لما كان البحث في طبيعة الشيء معناه عادة البحث في ماهيته وفي جوهره، فسوف أحاول في هذه المقالة أن أتناول الجانب الجوهري الخفي للقضية الأمازيغية، على اعتبار أن أغلب ما كتب حولها من الدراسات كان يركز أكثر على جانبها الحركي النضالي الظاهري، وأنه في هذا السياق أرى أن القضية الأمازيغية إن كانت في شكلها الحركي ذاك تتمظهر بأوصاف عدة كوصف القضية الثقافية، أو وصف القضية الاحتجاجية، أو الاجتماعية، بل وحتى وصف القضية السياسية والاقتصادية، فإنه في عمقها الداخلي تتجلى بأوصاف أخرى غير معروفة من قبيل وصف القضية الإحيائية، أو القضية التحررية، أو التنويرية، بل وحتى وصف القضية النهضوية الحديثة، كما سيتوضح ذلك فيما بعد. وبالفعل، فالقضية الأمازيغية تشكل في جوهرها قضية وجود، أي مسألة حياة أو موت لنضالها من أجل إعادة الحياة للشعب الأمازيغي المعروف تاريخيا وجغرافيا واجتماعيا بأنه كان وما يزال مالك أرض شمال أفريقيا وصاحبها الشرعي، بدليل أن الفيلسوف "هيجل" في كتابه "العقل في التاريخ" كان يطلق على ملوك المغرب المعاصرين له اسم "ملوك البربر" وبدليل أيضا أن علم الخرائطية الدقيق كان إلى حدود القرن التاسع عشر يطلق اسم (LA BERBERIE) أي أرض البربر، على شمال أفريقيا، مثلما كان يطلق اسم (L'ARABIE)، أي أرض العرب، على الجزيرة العربية، واسم (LA PERSE)، أي أرض فارس، على بلاد إيران. فهذا الشعب الأمازيغي الذي كانت كل كتب التاريخ تشهد على كونه السباق في العالم الإسلامي إلى تحرير وطنه وكيانه من سيطرة الخلافة العربية في الشرق، وإلى تأسيس دوله وامبراطورياته الخاصة التي يحكم بها نفسه بنفسه انطلاقا من دول بني مدرار، وبورغواطة، وأوربة، التي يطلق عليها خطأ (الدولة الإدريسية)، مرورا بالمرابطين والموحدين وغيرهم قديما، إلى الدول المغاربية الحالية في العصر الحديث، هذا الشعب إن كان فعلا قد استطاع بقوته وبأسه أن يخلص وطنه من سيطرة الأمويين، فإنه مع الأسف لم يحرر عقله من ايديولوجيتهم العربية التي دسوها كالسم في الدين الإسلامي، فأدت به هذه الايديولوجية إلى التهافت وإلى الإقبال على الاستعراب، اعتقادا منه أن المسلم الحقيقي يجب أن يكون عربيا، وأن لغة الجنة بعد الموت هي العربية، وكان من النتائج السلبية لهذا الاستعراب العشوائي حدوث شرخ كبير في كيانه بين المستعربين الناطقين باللسان الدارج المستحدث، الذي يعتبر في عمقه لغة أمازيغية مترجمة حرفيا إلى العربية، وبين الذين ظلوا محتفظين بلغتهم الأمازيغية، بسبب احتمائهم في الجبال والغابات والصحارى النائية عن نفوذ الدول المركزية، هذا الشرخ اللغوي يوحي للبسطاء الجاهلين بحقيقة الأمور أنه انقسام عرقي بين العرب وبين الأمازيغ. إذن، من المحقق أن القضية الأمازيغية في سعيها هذا إلى بعث الحياة في الشعب الأمازيغي، وفي لغته الأصلية، تجعل من نفسها بامتياز حركة إحيائية، بالنظر إلى هدفها النبيل الرامي إلى ضخ الحياة في هذين الكائنين الحيين الطبيعيين، وذلك في مقابل القومية العربية والحركة الإسلامية اللتين تجعلان من نفسيهما بخصوص هذه المسألة حركتي إبادة وموت، بالنظر إلى هدفهما غير النبيل الساعي إلى القضاء على الشعب الأمازيغي وعلى لغته في هذا الوطن. ولا بد هنا من الإقرار بأن القضية الأمازيغية إن كانت في