ها هو يوسف زيدان يعمل مرة أخرى خياله الخصب وأسلوبه المبدع القوي في صلب التاريخ وأحداثه فينطقه، وينجب لنا رائعة روائية تجب كل ما خطه قبلها من روايات كانت دائما جميلة المبنى وعميقة المعنى.. الفردقان أو اعتقال الشيخ الرئيس، الذي ليس سوى أبي علي الحسين بن سينا الحبيس بسبب اضطرابات السياسة وتقلباتها وتنازع أولي الحكم عليه للاستئثار بعبقريته النفسية الفريدة، فسجنوه أمدا معينا في هذه القلعة التي أعطت للرواية اسمها في انتظار أن يقرر القدر من سيفوز به منهم بعد أن يضع الصراع والحرب أوزارهما. لقد ذاق ابن سينا مرارة الحسبة على الأفكار، التي مارسها الحكام والدهماء، على السواء، عبر التاريخ العربي الإسلامي ضد النابهين، مثله مثل الكثير منهم كالإمام مالك وأبي حنيفة والحلاج والشافعي والبخاري وابن حنبل وابن رشد ولسان الدين بن الخطيب. هاجمه العامة بتأليب من أصحاب المصالح ونهبوا داره وسلبوه معشوقته، فأدموا قلبه واضطروه للاختباء، كما ورد في فصول الرواية، ثم قادته تصاريفهم الخرقاء إلى السجن كذلك في تلك القلعة. ولكنه تنعم في هذا السجن، وهذا هو الاستثناء، الذي طبع هذا الطور من محنه بدلال خاص ومعاملة لائقة من آمر القلعة المسمى المزدوج الذي كان سجانا متنورا قدر القيمة العلمية لابن سينا، فكانا بينهما سجانين وسجينين على السواء. لقد كان سجنا يكاد يشبه ما نسميه اليوم الإقامة الجبرية، التي يكابدها عادة من يثيرون القلاقل برؤاهم ومشاريعهم التي لا تهادن المألوف مما اعتاده الحكام والنافذون معهم وبجنبهم سواء في مجال السياسة أو مجال الأفكار، سيان بينهما. فالأفكار بنات السياسة وأمهاتها.. ما ميز هذه الرواية عندي أكثر أنه كان لي الحظ أن أحصل على نسختي منها هنا في القاهرة من دار الشروق قبل أن تسافر إلينا في المغرب وإلى ربوع العالم العربي، فاستغرقتني وشدتني إليها شدا، ربما بحكم تكويني كطبيب، وربما لغرامي بما يكتبه زيدان، مع أني لا أوافقه في بعضه أو جله ههههه. . ورغم أننا لم نفرغ لبعضنا البعض، فإن هذه الرواية أضاءت مع ذلك ظلالا معتمة من فهمي لهذا المثقف المثير للجدل الذي اسمه يوسف زيدان. في هذه الرواية يستمر يوسف زيدان في تنفيذ مشروعه الفكري، الذي يراهن عليه في تحرير التاريخ العربي الإسلامي من قبضة الحكام والقادة السياسيين، الذين صبغوه بلون الدم القاني، الذي يثير شهوة العنف والاقتتال على المناصب والنفوذ والسلطة، وجعله، كما ينادي في شجونه لأول مرة، تاريخا للشعوب وللعباقرة من أبناء الأمة الإسلامية على توالي العصور، القادرين وحدهم على أن يحيلوه تاريخا أخضر زاهرا يانعا بالثمار التي تغري بالابتكار. مع ابن سينا يبدأ الروائي المستبصر في صياغة مفهوم البطولة كما يراه، والذي لا يرادف عنده شيئا آخر غير العلم وإعمال العقل في الواقع. فالعقلانية هي الأجدر أن تبني الحضارة وتشيد الأمم كما يقول يوسف زيدان، فيشدد بإصرار وقوة على ضرورة بعث ذوي الإنتاج المعرفي من مرقدهم في العقل العربي من العلماء والعباقرة، والاحتفاء بهم وتبجيلهم لأنهم وحدهم من يحضون على سعادة الإنسان دون شقائه. وليس هناك أفضل بالطبع من المعلم والحكيم ابن سينا للقيام بمثل هذه المهمة العظيمة، التي يسخره لها زيدان في هذه الرواية كمثال يتعين إحياؤه.. ابن سينا الفيلسوف الحاذق المغرم بعلوم المنطق والإلهيات، الحكيم المعجزة الذي لا يشق له غبار في الطب وعلاج الأمراض، وحيد عصره المطلع على علوم الأولين والمتأخرين في مكتبة الحاكم الساماني نوح بن منصور.. ابن سينا الذي تتلمذت على يده نخبة