مجرد ما نشرت مقالتي الأخيرة حول تهافت يوسف زيدان عبر عناوين متوالية ينشرها بجريدة المصري اليوم على ازدراء وتحقير الناصر صلاح الدين الأيوبي، و هي العناوين المثيرة والمستفزة التي جمع فيها كيده وموهبته ليس في البحث والاستنتاج والاستدلال فقط بل في الشتيمة وكيل التهم أيضا، لتفنيد أسطورة بطل حطين ومحرر القدس والطعن في سيرته وملاحمه البطولية، حتى تقاطرت علي التعليقات بين مؤيدة ومعارضة لما نحوت إليه من قوالب في الرد عليه.فالرجل كما أسلفت لكم القول مثير للجدل وربما للخلاف و على أوسع نطاق :المشفقون على زيدان من بعض التصريحات والتلميحات التي رشحت بين أسطري ، يدفعون بأنه لم يقم إلا بواجبه ككاتب وكمؤرخ يقع عليه أن يمحص الأحداث والمخطوطات ويدققها دون استلاب أو انبهار أو مجاملة ولو كانت لأهل الدار. وهي المهمة التي تحتم عليه تبعا لذلك أن لا ينصت إلا لصوت الحقيقة العلمية، وأن يقوم بكل شجاعة وإقدام بغربلة التاريخ العربي الإسلامي مما تسرب إليه على مر الزمن من خرافات وأساطير وضلالات دسها الصراع السياسي المحتدم أبدا بين الفرقاء والأغراض الرخيصة لطغمة الاستبداديين من الحكام، وأولها حكاية يوسف صلاح الدين وفتوحاته الوهمية سواء في ساحة الوغى أو في مضمار القيم و الأخلاق والفضيلة والشهامة التي على كعبه بها سواء على الأعداء أو على ذوي القربى في الدين والنسب. أما المتعصبون لردي، فيرون أنه مجرد متباحث مدع للسبق، يريد أن يغرز نصله في صلب التاريخ الإسلامي، لفرمه، وإعادة تشكيله من جديد، بما يوافق هوى نفسه النزاعة للتفرد والتميز والاختلاف ،وهوى نفوس آخرين من وراءه، لا يعلمهم لوحده ،بل يكاد يعلمهم الجميع ويراهم رؤيا العين معه بسبب هذا الإلحاح لديه في جلد الذات الإسلامية وتقريعها سواء حين انكساراتها أو حين نجاحاتها وإنجازاتها.يستوي عنده في ذلك الغث والسمين .ولعل ما عابته علي شيعة زيدان، وهم كثر، و منتشرون بكثافة بين ثنايا مواقع التواصل الاجتماعي، أني قمت فقط بدغدغة عواطف القراء دون أن أناقشه في أدلته التاريخية ،لأن العلم في رأيهم لا يفله إلا العلم. ولأنهم محقون في هذا. فلابد إذن مما ليس منه بد. يتعين علينا أولا أن نضع هذا الجنس من الكتابة المتنطعة والمشاكسة، التي يبدع فيها زيدان أكثر من غيره في سياقها .فلا شيء ينزل فجأة في رأس الكاتب . لابد من مقدمات ،و لابد من إرهاصات، ومن خيط ناظم جامع لما ينز عنه من أفكار وطروحات.وتحقير صلاح الدين بالذات ،هو نتيجة منطقية ومتوقعة للمسار الذي تفرغ يوسف زيدان للسير منذ زمن ليس بالقصير . والذي لا يروم شيئا آخر غير التشكيك بكل ما يتعلق بالمسجد الأقصى وبالقدس و بمكانتهما السامية والمقدسة لدى المسلمين.