الرواية التاريخية اشتهر هذا "الجنس الأدبي" منذ أواسط القرن التاسع عشر؛ يعتمد في أدواته السرد والوقائع التاريخية والقصص ليربط بينها بأسلوب روائي تتعدد في سياقاته الشخوص التاريخية والأحداث والأماكن والأزمنة. كان من رواده تولستوي في روايته "الحرب والسلم" ووالتر سكوت وجرجي زيدان، الذي استنطق عدة أزمنة من عصور الحضارة العربية الإسلامية، سواء في العهود العباسية أو الفاطمية أو الأندلسية. رواية "فردقان" ويوسف زيدان غني عن التعريف أن الدكتور يوسف زيدان ارتوى من حياض وعيون الأدب العربي الإسلامي، وهو ذو اطلاع واسع بتراثه، واختص بدراسة مخطوطاته والوقوف على بعض كنوزها وأسرارها، وإماطة اللثام عن بعض مستغلقاته والوقائع التاريخية التي حبلت بها عصور وأزمنة، سواء في المشرق أو المغرب، مما مكنه من إغناء المكتبة العربية بأبحاث ودراسات وروايات تاريخية نيفت عن الستين، منها روايته هذه "فردقان" باسم فارسي للقلعة التي نفي إليها ابن سينا من طرف شمس الدولة أبي الطاهر البويهي أمير همذان مدة 115 يوما، عكف فيها إلى جانب علاج مرضاه على استكمال كتابه ورسالتيه "القانون في الطب"، "القولنج"، و"حي بن يقظان". تقع الرواية في 135 صفحة من الورق متوسط الحجم، جاءت في سبعة فصول: المزدوج أو حامي القلعة، شيخ الرستاق الذي جلب له بعض مواد العقاقير والأدوية، ونسوة وقع أسيرا في الهيام بهن: روان، ماهتاب، سندس، ورسالته حي بن يقظان. لغة الرواية كل قارئ لسطورها سيلحظ لأول وهلة أن كاتبها أو بالأحرى الروائي ضليع في اللغة العربية وتلاوين استعمالاتها وسياقاتها، نثرا كانت أو نظما، ومفرداتها الدقيقة تكشف عن معينه في استقاء صور البديع والمجاز والبليغ، فهو لا ينساق مع السياقات الدارجة التي تحبل بها عادة مصنفات الأدب والشعر، بل يذهب أحيانا إلى الغريب من اللفظ الوحشي ليوظفه في خلق صور أو انطباعات معينة لدى القارئ، مثلا تركيبه اللغوي هذا بخصوص مفردة "لدى"، التي يستعملها بأزمنة وأمكنة مختلفة في سياق واحد: "ووجد لدى باب حجرته حارسا نحيلا ينتظره، ولدى بوابة القلعة بغلة شيخ الرستاق وحولها ثلاثة من مماليكه، ولدى أنحاء السماء سحبا داكنة تنذر بنزول البَرد". وفي وصفه لشخوصه، من الذين لزموا ابن سينا، يلاحظ أن الروائي يوسف زيدان يستعمل مقياسا ميكروسكوبيا دقيقا في استنطاق هؤلاء، حتى ما كان من نظراتهم ولزومهم الصمت في أعماقهم وملامسة ما كان يجول بخواطرهم، نسوة كن أو رجالا أو غلمانا أو أمراء أو وزراء، فسطور الرواية تطفح بحركية دائمة لزمان ومكان الأحداث والوقائع. وقد نصل، في استقراء لغة الروائي يوسف زيدان، إلى أنه اطلع أو بالأحرى ولع منذ وقت مبكر بقراءة الروائي والأديب العربي جرجي زيدان، الذي يعد بحق من الرعيل الأول الذي طرق هذا الجنس الأدبي أو تمرس بعلم النفس الروائي Psychological Novel. ابن سينا.. ومعاصروه من خلال الحكي وسرد الوقائع التي أجراها الروائي على العديد من شخوصه وشخصياته التي التقى بها ابن سينا أو عنت له ضمن زحمة ذكرياته وهو يستعيدها، سواء خلال استوزاره من قبل أمير خوارزم أو تتلمذه على أيدي أكابر الشيوخ والعلماء والفلاسفة والأطباء، نلاحظ أن ابن سينا عاصر ثلة من العلماء ما زالت أسماؤهم يزدهي بها مستوى الثراء الفكري والعلمي الذي ميز عصره؛ من هذه الأسماء محمد الشيرازي صاحب كتاب "المبدأ والمعاد" في التوحيد؛ وأبو الريحان البيروني صاحب كتاب "تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة"، وفيه وصف لعقائد وعادات الهندوسيين؛ وأبو بكر الرازي صاحب كتاب "الحاوي في الطب"؛ ثم صديقه أبو إسحاق الجوزجاني، صاحب كتاب "المترجم"؛ وآخرون كابن مسكويه.. ومن الحكايا والذكريات التي ما فتئ ابن سينا يعيش على وقعها وهو في معتقله ذكريات تتلمذه على أستاذه الأول أبي سهل عيسى المسيحي في الطب، وإحراق معبد النار الذي كان مرصعا بالذهب الخالص، حيث كان المجوس يحجون إليه من كل حدب وصوب، فلما سقط بيد جيوش الخليفة العباسي أمر هذا الأخير بإحراقه ونقل ذهبه إلى الكعبة بمكة، وقد أتت النيران على كتابهم المقدس "الانستاق"، دامت على إحراقه ثلاثة أيام لوجوده مدونا في 10 آلاف رق من الجلد. وقد عاب ابن سينا على الخليفة العباسي اقترافه هذا العمل الشنيع. حياة ابن سينا أجرى الروائي يوسف زيدان على ألسنة العديد من الشخوص كالمزدوج حامي القلعة أو عبد الله بن علي حوارا لاستدعاء وقائع ودقائق وصور لبعض اليوميات التي عاشها ابن سينا خلال عشرين سنة قضاها في تطوافه، سواء كوزير لدى الحاكم المامون أو كطبيب وفيلسوف يتردد بين قصور وبلاطات الأمراء والحكام والولاة والوزراء، وهي حياة غارقة في البذخ والترف وعلو الشأن، إذ كانت شهرته طبقت الآفاق، فلم يعد أحد من علية القوم لا يسمع به دون أن يستدعيه إلى مجلسه ويستفتيه في أدق المسائل العلاجية، كما كان دائم الترحال بين بلاد فارس يداوي المرضى ويشخص العلل ويكتشف لها أدويتها وعقاقيرها، وأوقاته كانت مكرسة للنظر في حالات مرضاه والكشف عنهم نهارا، وتأليف رسائله في الطب والفلسفة ليلا أو الاختلاء بالقيان والجواري مع مريديه ساعات متأخرة من الليل. كما عرف عنه من طرف زواره وتلامذته ومرضاه أن نفسه كانت تهفو إلى الخير والاستكثار منه، كدوامه على معالجة الفقراء وزواره لا طمعا في مال أحد، ومما يحضر له بهذا الصدد واقعة أن جاءه غلام بتسع بيضات كرد للجميل على علاج والده، لكن ابن سينا حمّل الغلام تسع دجاجات قائلا: "قل لوالدك إن البيضات فرخن تسع دجاجات.. !"، كما ثبت عنه شراؤه للعبيد والغلمان مقابل عتقهم تقربا من الله. ويتذكر وهو قابع بالقلعة "فردقان" أن الحاكم الغزوني، في إحدى حملاته، أغار على بلدة بخارى موطنه الأول وهو آنئذ ابن 22 سنة، فكان من أحد وزرائه أن جمع لفيفا من علماء البلد وخطب فيهم "إنكم ستذهبون إلى مقر الحاكم بغزنة بأفغانستان". وقتها رفض ابن سينا أن يجد نفسه وسط هذه الجموع "ليرصع بها الحاكم الجاهل قصره..". كما يذكر أثناء إقامته بقصر نوح بن منصور أن فتح له الأمير مكتبته العامرة، فعثر بها على كنوز وذخائر كبيرة من الرسائل والكتب في الطب والفلسفة والفلك. وقد مات الشيخ الرئيس في أواسط الخمسينات من عمره على أيدي الأنجاس المناكيد، الذين وشوا به وأوقعوه في عداء مع الولاة والحكام تبعا لآرائه ومواقفه من الدين والعلماء، فاتهموه بالزندقة والردة، وهكذا خنقوا أنفاسه وصاروا في مجالسهم يسفهون آراءه فلزم فراشه مدة إلى أن توفي أول شهر رمضان. آراؤه في الطب والعلاج.. اشتهر ابن سينا، على ألسنة مريديه، بعلو كعبه وتمرسه بعدة أمراض مستعصية، وقد ورد في إحدى رسائله في العلاج "إن الملاحظة أوجب قبل مباشرة المريض للوقوف على علته والأدواء المناسبة له"، ومما لاحظه ودونه في السياق ذاته "ضيق الأنفاس في النواحي الجبلية المرتفعة دليل على نقص القوى التي يسميها الأطباء الأرواح". وتبعا له تكون "صدور سكان الجبال أوسع من سكان الوهاد". كما عرف عنه الإشراف بنفسه على إعداد الأطعمة للأمراء والحكام والوزراء الذين قام بعلاجهم، منهم الأمير نوح بن منصور، الذي طلب منه ابن سينا خلال فترة نقاهته التخلي عن معاقرة الخمرة لمدة معينة، فرد عليه الأمير "لا خمر ولكن النساء أوجب". كان يمقت الحرب والتسلط ويجنح للسلم، ومما له في هذا الصدد "لا أمان للعلماء والفلاسفة في كنف الأمراء والحكام". وفي آن كان يأمل أن يستقر به الترحال بمصر على عهد الفاطميين وحاكمهم الحاكم بأمر الله. أشهر الحالات المرضية التي عالجها في سياق أحاديثه أطلق العنان لصور ذكرياته وهي تتراقص أمام ناظريه، واقعة طريفة حينما تلقى دعوة من حاكم بلدته للإسراع في علاجه لشاب كانت حالته ميؤوس من برئها "كان يحبو على أربع متمثلا ببقرة ويصدر صراخا شبيها بالخوار حوله اذبحوني،.. اذبحوني!"