من المريدين المنتقين الأوفياء، والذين سينقل منهم حواريه المفضل أبو عبيد الجوزجاني سيرة هذا المعلم، التي سيستقي منها زيدان على ما أظن لبنات بناء روايته، كما سبق أن فعل ذلك سينويه في روايته "الطريق إلى أصفهان". ولكن زيدان يتميز في هذه الرواية كثيرا، فالعبرة ليست في أحداث الحياة، بل في الإشارات والدلالات الزاخرة بها هذه الحياة. فابن سينا لم يكن سوى معبر له كي يناقش ويلمح إلى قضايا كبيرة ترهن الواقع العربي الآن مما سنأتي على ذكره. ففي حلقات العلم تلك التي كان ابن سينا، كما يسرد يوسف زيدان، يعقدها للبحث والنظر والتأمل، كان يبيح فيها لحبيبته روان الجميلة، التي هام بحبها، بأن تقعد مع طلابه للدرس والتحصيل، فيريد زيدان بهذا التفصيل أن يعيد أيضا الاعتبار إلى مفهوم الأنوثة التي تصلح، بل يحق لها العلم، ولِمَ لا وقد فعل ذلك ابن سينا وهو من هو مع معشوقته، وهي تلك الأنثى التي لا تمنعها حظوتها كمحظية المعلم أن تجلس وتدرس بين الرجال، بل هي المملوكة له التي لا يمنع رقها من تعليمها، ولكنها أيضا تلك النحيلة أو رشيقة القوام التي جعلته لأول مرة يزهد في الممتلئات من النساء . لقد أفلح يوسف زيدان بيراعه المدرب على الحكي، ومن خلال قدرته الفائقة على سكب الرؤى الفلسفية العميقة في القوالب الإبداعية، مرة أخرى وكعادته في أن ينقل لنا حياة ابن سينا بحذافيرها من خلال "الفردقان"... لنتعرف معه على ابن سينا الذي لم يتزوج قط، والذي اكتفى بملك اليمين، وعلى ابن سينا الذي كان مولوعا بالنساء شديد الانجذاب إليهن، ثم على الحكيم الذي كان يقضي يومه في علاج المرضى صباحا، والتدريس والبحث في المنطق والإلهيات عصرا، والصلاة والشراب والارتماء في أحضان الحب ليلا. لقد نجح كاتبنا ببراعة في رسم صورة ابن سينا، الذي كان يطلب حظه من الدنيا والآخرة، فكان تقيا ورعا مع العامة، مسرفا في الملذات، منطلقا في الحياة مع الخاصة، بالضبط كما تناهى إلينا. لكنه يتناهى إلينا هذه المرة في قالب روائي بديع لا يهز مقام أعظم طبيب عرفته البشرية إذا قيمناه بالمتاح في عصره من الأدوات. رسائل كثيرة تسعف بها شخصية ابن سينا وفرادتها يوسف زيدان لتمريرها إلى القارئ العربي المسلم، منها أن ابن سينا ثمرة لزواج بين ستاره الفارسية، التي نشأت على المذهب السني، وبين عبدالله ابن سينا الإسماعيلي الشيعي الأفغاني المتعصب لثارات آل البيت حتى إنه سمى ابنه الأول بالحسين، الذي كان من أمره ما كان من الخلود في عالم العلوم الطبية والفلسفية، والثاني بعلي، أخيه الأكبر منه. الإمامان الأكثر تقديسا عند الشيعة. هذا الترياق يدسه لنا يوسف زيدان بين السطور بمهارة لا تضاهيها إلا مهارة المعلم ابن سينا حين أدمج الدواء الناجع في طعام أمير شيعي ظن نفسه تحول إلى بقرة تريد أن تذبح بعد أن طوح به العشق الممنوع لفتاة سنية من بنات الجيران، فما كان من ابن سينا إلا أن جاراه في هذيانه ظاهريا، وطلب منه أن يسمن أولا قبل الذبح ليغويه باستئناف الأكل الذي كان يحوي هذه المرة البلسم المطلوب، فكان بعد الهزال والهذيان الشفاء المأمول. يوسف زيدان يريد عبر هذه الأحداث والإشارات أن يستخلص العبرة، وأن يُفهم المسلمين أن كلتا الأصوليتين، السنية والشيعية، غير صالحتين، وأن رغد العيش للمسلمين هو في دولة مدنية للسنة والشيعة ولكل الطوائف، دولة تتمايز وتتسامى على كل التقاطبات الدينية والعرقية والمذهبية على وجه الخصوص، وكأنه يتخذ ابن سينا سلاحا موجها ضد فكرة ووباء التطرف، وإلا فلينظر الجميع والمعاندون والمتعصبون على الخصوص كيف