أليس هو من نفى إسراء النبي محمد صلعم للمسجد الأقصى ،الذي بارك الله من حوله، وأنكر معه كليا المعراج منه لسدرة المنتهى لقطع صلة نبي الإسلام بهذا المسجد المقدس، ونقض أسباب الشرعية الدينية تبعا لذلك للمعركة من اجل فلسطين؟. أو ليس هو من أعلن أن المقصود بالمسجد الأقصى الذي ورد ذكره بسورة الإسراء في القرآن العظيم مسجد مغمور بالطائف، مهبط قبيلة ثقيف التي ترتبط لدينا نحن العرب والمسلمين بكونها بلد من آذوا الرسول الكريم ورفضوا دعوته للإسلام ،قبل أن يقبل اليثربيون على نصرته ،وأنها مسقط رأس الحجاج الثقفي ، الصدر الأعظم لعبد الملك بن مروان .وهو أيضا ذاك الخليفة الأموي ،الذي سيسوقه حظه العاثر لأن يقع بدوره في شراك يوسف زيدان، الذي يتصيد بحرص وأناة كل من ارتبط اسمه بالقدس، ولو بوضع حجارة، لتبخيسه وتتفيهه، توطئة لتثبيط الهمم وتسفيه كل مطالبة إسلامية بتحرير هذه المدينة المقدسة؟. فلأنه يريد أن ينفذ للفكرة من كل أطرافها ومن شتى حوافها لهدمها وتقويضها ،كان ضروريا أن يعرج صاحب كتاب متاهات الوهم على عبد الملك بن مروان في مسيره الحثيث لاغتيال صلاح الدين.حيث يتهمه بأنه بنى المسجد الأقصى زلفى لأجل صرف الناس نحو قبلة جديدة للحج مخافة أن يذهبوا للطواف بكعبة المسجد الحرام، ويغتنمها ابن الزبير المتحصن بمكة فرصة ويجبرهم على بيعته. يبدو هذا الدفع في الوهلة الأولى منطقيا ومقبولا ، بل وممكن الحدوث من الزاوية العقلية ضمن ممكنات أخرى لمجريات الأحداث في تلك الفترة المضطربة من التاريخ الإسلامي، لكنه لم يكن ما جرى تاريخيا وتحديدا على أرض الواقع، كما جرت بذلك تصاريف القدر. فعبد الملك الذي بنى قبة الصخرة فقط، وليس المسجد الأقصى، الذي بناه ابنه الخليفة الوليد من بعده، كان يهدف لعمارة الأرض التي تقع بين يديه ويمتد عليها سلطانه آنذاك ،ولم يكن ليجرؤ على هذه البدعة في الدين، والجزيرة العربية لازالت تعج بصحابة الرسول وبالتابعين ،و تضطرم بالفرق الدينية والسياسية التي تضج بالنقاش في أمور الدين والخلافة والإمامة، وغير ذلك من المسائل الفقهية، الجديدة على العقل العربي، وابن الزبير كان أضعف من أن ينافح عن نفسه ،فبالأحرى أن يناجز بني أمية بقضهم وقضيضهم الحكم والسلطان على الإمبراطورية الإسلامية الناشئة. لم تكن له عصبة يستنقذونه من المروانيين وملئهم من قريش إذ كيف لمن جاء الكعبة مستوثقا من عجزه ومستجيرا بقداسة المكان ليعصم دمه، وكيف لمن يتخلى عنه حتى أبناؤه ساعة الحسم أن يجبر السواد على الدخول في طاعته.الواضح أن زيدان يخلط بين البحث التاريخي وفن الرواية والقصة،و يختلق رواية أخرى للتاريخ ، ينسجها من خياله الخصب جدا، كل قوتها وصدقيتها في منطقها وعقلانيتها وحبكتها المحكمة لا في حدوثها على أرض الواقع. و القصد منها نزع القداسة عن المسجد الأقصى ومدينة القدس ، لكي ينفض المسلمون أيديهم منهما ويضيق عليهم حتى فسحة الأمل في تحريرهما يوما ما. فيوسف زيدان من خلال هذه الدفوعات الثلاثة يقدم طرحا ظاهره منطقي وباطنه هراء وتخاريف، بل يكشف عن خطة شاملة متكاملة الأركان لنسف كل تعلق جماهيري عربي وإسلامي بالقدسوبفلسطين .