أطلقوا اسمها على مؤسسة ثقافية تمتح من الذاكرة الحضارية للأندلس على الرغم من سقوط الأندلس لقرون خلت، لا يزال كبرياء وعبق الحضارة العربية الإسلامية، يستحوذ على مجاميع الباحثين والمثقفين الإسبان، الذين ما فتئوا ينبشون في ذاكرة إنسانية جمعت كل المنتسبين للديانات الثلاث، على نمط خاشع من الإمتاع والمؤانسة في كل المجالات التي بلغ فيها الأندلسيون شأوا بعيدا من الفن والإبداع والعمارة والآداب وسائرالعلوم.ولعل إسم اعتماد الرميكية الذي لا تزال تتجمل به فضاءات مدينة اشبيلية في جنوباسبانيا يثير فضولا ثقافيا لدى زمرة من مثقفي هذه المدينة التي لا تزال تحافظ على قشيبها الأندلسي بكل روافده العربية الإسلامية،حيث كانت اعتماد الرميكية سيدتها الأولى كسجع حمام يطوق المعتمد بن عباد أمير الشعراء في عهد الطوائف وأخر ملوك بني عباد بالأندلس، ،وهذا ما أوعز نخبة من الكتاب والشعراء والمفكرين والفنانين الإسبان تحدوهم رغبة جامحة، في استعادة مجد وكبرياء سيدة اشبيلية الأولى التي عاشت عصر ملوك الطوائف بالأندلس حين كانت فيها شمس دولة بني عباد تميل نحو الأفول،وليجعلوها سلوة أنفاسهم وذاكرة مؤسسة ثقافية تهتم بالثقافة والفكر والإبداع بمدينة اشبيلية حاضرة إقليم الأندلس اليوم ،وهي سنة دأب عليها الإسبان خلال السنوات الأخيرة وهم ينفضون غبار الإهمال والنسيان عن الشخصيات المائزة والوازنة التي نمقت تاريخ اسبانيا في مرحلته الإسلامية السامقة، على نحو ما فعلت مدينة لوشة الأندلسية القريبة من غرناطة حين أطلقت إسم العلامة لسان الدين بن الخطيب دفين مدينة فاس على إذاعتها المحلية احتفاء بذاكرته الأدبية التي بلغت حدا لايوصف من التوقد والألمعية في علوم وفنون متعددة، وما فعلت أيضا مدينة ألمرية التي مافتئت أن أطلقت إسم الفيلسوف ابن طفيل صاحب رسالة حي بن يقظان الشهيرة على مؤسسة ثقافية وفكرية وأكاديمية مهتمة بالتراث الأندلسي في حقبته العربية الإسلامية.وتروم مؤسسة اعتماد كما تمت تسميتها من لدن زمرة من المثقفين الإسبان ،والتي جمعت فسيفساء من الفعاليات التي تشتغل على الكتابة والشعر والتشكيل والتصوير والموسيقى ر،أن تعيد الإعتبار لسيدة إشبيلية الأولى التي كانت مضربا رائعا للإبداع من خلال مشاركاتها في قرض الشعر، خاصة وأن الذاكرة الأندلسية لا تزال تحتفظ لها بشذرات من شعر مأثور باعتبارها زوجة وحظية المعتمد بن عباد ملك اشبيلية وأمير دوحة الشعر بها، والذي كانت لياليه مصابيح ترعى النجوم من كثرة تزاحم الشعراء والكتاب في بلاطه. وبالرغم من حداثة هذه المؤسسة الثقافية على أرض الواقع ،والتي اتخذت من اشبيلية مرتعا لأنشطتها الإشعاعية ولقاءاتها الفكرية،فإنها استطاعت أن تنافس مؤسسات ثقافية أخرى من خلال إشتغالها على قضايا الأدب والفن والشعر والتشكيل وذلك عبر مواكبتها لحركة النشر والتأليف لأعلام اسبانيا خاصة المنتمين للتربة الأندلسية الخالصة، وهذا ما يذكيه شعورها بإيلاء الثقافة والفن والإبداع أهمية في ربط جسور الماضي التليد بواقع الحاضر الراهن واستشراف آفاق المستقبل،علاوة على نبشها في ذاكرة الأندلس المنسية من خلال استنطاقها للتاريخ والوثائق والمخطوطات بشكل يعيد لإشبيلية عبقها وبريقها الثقافي المميز الذي عرفته خلال عهودها العربية الإسلامية، بما يفتح باب الحوار عبر بوابة تاريخ المدينة الذي نمقته كتابات ورسوم إبداعية خالصة.