، فلما توجه إليه قعد بالقرب منه يمعن في ملاحظة حالته.. وأمر قصابا ليتخلى له عن بدلته الملطخة بالدماء، ارتداها وأمسك برأس الفتى إلى الأرض يريد ذبحه، لكنه عدل بحجة أن الشاب/ البقرة عجفاء، سمع الشاب هذا فانهال من وقته يأكل بعد أن كانت نفسه تعاف كل المأكولات.. مضى عليه خمسة أيام وابن سينا يتابع تحسن حالته، ولم يعد يصدر تلك الأصوات، فأمسك بيده يريد قياس نبضه.. استدعى امرأة دائمة الحضور في الأفراح والأعراس وطلب منها رفع صوتها بأسماء الفتيات والنسوة اللائي تشتهر بهن المنطقة، فلما أتت على ذكر اسم "زهوة" لاحظ الشيخ الطبيب ارتفاع نبضه فعلم فيما بعد أنها عشيقته.. وأمر أن تزف إليه كعروس رغم تنافر المذهب الديني بين أهلها وأهله وقال وقتها "العلاج لا يستحضر العقيدة بين المريض وطبيبه". نسوة شغف بهن لقد أسهب يوسف زيدان في ذكر أسماء نسوة أذقن ابن سينا جرعة الحب والهوى، فهام بهن، وهن: ماهتاب، روان، سندس، عدا الجواري اللائي كن هدايا من الحكام والأمراء والوزراء الذين تم شفاؤهم من عللهم على يديه. ونلاحظ أن الروائي زيدان أغرق في وصف سحنات العشيقات وهن يتوددن إليه إلى أن يأخذهن ابن سينا بين أحضانه، حتى إن إحداهن ولعلها روان حزن لفراقها على إثر غارة ليلية استهدفت منزله فعاثوا فيه فسادا واقتادوا عشيقته جارية لعرضها للبيع بسوق النخاسة، ومن ثم انقطعت أخبارها، أما مهتاب فكانت في نزاع مع ضياء الشمس لإشراقة وجهها وفتون جمالها الخارق. كانت ذات إلمام بعلوم الفلسفة والطب فأخذت تغترف منه المزيد وتعينه في التمريض، لكن خلال الساعات المتأخرة من الليل كان يهفو إليها وتأخذ الهمسات والآهات تدب بين أوصالهما بدلا من مفردات التعليم والتعلم. أما الثالثة فكانت سندس "المرأة الثرية الشهية الجامحة المتوهجة"، أرملة جليل الخنوفي والتي باحت له بأنها سقطت صريعة لعشقه والهيام به فتوسلت له أن يعالج شغفها وقلبها العليل"، بيد أن قصتها مع ابن سينا، وهو ابن الخامسة عشرة من عمره، انتهت بطريقة درامية.. حملته فيما بعد على أن يعاف النساء ومضاجعتهن وحتى الكلف بهن حينما أرسلت إليه كتابا "بألا يتأخر عن زيارتها ليلا"، إلا أن أم ابن سينا دعته ألا يثق بها وبغوايتها الشيطانية.. فتأخر عن الذهاب إليها لتبعث له بكتاب آخر دعته أن يفتح النافذة المقابلة لنافذة غرفتها مساء.. "فلما فعل ذهل ابن سينا وأصابه دوار ومغص عندما شاهد سندس وقد أمسك بها عبدان لها وهي عارية.. أحدهما بالمؤخرة والآخر من الأمام.. !" قيمة الرواية يمكن القول بأن رواية "فردقان" حملت معها قيمة إضافية للتراث العربي الإسلامي؛ تمكن القارئ والباحث من الوقوف عن قرب على إحدى العبقريات العلمية التي جادت بها الإنسانية، ألا وهو الشيخ ابن سينا وكيف ذاع صيته وطبق الآفاق لتصبح رسائله وآراؤه ونظرياته تدرس حتى الآن ومعتمدة في كبريات معاهد الطب والعلاج الطبيعي بأنحاء العالم، وفي آن يمكن اعتبارها من الوجهة الفنية البحتة سيناريو جاهزا عن حياة الشيخ الرئيس بلغة سلسة وعذبة تتجه إلى أغوار النفس البشرية بريشة أحد المفكرين المعاصرين د. يوسف زيدان، حتى وإن كان الجدل كثر من حوله.