فالواجب أن نلاحظ أن هاته المطاعن لا يمكن أن تستقيم وحالة اليقظة الروحية والسياسية التي كانت عليها الأمة خلال القرن الأول لبعثة الرسول بصلتها التي كانت لا تزال ندية وطرية بفترة الوحي واتصال الأرض بالسماء، وهي الحالة الموضوعية التي كان معها من سابع المستحيلات أن تتسرب حقائق موضوعة ومختلقة في الدين وتعلق وتستقر بثبات في المخيال الشعبي، دون أن يسبق ذلك تخدير الأمة بكاملها أو إجبارها على بيات كسبات أهل الكهف. المؤكد أيضا أن يوسف زيدان لم يكن ليتصدى لصلاح الدين الأيوبي لو لم يتصدى هذا الأخير لتحرير القدس .فهذا بالضبط ما يأخذه به يوسف زيدان ويحمل عليه بسببه. لأن في تحطيم صلاح الدين وأد لفكرة التحرير وقضاء مبرم على مشروع الكفاح من أجل القدس.ولنأخذ الآن مطاعن يوسف زيدان في يوسف صلاح الدين واحدة واحدة ونحاول الرد عليها ونقدها؛ أولها أنه يورد ما جاء به ابن شداد المؤرخ الخاص لصلاح الدين بأن هذا الأخير رافق مكرها جيش الشام الذي أرسله نور الدين زنكي تحت قيادة عمه أسد الدين شيروكوه إلى مصر، رغم أنه كان في ذلك مجده وسعادته. وكأنه يلمح إلى أن صلاح الدين، ليس بذاك البطل المقدام الذي يقبل بالخدمة العسكرية ،و يرتمي بكل أريحية في أتون المعارك كما نتصوره نحن ونخاله. لكنه يتغافل أنه بهذا الدفع إنما يبرئ ساحة صلاح الدين الذي لم يكن متحمسا للذهاب إلى مصر. وهذا أمر عادي جدا، فقد كان آنذاك حديث السن ومرتبطا بوجدانه بالشام وبوالده نجم الدين الأيوبي بالإضافة إلى أنه لم يكن يبحث عن مجد حربي أو سياسي كما سيجاهد أن يبرهن لنا يوسف زيدان بعد ذلك.فالسلطة هي التي سعت إلى صلاح الدين، وليس صلاح الدين هو من سعى إلى السلطة.ثم إني أتعجب كيف يؤاخذ زيدان صلاح الدين بكراهته للذهاب إلى مصر والله سبحانه وتعالى يقر في كتابه الكريم بأن ذلك من خصائص النفس البشرية السوية قائلا و مخاطبا الصحابة الكرام الذين كانوا يعيشون تحت كنف النبوة بل ويشهدون الميلاد الأول لمفهوم الجهاد(كتب عليكم القتال وهو كره لكم الآية 216 سورة البقرة). ولكن دعونا من كل هذا فالحماس والتردد قبل الإقدام على الأمور العظيمة، خصوصا لما تكون هذه الأمور لا تزال قابعة في رحم القدر والمستقبل، هي مجرد اعتبارات وتموجات نفسية تحدث لكل البشر على اختلاف مراتبهم، ولا علاقة لها بما يحققه المرء بعد ذلك في الميدان. ولنذهب جميعا إلى مصر ولنر هل كان صلاح الدين فعلا جاحدا لنعم وجميل الخليفة العاضد الفاطمي؟. وهل تصرف هناك كرجل دولة أم كغر متهافت على السلطة ، كما ذهب لذلك زيدان؟.