من المحقق أن الخطاب الأمازيغي يتميز عن غيره من الخطابات الفكرية الأخرى المتواجدة في بلادنا بخصوصية مفادها أنه لم يكن في بداية ظهوره مشروعا فكريا محددا، واضح المعالم والأهداف، بل كانت ملامحه تتشكل مع مرور الزمن بمبادرة رواده أفرادا وجمعيات، متكيفا في نموه مع الظروف والحاجات والاهتمامات وكذا الإكراهات، ما جعل مساره في حياته شبيها بمسار كائن حي يترعرع ببطء وبشكل تدريجي، ولهذا اعتقد أن مقاربته بصفته هذه، ككائن حي، تجعلنا قريبين أكثر من فهم تشكلاته المختلفة، وأنه في هذا السياق يمكن تشبيه نموه بنمو شجرة سنديان فتية، وسط أعشاب وأشجار أخرى معادية تحاصرها من جميع الجوانب لمحاولة خنقها، فنعتبر بذلك ريادة الأستاذ محمد شفيق في الاهتمام بالتراث الشفوي الأمازيغي لإبراز جوانبه الإيجابية المجهولة بمثابة البذرة الأولى لهذه الشجرة الأمازيغية، ونعتبر تأسيس الجمعية المغربية للبحث والتبادل الثقافي التي نقلت الخطاب الأمازيغي من العمل الفردي المعزول إلى العمل الجمعوي الجماعي بمثابة انبثاق غصنها الأول، ثم نعتبر تحول هذه الجمعية من الدفاع عن الثقافة الشعبية الأمازيغية إلى الدفاع عن إحياء اللغة الأمازيغية بالذات، عن طريق الإبداع والكتابة بها عوض مجرد الكتابة عنها بلغات أخرى، شكل بزوغ غصنها الثاني، كما شكل تأسيس جمعية تاماينوت غصنها الثالث نظرا لما قامت به هذه الجمعية من نقلة نوعية للخطاب الأمازيغي بربطها إياه بالحقوق اللغوية والثقافية. وشكل أيضا تأسيس جمعية الجامعة الصيفية بأكادير انبثاق غصنها الرابع، على اعتبار أن الخطاب الأمازيغي برهن من خلال أعمال هذه الجمعية على اعتماده على ركيزة العقل وعلى ما أفرزه هذا العقل من علوم وتقنيات حديثه، في الإقناع بمشروعيته وبنبل أهدافه، معلنا لأول مرة عن تبني هذا النهج العلمي–المعتمد على قوة حجة وليس على حجة القوة-في ندوة السبت 23 غشت 1980 المنعقدة في الدورة الأولى لهذه الجمعية. أما ميثاق أكدير التاريخي الصادر عن تكتل الجمعيات الأمازيغية الرائدة المعروفة، فيمكن اعتباره بمثابة بزوغ غصنها السادس، الذي انتقل به الفعل الأمازيغي من النضال الجمعياتي الداخلي المحدود إلى النضال الجمعوي المشترك والموحد، ذي الطابع السياسي من منطلق صياغته-في هذا الميثاق-تصوراته في شكل مطالب محددة موجهة لأول مرة إلى السلطة وإلى الرأي العام. كما يعتبر تأسيس مجلس التنسيق بين الجمعيات الأمازيغية الهادف إلى تطوير العمل الأمازيغي المشترك بمثابة غصنها السابع، والكونجريس العالمي الأمازيغي بمثابة غصنها الثامن. هذا وبعد أن فقد العمل الأمازيغي قوته ووهجه بسبب تأزم مجلس التنسيق وانحلاله، جاء بيان شفيق من أجل أمازيغية المغرب، ليعيد إلى هذا العمل حيويته ونشاطه فشكل بذلك غصنها التاسع. وطبعا لا يمكن لأحد أن ينكر ما أعطاه خطاب العرش لسنة 2001، وكذا خطاب أجدير في السنة نفسها، من دفعة قوية للخطاب الأمازيغي، إذ بفضلهما ازداد هذا الخطاب انتشارا وتوسعا، وبفضلهما أحدث لأول مرة في التاريخ معهد يعنى باللغة الأمازيغية وبتطويرها وتوحيدها، ولذلك أرى أن مفعولهما الكبير في المحافظة على الأمازيغية وفي النهوض بها له قوة السماد الغذائي الضروري الذي أمد الشجرة الأمازيغية ككل بقوة الحياة التي كانت بحاجة إليها، والذي زاد جدعها صلابة وضخامة واستقامة. ومما يلاحظ أنه على الرغم من تتويج الخطاب الأمازيغي بصدور دستور سنة 2011 الذي نص على ترسيم الأمازيغية، وعلى