والمعروف عن اعتماد الرميكية أنها كانت جارية لدى الرميك بن حجاج، حيث تعرف عليها المعتمد بن عباد عبر موقف طارىء وطريف،فقد ركب أمير اشبيلية ذات يوم لج الوادي الكبير،صحبة صديقه الوزير والشاعر ابن عمار الشلبي المتوفى عام 488 ه ،حيث زردت الريح النهر فارتجل المعتمد لابن عمار ماقوله: : صنع الريح من الماء زرد ...على أساس أن يقوم ابن عمار بإتمام ما ارتجله المعتمد بن عباد، وهو الشاعر المشار إليه بأطراف البنان بما تميز به من توقد وألمعية وسرعة البديهة.بيد أن لسانه تلعثم ولم يستطع إكمال ما ارتجله المعتمد،فانبرى صوت إمرأة من الموجودات بالنهر،من الغاسلات تحديدا، مجيبة بنبرة عذبة رقيقة ماقوله : ( أي درع لقتال لو جمد) فأعجب المعتمد بن عباد أيما إعجاب بالكلمات المتناسقة المرتجلة وبالدفقات الشعرية الآسرة التي جاءت منسابة مع مراد القول، فنظر إليها ،فإذا هي ذات حسن ورواء .. حيث بقي مشدوها لحلاوة لسانها وإشراقة محياها ورواء مبسمها ،فسألها؟ أذات زوج هي،فقالت لا فاشتراها وتزوجها وأصبحت قرة أعينه وأم أولاده أمراء بني عباد،حيث كان المعتمد قبل ارتباطه بها يلقب بالمؤيد والظافر لينظم حروف إسمها دنوا منها وإجلالا وتقديرا لها في مقطوعة شعرية رائقة حفظتها لنا مصنفات الشعر الأندلسي : أغائبة الشخص عن ناظري وحاضرة في صميم الفؤاد عليك السلام بقدر الشجون ودمع الشؤون وقدر السهاد تملكت مني صعب المرام وصادفت مني سهل القياد مرادي أعياك في كل حين فيا ليت أني أعطى مرادي أقيمي على العهد في بيننا ولا تستحيلي لطول البعاد دسست اسمك الحلو في طيه وألفت فيك حروف " اعتماد" وقد عرفت اعتماد الرميكية في كتب السير والتاريخ بالسيدة الكبرى، حيث كانت تكنى بأم الربيع،فقد أنجبت من المعتمد بن عباد الملوك والأميرة بثينة التي ورثت من والدها قسمات الشعر ومن أمها جمالا تضوع له الأطياب. كما عاشت اعتماد رفقة المعتمد لحظات السموق في اشبيلية ملكة مبجلة ومنعمة بكل مظاهر الترف والتنعم بملذات الحياة، حيث تحفظ لها أضابير التاريخ قصة يوم الطين التي اشتهرت بها بعدما أثارت نقمة الفقهاء على المعتمد الذي رضخ لطلبها وصرف أموال طائلة في سبيل ذلك، حين أمر لها بالعنبر والمسك والكافور وماء الورد وصير الجميع طينا في القصر. وجعل لها قرباً وحبالاً من إبريسم، لتركض هي ومن معها من جواري في ذلك الطين، قبل أن تتقلب عليها وعلى زوجها عوادي الزمن، حين سيق معا إلى المغترب الأبدي بأغمات ضواحي مراكش بعدما انفرط سلك دولة بني عباد باشبيلية وقرطبة معا. *إعلامي وأكاديمي