ينبغي للأمانة التاريخية أن نقر أولا أن الجيش الشامي هو من كانت له اليد البيضاء على مصر وخليفتها الشيعي، فهو الحامية العسكرية التي كانت تحمي الثغور والديار المصرية، وهو القوة الرادعة التي أسقطت خيانات الوزير شاور الجاسوس والمتآمر الحقيقي مع الصليبيين على أرض الكنانة، بعد أن كان قد استفرد بالخليفة الحدث تاركا له من الخلافة اسمها ورسمها فقط.لم يكن هناك خليفة بمصر بل مجرد خيال خليفة .ولم تكن هناك خلافة كما يتصورها زيدان، بل صورة خلافة آيلة للسقوط، وفي نزعها الأخير ،وتنتظر فقط رصاصة الرحمة .ولقد كان من حسن طالع مصر وبلاد الإسلام، أن قيض الله في هذه الظروف، رجلا كصلاح الدين ،عرف كيف يدبر بدهاء هذه المرحلة الانتقالية الحرجة من حياة المحروسة، إنسانيا، وسياسيا، وأمنيا ، ودينيا ؟ومذهبيا . لقد كان صلاح الدين رحيما بالعاضد الذي توفي إلى رحمة الله، وهو لا يعلم بزوال الخلافة الفاطمية، فقد كان وزيره الناصر له الذي يرفق بمشاعره ويأسى لمرضه.أما الخلافة الفاطمية فقد كانت قد بلغت منتهاها سواء بصلاح الدين أن بدونه.هل يتحسر زيدان الآن على الخلافة الفاطمية، وهل كان سيفضل لو قيض له أن يعيش في ذلك الزمان، وهو المصري الغيور، أن تظل مصر بيد خليفة من الأطفال عوض قائد قوي كصلاح الدين؟. وهل يا ترى بمثل مشاعر الاستجداء وتسول الرحمة هاته، كان يجب في رأيه أن تدبر أمور دولة عظيمة كمصر؟؟ . هل العاضد في رأي يوسف زيدان أبقى من كل شعب مصر ؟؟. لقد اتخذ صلاح الدين قرار سياسيا عظيما لا يتخذه إلا الدهاة المقيضون للأمور الجليلة، بدفن الخلافة الفاطمية المريضة.هذا القرار الذي لا يمضيه عادة إلا رجال الدولة من الطراز الأول ،كان من نتائجه المباشرة أن وحد من جديد بين جناحي الأمة الإسلامية تحت كنف الخلافة العباسية السنية ببغداد. والتي شئنا أم أبينا كانت تحوز شرعية تفوق بكثير شرعية الخلافة الشيعية بالقاهرة، بدليل أن السلطان يعقوب المنصور الموحدي سلطان المغرب العظيم الذي كان يوجد على غرب الخلافة العبيدية، كان يدعو للخليفة العباسي على المنابر. أما ما أورده زيدان من حديث ساخر شهد به المؤرخون المعاصرون لصلاح الدين كان قد دار بينه وبين صديقه القاضي الفاضل حين بلغهما نعي الخليفة المعتضد، فتأسف صلاح الدين لاستعجاله إنهاء الخلافة الفاطمية قبل أن يقضي الخليفة فعلا ، و تهكم القاضي الفاضل بأن إنهاء الخلافة قد كان هو السبب في تعجيل موته. كل ذلك ليس دليلا على سوء أخلاق صلاح الدين ،لأن الإنسان في جلساته الحميمية بما فيها تلك يخيم عليها الحزن والغم، قد تصدر عنه تعليقات من هذا النوع على سبيل ترطيب الأجواء و التنفيس عن النفس المكلومة خصوصا في المجالس الخاصة والتي لا يمكن للباحث أن يعتبرها دليلا ،لأنها تبقى أضغاث أحاديث ولاتزن شيئا في ميزان التاريخ. هذا إذا سلمنا بأن هذه الواقعة قد حدثت فعلا. ولست أدري لماذا لا يشكك فيها زيدان كما شكك في كثير من مناقب صلاح الدين. فالحياد العلمي يقتضى ان نتصرف بنفس الحاسة النقدية أمام كل الوقائع. ولكن لا غرابة في هذا وهو قد جمع أمره على تحطيم هذه الأيقونة النفيسة للتاريخ الإسلامي .