث فلا يهم أحدا، ولن يكون أبدا شأنا تاريخيا، بحجم القضايا الإنسانية الكبرى. الفيسبوك يؤسس تاريخه كما يشاء. الفيسبوك هو نهاية التاريخ، التي تحدث عنها فوكوياما. الفيسبوك تاريخ من لا تاريخ له. الشبح مرة أخرى: تدخل سامية إلى غرفتها لتستريح، راحتها المعهودة: فتحُ صفحتها والرد على آخر الفسبكات. أما أحمد، فهو في غرفته الآن يدردش مع أصحابه حول مستجدات برنامج المقابلات الكروية الاسبانية، حسب ما يبدو، وقد يكون في شغل آخر، لكنه لا يمكن أبدا أن يكون خارج فيسبوك، بما هو قارة سادسة. إنه هنا، تقول سامية بينها وبين نفسها، وهي تقصد الشبح. يتحرك شيء ما في داخلها، لعلها الخلايا التي ما تزال تحتفظ بلونها الأصلي. شيء ما يقول لها: إنك أنثى. وهذا الذي يبدو في صفحتك شبحا متواريا ذكرٌ، من الجنس الخشن الذي يثير. ما ذا تُراه يقول لها؟ حبيبتي "انجلاء"، وهذا هو اسمها الفيسبوكي، وهو اسم غير مرفق بغير زهرة "لوتس" مكان الصورة. أصدقاء الفصل وحدهم يعرفون من تكون انجلاء هذه. حبيبتي، ما وقْعُ الآهات على الليل، حينما يخلد كل حضن إلى حضنه؟ تبًّا لكن يا زرقاوات، أيتها السابحات في الزرقة الباردة، إنكن صرتن قطعَ ثلج. قتلتكن العولمة، وثقافة الثلوج المتجمدة. هنا الجزيرة، بحرارة لا تقل عن الثلاثين شِتاء. وهنا ابن الجزيرة، الأسمر، التائه وراء أخبار ليلى والمجنون. يا انجلاء، ينجلي الغم من صدري، حينما أتذكر أنك في مكان ما باردة، تطلبين شمس منتصف الليل. أنا هنا، الجاثم كشطر بيت شعري، ينتظر شطره الآخر، ليمضي وفق تفعيلات البحر الطويل، وهو الطويل الذي له دون البحور فضائل. يثير غيرتي امرؤ القيس إذ عقر للعذارى ناقته، يا ما أسعده وسط غزلان الصحراء، الخائفة من فروسيته. يا انجلاء ألا ينجلي يومُك؟ ألا ينجلي ليلك؟ ألا تخرجين إلى الشاطئ الحقيقي، لتتدفئي بالشمس الحقيقية. ألا تُلقين بالمثلجات من فمك، لترددي مع عمر بن أبي ربيعة، وهو قاب قوسين من سعادة حبيبته نُعْم: وغاب قُميْرٌ كنت أهوى غيوبه**وروَّح رُعيانٌ ونوَّم سُمَّرُ ألا تتجرئين أكثر، وتكوني حداثية غير زرقاء، وترددين مع شاعر المرأة نزار قباني: يا صلبة النهدين يأبى الوهم أن تتوهمي. نهداك أجمل لوحتين على جدار المرسم. كرتان من ثلج الشمال من الصباح الأكرم. ألا تُحطمي يا انجلاء؟ ألا تتحطَّمي؟ لو لم تستمع سامية إلى أختها الصغرى وهي تردد "مدرستي الحلوة" ما استعادت أنفاسَها. هذا ليس شبحا، هذا آدم في لقائه الغزلي الأول مع حوَّاء. تطفئ الشاشة، دون أن تُفسبك ولو كلمة واحدة، لأن ما استمعت إليه لا قاموس مقابلا له في الفيس حتى ترد به. تريد أن ترد، لكن ليس بقاموس أزرق. في دروس المساء، تواصلَ الملل الأزرق، أستاذ اللغة العربية يشرح، ويستشهد لدرس التشبيه بأبيات شعرية رائعة، لم يعد موجودا منها أي شيء، لا المُشَبَّه ولا المُشبِّه ولا المُشبَّه به، ولا وجْه الشبَّه. كل شيء مضى وانتهى، وبقيت بلاغتُنا –كما نحن-ظاهرةً صوتية لا غير، حينما نتحدث عن شيء، نتوهم أننا أنجزناه. المفكر السعودي عبد الله القصيمي، صاحب هذا الاكتشاف العربي العجيب-وقد اتخذ منه عنوانا لكتابه الرائع-صاحبُ كشْفٍ حقيقي لدواخلنا الصوتية فقط. حينما نتحدث عن شيء نتوهم أننا أنجزناه. هكذا يقول القصيمي. وحينما نتحدث عن الحب، نتوهم أننا أحببنا. فعلا حتى ولو لم نكن ظاهرة صوتية، فقد صيرنا فيسبوك كذلك، نفسبك ما شاء الله من أنصاف وأرباع الكلمات، بكل الأبجديات، ونتوهم أننا قمنا بكل المطلوب منا في جغرافيتنا هذه، وفي زمننا هذا. يتواصل درس البلاغة، وتتواصل استشهادات أستاذٍ مُسن، مقبل على التقاعد، وفي نفسه شيء من حتى: لماذا لم يسأله أي طالب، ومنذ طوفان الفيسبوك، عن أي شيء من درسه. إلى هذا الحد يتقاعد أستاذ، أفنى شبابه في تدريس الفصحى وقواعدها وشعرها، ولا يسأله أحدٌ عن دروسه. لا شيء في درس التشبيه يتحرك غير أنصاف الكلمات وأرباعها، منها ما يومض من المقعد الخامس إلى المقعد الأول، ومنها ما يومض من المقعد الثاني إلى المقعد الثاني في القسم الثاني. في القسم الثاني حيث أستاذٌ آخر منكوبٌ، ينتظر أسئلة من طلابه. نعم سيدي، العرب ظاهرة صوتية، بلون أزرق اليوم. وفي الأخير يدرك أستاذ البلاغة، خرائط َبعض الفسبكات فيقول: طيب أيها الزُّرق، اكتبوا لحبيباتكم في صفحاتِهن: لها رِدفٌ قد تعلق في لطيف**وذاك الردف لي ولها ظَلومُ يعذبني إذا فكرتُ فيه** ويُتعبها إذا راحت تقومُ. أعِيذك يا سُليمى من سليم** قتلتِ فتاهُم وهو الكريم تتعالى الضحكات، ويسأل أحدهم من المقعد الخامس: وما معنى: ذاك الرّدف؟ يجيب الأستاذ: صدقت في جهلك، ومن أين ستعرف هذا، وهو ليس من قاموس الفسبكة؟ أنت لا تعرف الأرداف، والأكتاف، لأنك لا ترى، طول يومك، غير الأقنعة. فيسبوكيات مقنعات، وهل تثير الفتاة المقنعة. يسكت، على أي حال، وفي قرارة نفسه اطمئنانٌ إلى أنه، وأخيرا، استمع إلى سؤال من تلميذ، قبل أن يتقاعد. وهو سؤال منفتح على أسئلة كثيرة. هكذا صيرنا البحر الأزرق ظاهرة صوتية فقط، لا نفقه في أردافهن، ولا هن يفقهن في فروسيتنا. يتبع