أثمر الزواج بين السنية الفارسية ستاره وعبد الله الشيعي أيقونة الطب الإسلامي الرئيس ابن سينا الذي ظلت أوربا معتمدة على تدريس كتابه في الطب "القانون" إلى حدود 1800 م، وليعتبروا كيف أن ابن سينا خدم وعالج الكل، وتقلب كوزير وكطبيب بين سرايا الحكام من الشيعة والسنة على السواء، وكيف أنه كان لا يبخل بعلمه على الجميع، حتى السكان المائة والخمسة عشر من أهل القلعة قام بفحصهم وتصنيف أمراضهم. إنه الطب أو بالأحرى العلم الذي يسمو فوق التقسيمات، والذي ينظر إلى الإنسان والإنسان فقط. وهذا ما يشف من رواية يوسف زيدان عن ابن سينا: فالعلم واحد والطب واحد والعقل واحد، فلماذا نذهب للتعصب والانقياد لما يفرقنا من مذاهب، وهي المختلفة والمتباينة، خصوصا أن الطريق إلى الله بعدد أنفاس البشر كما جاء في الأثر؟؟ يحق للراوي أن يفتتن بابن سينا، بل لا مناص له من ذلك، ولا يستطيع إلى غير ذلك سبيلا، فابن سينا يتحقق فيه ما يعشقه يوسف زيدان: الحرص على إعمال العقل كما يدعو إلى ذلك، وإشراق الأفكار في الإنسان من جهات بعيدة عنه، كما تؤكد ذلك فلسفة ابن سينا الإشراقية، التي هي ضرب من الصوفية المفتون بها راوينا حتى الثمالة، حيث الكشف وتجلي الحقائق والعلم اللدني الذي يتأتى من الانجذاب إلى عالم الحضرة الإلهية من خلال التعالي على المحسوس وإنفاذ البصيرة للوصول إلى الخالق. ولذلك نراه يصر غير ما مرة في سرده على ترديد كلمة أشرق وأشرقت في ذهن ابن سينا، وكل ذلك للإشارة إلى الإشراق عند ابن سينا . فبشكل ما يتحد في ابن سينا إعمال العقل والمنطق في ضبط الواقع مع انبجاس الأفكار في القلب بالإشراق. يتلاقى المحسوس واللامحسوس، ويتصالحان كمصدرين للمعرفة، وهو ما يطلق عليه محمد عابد الجابري في كتابه "نقد العقل العربي" عقل البرهان وعقل العرفان.. عابد الجابري الذي لا ينظر بعين الرضى إلى الجانب الإشراقي عند الرجل العظيم والحكيم الملهم ابن سينا، ويعتبره قد أقول العقل، بل اغتاله، وتلك حكاية أخرى. الحقيقة أني لم أكمل الرواية بعد. تأخذني عنها أمور أخرى بالقاهرة المصطخبة، المزدحمة بالناس وبالآمال.. مدينة المعز لدين الله الفاطمي، الذي دخل مصر ثمان سنوات فقط قبل مولد ابن سينا لينشر المذهب الشيعي هنا، مما يدل على أن يوسف زيدان عثر على بطل روائي من العيار الثقيل النادر: في علمه، في طبه وفلسفته ومحتده السني والشيعي على السواء، وفي اهتمامه بالمنطق واللاهوت، وولعه بالحب والرواء منه، وإقباله على ما لذ وطاب في هذه الحياة، وسفره بين المذاهب بسبب مهنته التي تجمع ولا تفرق، وكذلك في دقة المرحلة التي عاش فيها هذا المعتقل الثمين في قلعة فردقان حيث كان العالم الإسلامي يعيش، كما اليوم، تجاذبات بين الخلافة الباطنية الشيعية الإسماعيلية بمصر والخلافة العباسية السنية ببغداد، فانعكس ذلك الانشقاق المذهبي على العالم الإسلامي الفسيح برمته خلافات ومنابذات، فدفعه إلى أتون دوامة العنف والفرقة. حقا ما أشبه اليوم بالبارحة، وما أحوجنا إلى أن نتقفى حياة ابن سينا لعلنا نخرج بعبر أخرى، وعلنا لا نبقى نراوح مكاننا على هامش التاريخ والحضارة. هذه قراءة أولى كتبتها على عجل هنا عند صديقي جواد تويول بحي المهندسين، أسرعت بتدوينها هنا في مصر العزيزة غير بعيد عن الإسكندرية مهبط وحي روايات يوسف زيدان. فعلت ذلك متعجلا، كما قلت، بعد أن تزاحمت الأفكار في رأسي، على أن أعود إليها لتمحيصها مرة أخرى بعد أن أطالعها مرات ومرات، كما أفعل دائما مع كل روايات المفكر زيدان. *بروفيسور في الطب ودكتور في العلوم السياسية