فلا يستطيع أن يلقي بالا إلا لما يجرح في نزاهتها وأخلاقها لتشييد نظرية كاملة عن فساد صلاح الدين و خسته وانحطاطه الأخلاقي. يجنح زيدان لهذا رغم أن تعليق صلاح الدين كان متزنا وإنسانيا .بل ولعله هو من أوحى لصديقه بمثل ذاك الجواب الذي كان على سبيل الظرف والمنادمة دون تحفظ بين الأصدقاء. و هو جواب يعيد تركيز الأنظار على الوضع السياسي الجديد للأمة الذي ترتب عن وفاة العاضد. فقد وحد صلاح الدين، من خلال تزامن موت الخليفة و موت الخلافة ،بقرار منه الأمة بهذه الخطوة الحكيمة والشجاعة ليؤهلها ويعدها لمقاومة العدو وذلك دون اقتتال أو إراقة دماء أو هدر وقت ثمين في التخبط في الفتن الطائفية المقيتة. وهي الخطوة التي تقبلت قبولا حسنا ، فلم ينتفض ضدها أهالي مصر خصوصا، وهذا يبرهن أن الخلافة الفاطمية التي يذرف صاحب عزازيل عليها الدموع كانت قد استنفذت مشروعيتها ،و استهلكت بيعتها التي لها في أعناق الناس ،ويبرز أيضا أن الصراع السني الشيعي هو في الحقيقة صراع الساسة المسلمين بينهم، والذي تشكل الشعوب المسلمة إلى الآن حطبه الذي توقد به نار الاقتتال والتطاحن من أجل طموحات فردية.ولست أدري كيف لم يكتشف زيدان في سلوك صلاح الدين هذه القوة التوفيقية بين فصائل الأمة التي تجعل من بعض الزعماء رموزا للوحدة الدينية والقومية ،والتي ما أحوجنا إليها اليوم ،وشبح التفرقة المذهبية قد أخذ يجوس خلال الديار العربية. خطب صلاح الدين بسلاسة كبيرة للخليفة العباسي، ودعا له في المساجد، وأزاح الورقة الذابلة للفاطميين، فجدد دماء الأمة، وأمضى عزيمتها، و شحذ همتها ،وهيئها للجهاد ضد الصليبين ،ودلل أكثر من هذا على ان الشعوب الإسلامية غير معنية كثيرا بالتقاطب الشيعي السني، الذي لا ينفخ فيه إلا الساسة والحكام، لتوطيد سلطتهم.هذا هو المغزى من دمج الخلافة الفاطمية في الخلافة العباسية الذي أنجزه صلاح الدين، لكن صاحبنا زيدان لا يريد أن يعترف له بهذا الإنجاز حين يتغاضى عن مضمون الوحدة التي أمضاها صلاح الدين بين بلادي الشام والكنانة، ويلتفت للسفاسف، ويهتم أكثر لشعور خليفة حدث أكثر من اهتمامه بشعور أمة بأكملها تريد من أعماق نفسها أن تتوحد وتلتئم ،ولعل نجاح صلاح الدين في تحقيق هذه الوحدة بسلمية ،ودون معارضة تذكر، هو ما يوغر قلب زيدان عليه. فالرجل الذي بالكاد يتقبل فتح عمرو بن العاص لمصر في جيش قليل العدد والعدة لا يتعدى 3000 مجاهد ،بل ويعزيه لتحالف القبائل العربية من الأنباط وسيناء مع الصحابي الفاتح، كيف له أن يقبل أن يضم صلاح الدين مصر لسلطات بغداد بدون حرب أو فتح أو اقتتال أو معارضة أو حتى تحالف .