الاعتراف بالبعد الأمازيغي في الهوية الوطنية، فإن نمو شجرته لم يتوقف، بدليل انبثاق أغصان أخرى جديدة لهذه الشجرة من قبيل الغصن الذي ربط الخطاب الأمازيغي بالدفاع عن الأرض، وعن الممتلكات الخاصة لحمايتها من الضم إلى الملك الغابوي، ومن الاستغلال الجشع للشركات التجارية، وكذا الغصن الذي ربطه بالعلمانية وبالدولة المدنية التي تقر بالهوية الأمازيغية للمغرب، ثم أيضا الغصن الذي ربطه بدستور ديمقراطي يكرس حقوق الإنسان، ويعتبر القانون الطبيعي والأعراف الأمازيغية المتطابقة مع هذا القانون مصدرا للتشريع، مع إقرار سمو المعاهدات والاتفاقيات الدولية على القانون الوطني. ومما لا شك فيه أن هذا التشخيص التوضيحي لنمو الخطاب الأمازيغي سيثير بداهة في الذهن هذا السؤال: ما هو يا ترى المدى الأعلى لهذه الشجرة الأمازيغية؟ أو بعبارة أوضح، متى يكتمل بالضبط نمو الخطاب الأمازيغي؟ والحق أنني كنت مشغولا كثيرا بإشكاليات هذا السؤال، ما جعلني أطرحه على أعضاء اللجنة المكلفة بصياغة البيان الختامي للدورة العاشرة لجمعية الجامعة الصيفية سنة 2012، على اعتبار أن الخطاب الأمازيغي كان في ميثاقه الصادر بأكادير قد ركز كل مشروعه على الأهداف التالية: الإقرار بمشروعية اللغة الأمازيغية مع التنصيص عليها في الدستور، وإدماجها في التعليم والأعلام وفي مجالات الحياة العامة، ثم على الاعتراف بالبعد الأمازيغي في الهوية الوطنية، ثم أيضا على إنشاء معهد للدراسات الأمازيغية، فجاء دستور سنة 2011 ليستجيب لكل هذه الاهداف، بل ويزيد عليها أهدافا أخرى أكثر تقدمية، مثل تحرير أرض وطننا من التبعية للوطن العربي في الشرق، بتأكيده انتمائها إلى وطنها الأم: المغرب الكبير، والتنصيص كذلك على جعل الأمازيغية لغة رسمية، وهما المبتغيان اللذان لم يكونا واردين في ميثاق أكادير سالف الذكر، وأنه والحالة هذه فإن الحركة الأمازيغية إن لم تكن لها أهداف أخرى جديدة، فإن مشروعها يمكن أن يعتبر في حكم المنتهي بصدور هذا الدستور، من منطلق أن الاقتصار فقط على المطالبة بتفعيل مقتضياته لا يعتبر من قبيل الأعمال الاستراتيجية الكبيرة للخطاب، بل فقط من قبيل التدابير الإجرائية والتنفيذية، وبعد تداول أعضاء اللجنة في كل الإشكاليات المطروحة صاغت بيانا في شكل نداء سمته: "نداء أكادير" يستشف منه تبني الحركة الأمازيغية لأهداف استراتيجية جديدة تعلن بموجبها للرأي العام أن مشروعها المجتمعي لم ينته بعد. إذن، يبدو مما سبق أن الخطاب الأمازيغي بعد أن كان في بداياته يعمل من دون أن يتوفر مسبقا على مشروع فكري محدد، واضح المعالم والأهداف، فإنه حاليا يمكن القول إن ملامح مشروعه أصبحت واضحة، وشبه محددة، بإمكان أي ملاحظ لبيب أن يرصدها من جميع أعمال وأدبيات هذا الخطاب منذ نشأته إلى الآن. هذه الملامح يمكن حصرها في ما يلي: أولا: أن هذا الخطاب يعتبر في جوهره قضية وجود، أي قضية حياة أو موت، لأنه في سعيه إلى بعث الحياة في اللغة الأمازيغية، وكذا بعثها في الشعب الأمازيغي، يجعل من نفسه بامتياز حركة إحيائية، بالنظر إلى هدفه النبيل الرامي إلى ضخ الحياة في هذين الكائنين الحيين الطبيعيين. وهنا اعتقد أن تعريف ارسطو للحركة يجعلنا مدركين لقيمة هذا الهدف الإحيائي السامي الذي كرس الخطاب الأمازيغي حياته من أجله، فهذا الفيلسوف قسم الحركة إلى ثلاثة أنواع هي: 1-حركة تبتغي من عملها نقل الشيء من العدم إلى الوجود، أي من الموت إلى الحياة، وهذه الحركة تسمى حركة إحياء، لاستهدافها مد الشيء بالحياة. 