بداية نشوئها قد انطلقت كقضية ثقافية تراثية محدودة، تقتصر غايتها الكلية على المحافظة على التراث الشفوي الأمازيغي، وعلى القيام بدراسات وأبحاث حوله لإبراز جوانبه الايجابية، فإنها لما تحولت في المنتصف الأول لعقد السبعينات من القرن الماضي إلى قضية إحيائية بتبنيها بعث الحياة في اللغة الأمازيغية عن طريق الابداع والكتابة بها، عوض مجرد الكتابة عنها بلغات أخرى، ثم قيامها بالإعلان عن هذا المشروع الإحيائي بتأسيس فرقة اوسمان الغنائية، وبإصدارها لأول ديوان حداثي باللغة الأمازيغية، أقول لما قامت بهذا التحول الثوري انتفضت ضدها معارضة قوية، ذهب بعضها إلى وصف المشروع بمحاولة إحياء الظهير البربري بالغناء، وذهب البعض الآخر إلى رفضه تحت شعار: ((نعم للدراسات الأمازيغية، لكن لا للتمزيغ))، الذي يدعو إلى الاكتفاء فقط بالمحافظة على الأمازيغية كلغة تراثية ميته، في متحف أو في معهد خاص، وذلك بدلا من المطالبة بإحيائها. ومما يضفي الطابع الوحدوي على القضية الأمازيغية، وبالتالي يبعد عنها تهمة الانعزال والانفصال والتفرقة، أنها لا تحصر الشعب الأمازيغي المراد إحياؤه في الناطقين بالأمازيغية فحسب، بل تعتبر أن كافة مواطني شمال أفريقيا ينتمون إلى هذا الشعب، من دون أي تمييز بينهم في اللغة، أو في اللون، أو في النسب العائلي الخاص، أو في الموطن، وسندها في ذلك أن هذه الهوية الأمازيغية العامة المشتركة تستمد أصلها من الانتماء إلى أرض شمال أفريقيا الأمازيغية، وليس من أي انتماء آخر عرقي، أو ديني، أو ثقافي، فشعارها في هذا هو: إن كل من يعتز بشرف انتمائه إلى هذه الأرض الطيبة، يكتسب تلقائيا هويتها الطبيعية، تماما كما يكتسب الهوية الفرنسية من ينتمي إلى أرض فرنسا، والهوية الأمريكية من ينتمي إلى أرض الولاياتالمتحدةالأمريكية، وهكذا دواليك في كل بقاع العالم. ثم إن القضية الأمازيغية في سعيها كذلك إلى تحرير أرض وطننا من التبعية للوطن العربي في الشرق تجعل من نفسها أيضا حركة تحررية حقيقية، لنضالها من أجل كرامة شعبنا بتحقيق سيادته الكاملة القائمة على هذه الأثافي الثلاث: - سيادة الوطن. - سيادة الكيان. - وسيادة اللسان. هذه الأثافي التي لخصها شباب الحركة الأمازيغية في الشعار المشهور: أكال، أي الأرض، أوال، أي اللسان، امادان، أي الكيان أو الشعب، معبرين عنه برفع ثلاثة أصابع اليد. وفي هذا الصدد، أشير إلى ملاحظة هامة هي أن الحركة الوطنية الاستقلالية إن كانت قد حررت وطننا من الاستعمار الفرنسي والإسباني والايطالي، فإنها مع الأسف قد قامت بإلحاقه مجانا بالجزيرة العربية معتبرة إياه جزءا لا يتجزأ من الوطن العربي، الشيء الذي جعلها تبدو في عملها ذاك وكأنها نزعت بلادنا بيدها اليمنى من الغرب، لتقدمها بعد ذلك بيدها اليسرى لقمة سائغة إلى الشرق، ولذلك جاءت القضية الأمازيغية لتصحح هذا الخلل مقررة أن كل مقومات سيادتنا الوطنية أصيلة وعريقة، حرة ومستقلة لا تنتمي لا للغرب ولا للشرق. ويدخل في هذا الباب التحرري أيضا سعي القضية الأمازيغية إلى تحرير إنتاجنا الثقافي والحضاري القديم والحديث من الهيمنة الأجنبية، على اعتبار أنها تضفي الصبغة الأمازيغية على كل ما أنتجه أفراد الشعب الأمازيغي خلال العصور بلغات أخرى كالبونيقية، واللاتينية، والعربية، والإسبانية، والفرنسية، والإنجليزية، مقررة