وكأني به يعبر عن نظرة قطرية ضيقة، إن كان لها ما يبررها اليوم، نظر ا لانشطار العالم العربي لعدة دول، بعد تقسيم تركة الخلافة العثمانية أو ما كان يدعى بالرجل المريض،فلم يكن لها أبدا ما يبررها في عهد الخلافة الفاطمية والسلطة الأيوبية التي تلتها، حين لم تكن هناك حدود جغرافية، أو تأشيرات بين الأقطار العربية، فكان الكل يتنقل على هواه طلبا للعلم أو للرزق، أو تقلبا فقط بسبب تصاريف السياسة والحرب ،وهو ما شكل مصدر خصب وثراء لمصر، و جعلها لا تستقطب صلاح الدين فقط، بل كثيرا من القادة والسياسيين غيره ،بل وحولها مهوى لقلوب الكثير من القادة الروحيين من الصوفيين الكبار،و الذين جاءها أغلبهم من بلدان المغرب العربي كأبي الحسن الشاذلي والسيد البدوي وعبد الرحيم القناوي و أبو العباس المرسي . إننا نوشك أن نحس بأن يوسف زيدان لا يعترف بمصرية صلاح الدين ،وينظر إليه بعد قرون طويلة كوافد من شام نور الدين زنكي، أو تكريت صدام حسين، أو كردستان العراق. فهل ينكر أن مصر كانت دائما بلادا مستوعبة لغيرها من العرب والمسلمين، وهل تكون له الشجاعة لينكر مصرية قطز وبيبرس وقلاوون، وخلفاء الفاطميين الذين أتوا مصر من تونس، ومحمد علي وذريته التي تمصرت وكانت مصر تخرج عن بكرة أبيها لتحيتها إلى حدود عهد الملك الأخير فاروق بن فؤاد الأول. نحن لا يهمنا كثيرا أصل صلاح الدين البيولوجي، لأنه عقديا وثقافيا قائد عربي مسلم فذ تفخر به كل الأمة الإسلامية ،ولا نظن أيضا أن نسبته لتكريت لها علاقة بكونها بلدة صدام حسين، فهذا الأخير استولى على السلطة حتى 1979 بعد عقدين تقريبا من تصوير فيلم احمد مظهر الذي يعتبره زيدان مسؤولا عن كل تلك الدعاية الفجة التي حظي بها صلاح الدين و أنه من استنبته لأول مرة في وجدان الأمة العربية بعد أن كان نسيا منسيا كما يرى زيدان، ولم يبعثه فقط من جديد في عقول الجماهير العربية كما نعتقد نحن، فصدام رغم قوميته المعلنة لم يوجه حربه لإسرائيل بقدر ما وجهها لإيران ودول الخليج ،و هو أبعد ما يكون سيرة عن سيرة صلاح الدين .لا ضير أن نصبر قليلا ،ونتابع مسلسل تنكيل صلاح الدين بالأسرة الفاطمية الذي أدمى قلب زيدان وقلمه عليهم قرونا عديدة بعد حدوثه، فالرجل يذهب إلى أن صلاح الدين قد سلب من العاضد حكمه وحرف حتى اللقب الذي خلعه عليه فقد كان يدعى بالناصر لأمير المؤمنين العاضد الفاطمي. لكنه حذف كل هذا واكتفى بلقب الناصر وكأني بزيدان يرى التاريخ جماد لا يتحرك أو لكأني به يقف بالتاريخ عند حدود العاضد الذي تحول فجأة إلى علامة فارقة في التاريخ الإسلامي. المؤكد أن الناس اتفقوا أن يلقبوا صلاح الدين بالناصر بكل بساطة ويخلصوه من ذاك الإطناب الذي تجاوزه التاريخ والأحداث كذلك .وهذا اللقب الذي كان يفي بحقيقة جهاد الناصر يوسف لتحرير المقدسات .