2-حركة ثانية هي نقيض للأولى لابتغائها من عملها نقل الشيء من الوجود إلى العدم، أي من الحياة إلى الموت، وهذه الحركة تسمى حركة إبادة وقتل، لتوخيها انتزاع الحياة من الشيء. 3-ثم حركة ثالثة تقصد من نشاطها نقل الشيء من وجود إلى وجود آخر، وهذه تسمى حركة تغيير، لأنها تبقي على الشيء مع تغيير شكله أو مكانه. إذن، بتطبيق هذا التعريف الأرسطي على حركات المجتمع المدني المنتشرة في بلادنا في تعاملها مع اللغة الأمازيغية، نفهم أن الحركة الأمازيغية تصنف ضمن النوع الأول، أي حركة إحياء لاستهدافها إعادة الحياة إلى هذه اللغة، بينما حركة القومية العربية وكذا الحركة الإسلامية تصنفان ضمن النوع الثاني لتوخيهما زرع الموت فيها. ثانيا: إن الخطاب الأمازيغي يعتبر كذلك خطابا تحرريا، لأنه في سعيه إلى تحرير وطننا من التبعية للوطن العربي في الشرق، فإنه بذلك يجعل من نفسه أيضا حركة تحررية حقيقية، تراهن في نضالها من أجل كرامة شعبنا، بتحقيق سيادته الكاملة القائمة على الأثافي الأربع التالية: سيادة الوطن سيادة الكيان سيادة اللسان وسيادة الجنان، أي سيادة العقل، من منطلق إدراك أن الأركان الأربعة للسيادة الكاملة، لا تتحقق إلا بسيادة العقل. هذا، ومما يؤكد الطابع التحرري للخطاب الأمازيغي، سعيه كذلك إلى تحرير تاريخنا القديم من الإقصاء والتهميش، وسعيه أيضا إلى استرداد إنتاجنا الثقافي والحضاري لمختلف العصور من الهيمنة الأجنبية. ثالتا: إنه أيضا خطاب تنويري، لأنه في اعتماده على العقل وعلى ما أفرزه هذا العقل من علوم وتقنيات حديثة، يجعل من نفسه حركة تنويرية، تراهن على تخليص مجتمعنا من القصور الفكري الذي قيده عن الالتحاق بعالم الأنوار والتطور. رابعا: إنه خطاب نهضوي، لأنه بسعيه إلى تحقيق دولة مدنية علمانية تقر بحقوق الإنسان، وبدستور ديمقراطي يعتبر القانون الطبيعي والأعراف الأمازيغية المتطابقة معه مصدرا للتشريع، مع سمو المعاهدات والاتفاقات الدولية على القانون الوطني، فإنه يجعل من نفسه حركة نهضوية تراهن على تقدم مجتمعنا بوضعه في الطريق الصحيح للحداثة وللرقي. ومن المفارقات العجيبة أن المرتكزات التي كانت الشعوب الأوروبية قد استندت إليها في نهضتها، والتي تتمثل كما هو معلوم في: انفتاحها على تراثها القديم وعلى التاريخين اليوناني والروماني. واعتمادها في نهضتها على لغاتها الوطنية المحلية بدلا من اللغة اللاتينية السائدة ثم اعتمادها أيضا على استخدام العقل بغير توجيه من أي كان، وإيمانها بقدرة هذا العقل على السير بها في طريق نهضتها. أقول هذه المرتكزات نفسها استند إليها الخطاب الأمازيغي في مشروعه النهضوي، بدليل انفتاحه على تاريخ شعبنا القديم بعد أن كان هذا التاريخ يعتبر في عرف ثقافتنا السائدة من مخلفات الجاهلية المنبوذة، وبدليل أيضا أنه دعا إلى اعتماد اللغة الأمازيغية الوطنية في الثقافة وفي التنمية، ثم بدليل ثبوت استخدامه للعقل وما أفرزه هذا العقل من علوم وتقنيات حديثة في الدفع بمجتمعنا إلى التصالح مع ذاته، ومع لغته، ومع تاريخه، ومع دينه، ومع نظامه السياسي، ومع كل مكونات وطنه. خامسا وأخيرا، إنه خطاب تقدمي مستقبلي، لأنه لا يقصد من إحيائه للغة الأمازيغية وللشعب الأمازيغي مجرد الإحياء الماضوي الرجعي المتخلف، بل يقصد منه تطويرهما إلى الأفضل، في وطن حر ومزدهر، وفي دولة ديمقراطية حداثية ينعمان في ظلها بالعيش الكريم.