دخول هذا التراث في ملكيته الأدبية والفنية، معتبرة أن كل محاولة لنسبته إلى الغير تعد سرقة واختلاسا ينبغي التصدي لها. والقضية الأمازيغية في اعتمادها على العقل وما أفرزه من علوم وتقنيات حديثة في إقناع شعبنا بتصالحه مع ذاته، ومع تاريخه ومستقبله، ومع وطنه، ومع تراثه الحضاري، ومع دينه، ومع نظامه السياسي، تجعل من نفسها بحق قضية تنويرية، لسعيها إلى تخليص مجتمعنا من القصور الفكري الذي عانى منه، والذي قيده عن الالتحاق بدرب الأنوار والتطور. والقضية الأمازيغية في نهاية المطاف تعتبر في جوهرها قضية مجتمعية نهضوية لاعتمادها على المرتكزات والأسس نفس التي استندت إليها الشعوب الأوروبية في نهضتها، هذه المرتكزات التي تتمثل كما هو معلوم في ما يلي: - انفتاح الشعوب الأوروبية على تراثها القديم وعلى التاريخين اليوناني والروماني. – اعتمادها في نهضتها على لغاتها الوطنية المحلية بدلا من اللغة اللاتينية السائدة. – اعتمادها أيضا على استخدام العقل بغير توجيه من أي كان، وإيمانها بقدرة هذا العقل على السير بها في طريق نهضتها. ومن الثابت أن القضية الأمازيغية قامت بدورها بتأسيس مشروعها المجتمعي النهضوي على هذه الأسس نفسها، لثبوت انفتاحها على تاريخ شعبنا القديم، بعد أن كان هذا التاريخ يعتبر في عرف ثقافتنا السائدة من مخلفات الجاهلية المنبوذة، ثم لثبوت قيامها كذلك بالدعوة إلى اعتماد اللغة الأمازيغية الوطنية، وإلى الاعتزاز بهويتنا الأصلية العريقة، ثم أيضا لثبوت استخدامها للعقل وما أفرزه من علوم وتقنيات حديثة في الدفع بمجتمعنا إلى التصالح مع ذاته ومع تاريخه ومع كل مكونات وطنه. ويمكن القول إجمالا إن ما يبرهن على صدق وعدالة القضية الأمازيغية هو أن جل أفكارها الاحيائية والتحررية نجدها منعكسة في دستور سنة 2011، الذي أعلن المغاربة من خلاله عن كشف هويتهم الأمازيغية، وعن الاعتزاز بها، بعدما كانوا طيلة قرون عديدة يخجلون منها ويخفونها عن الأنظار، كما أعلنوا فيه عن ترسيم لغتهم الأمازيغية مع إدماجها في جميع مجالات الحياة العامة، مقررين في شجاعة بطولية نادرة تحرير أرض وطنهم من التبعية للوطن العربي في الشرق، وتأكيد انتمائها إلى وطنها الأصلي "المغرب الكبير". فمما لا شك فيه أن التاريخ سيسجل أن دستور سنة 2011 بحمولته التحررية العميقة يشكل بحق لحظة تحول فارقة ومفصلية في مسار حياة شعبنا، من شأنها أن تعيد تحقيب تاريخه إلى عصرين بارزين هما: عصر بائد كان فيه مجتمعنا شاردا لغياب وعيه بذاته، وعصر جديد هو عصر الرشد الذي تم فيه استرداد هذا الوعي، تماما كما ينقسم تاريخ الشعوب الأوروبية بعد استرجاعا لوعيها الذاتي إلى عصرين مختلفين هما: عصر القرون الوسطى المظلمة، وعصر الأنوار الجديد. وإذا ما صح تجسيد مضمون الفصل الخامس من هذا الدستور لفكرة إحياء الشعب الأمازيغي، فيصح القول كذلك إن مصطلح la renaissance الدال حرفيا على معنى الولادة الجديدة، الذي يؤرخ لنهضة الشعوب الأوروبية، ينطبق تمام الانطباق على شعبنا في العصر الحاضر، لثبوت وقوع إعادة خلق جديد له، انتقل به من مصير الموت والانقراض الذي قادته إليه الأيديولوجية العربية التقليدية والمعاصرة، إلى أنوار الحياة ودفئها، التي تقوده إليها إرادة الحياة والوعي بالذات.