هو لقب ذو حمولة ويترجم عطاء رجل بأكمله في حقبة معينة .هو باختصار اللقب الذي خلعته عليه الأمة الإسلامية .هو لقب صحح الوضع وأنصف الرجل .لكن زيدان لا يقف عند هذا السقف بل يزيد بأن الناصر يوسف حبس ما يقرب من 18 ألفا من الشرفاء والشريفات مع عبيدهم وجواريهم في قصور مشيدة وتركهم دون زواج بانتظار الفناء وانقراض النسل الفاطمي لدون رجعة بمصر ..ولعمري كيف لم يستغرب زيدان ضخامة هذا الرقم الكبير، وقد كان أحرى أن يثير انتباهه ،وهو الناقد المشكك في كل شيء ،خصوصا وأنه رقم كفيل بتوفير عصبية كافية أو بديل جدير بحمل الخلافة بعد العاضد .لقد كان من الأليق أن يعود زيدان للمصادر التي استقى منها معلوماته ومطاعنه و يتحراها ويفحصها و يتفقدها ويضعها تحت مبضع النقد والبحث غير المنحاز.لا أن يعتبرها كتبا لا يتسرب إليها الشك والتدليس وما أكثر أن يكونا في الاتجاه المعاكس لهواه. ولكن ما العمل وزيدان لا يرى إلا بعين واحدة هي عين السخط، وهي تلك العين التي قال عنها الشاعر الإمام الشافعي. وعين الرضا عن كل عيب كليلة .وعين السخط تبدي المساويا بعين الرضا هاته التي وردت في الشطر الأول من البيت ،سنواصل نحن من جهتنا تبديد مارءاه زيدان بعين سخطه فلهج به لسانه لوما وتقريعا وهجاء لصلاح الدين. ولنر هل كان فعلا لئيما ونذلا كذلك مع نور الدين زنكي، رب نعمته، الذي جهزه بالمال، للسير نحو مصر حيث كانت تنتظره السعادة والمجد كما رأى زيدان، والجهاد وعظائم الأمور التي ستتعبه طوال حياته كما فهمت كل الأجيال المتعاقبة من المسلمين، وغاب عن زيدان . يحلل زيدان العلاقة بين صلاح الدين ونور الدين بنفس السطحية التي قد نحلل بها العلاقة بين صبيين أو صغيرين يلعبان بنفس الحي، أو بين خطيب و خطيبته قد راكما من المودة والهدايا ما يكفي لتأبيد الوفاء بينهما ،ولا يزنها بميزان السياسة كما يتعين أن يفعل ذلك في هذا المقام، بل هو لا يرى حتى الرهانات التي تتقابل فيهما ولا البلاد التي أصبح يتقدمها و يقودها كل منهما .ولا ينظر لميزان القوى الجديد الذي طرأ بتولي صلاح الدين لأمور مصر، والقوة التي أصبح يتوفر عليها ،والدعم الشعبي للجماهير المصرية الذي أضحى يحوزه و لا للالتزام الذي أصبح يطوق عنق صلاح الدين اتجاهها.لقد عزم نور الدين على السير في اتجاه صلاح الدين، ولكن المرض أقعده ، ومنعه الموت من ذلك فيما بعد ،وعزم صلاح الدين على الرجوع لنور الدين، ولكنه كان يتردد، وهذا أمر طبيعي جدا ،فقد كان يعلم بمرضه، ويرتاب منه من أن يأخذه بنجاحه في مصر ،خصوصا وأنه كان لنور الدين صبي من زوجته عصمة خاتون كانا يتطلعان لأن يخلفه من بعده.لا نستطيع أن نسبر أغوار نفس كل منهما أكثر من هذا القدر دون أن نتعسف كزيدان، ولكنهما يبقيان في نهاية الأمر بشرا، يحركه الطموح، وتدركه الغيرة لكي لا نقول الحسد، فكلاهما كان بطلا أبلى البلاء الحسن في جهاد العدو، ولا يهمنا دقائق نفسيتهما بقدر ما يهمنا تاريخهما الوضيء في جهاد العدو. ولكن هل كان زيدان يريد من صلاح الدين أن يترك دمشق لحكم صبي حتى يكون وفيا لسيده نور الدين في وقت تحتاج فيه الأمة لتوحيد الصف؟ .وهل كان زيدان ليرضى منه أن يكون حاجبا أو وصيا على إسماعيل ابن نور الدين دون أن يتهمه هذا المرة لو كان فعل ذلك بقصر النظر والتخاذل وسوء التقدير والاستخفاف بمصير الأمة؟ إننا حقيقة لا ندري على أي الحبال نرقص مع يوسف زيدان؟.وهل يوسف زيدان يعتقد في قرارة نفسه أنه الآن أرحم لإسماعيل من الخاتون أرملة نور الدين التي رضيت أن تتزوج صلاح الدين رغم أنها تكبره سنا ورغم أنها كانت أعلم بما كان يعتمل في سريرة زوجها نور الدين وما يوغر قلبه على صلاح الدين.؟هل يوسف زيدان زنكي أكثر من الخاتون مثلما هو فاطمي وعاضدي أكثر من أهالي مصر في ذاك الزمان؟. هل هو أقرب لنور الدين من زوجته؟وملكي أكثر من الملك؟. المؤكد أنها لو لم تتوسم فيه خيرا ما كانت لتتزوجه، وتفضله على ابنها الذي من صلبها،و الذي لم يكن سنه و لا كاريزميته يؤهلانه للحكم ،ولا لقيادة الجيوش، كأبيه نور الدين البطل المجاهد. والمؤكد أيضا أنها كانت تريد أن تستكمل ملاحم هذا الأخير مع صلاح الدين ،فلم تبخل عليه بهذه الشرعية المترتبة عن هذا الزواج السياسي الذي كان مقبولا في تلك الآونة من التاريخ، لا يثير حفيظة الناس ويرونه عاديا بل ومطلوبا ،والذي لم يرضه إلا زيدان في القرن 21 لحاجة ربما في نفسه ما أظنه سيقضيها. وقبل أن نودع هذه الشخصيات التي يدعي زيدان أن يوسف صلاح الدين قد جحد جميلها لابد أن نعرج على ما غمز إليه كاتب عزازيل من كون أن هذه الشخصيات كانت تموت تباعا ودون سبب ظاهر وكأنه يشير إلى أن صلاح الدين كان له بدوره جنود من عسل كمعاوية بن أبي سفيان يصفون له المنافسين على الحكم.يكاد زيدان لولا بقية حياء لديه أن يتهم بطل حطين باغتيال عمه أسد الدين شيركوه، والعاضد الفاطمي، و نور الدين زنكي الملك العادل، وابنه إسماعيل. ألا يدري زيدان أن معدل العمر في العصور الوسيطة كان منخفضا في كل البسيطة؟ أو ليس يرى أن صلاح الدين نفسه لم يعش إلا 54 سنة وهي مدة قصيرة أيضا إذا ما قيست بمعدل الحياة اليوم.إن أسئلة زيدان غير منطقية وغير علمية ولا تلتزم بالحياد المفترض في باحث ضالته الحقيقة. يتهم زيدان صلاح الدين أيضا بأنه كان يعاقر الخمر حين كان شحنة للقاهرة، أي قائدا لشرطتها بتعبير ذلك العصر ، وهو عندما يثير هذه القضية ، لا يستهدف تبخيسه في عين النخبة، وإنما يريد أن يفعل ذلك في عيون الجمهور العربي والعامة من الناس الذين هم من يهتمون غالبا بالسلوك القويم للحكام، الذي ينبغي أن يكون مطابقا لتعاليم الشريعة الإسلامية.إنه يحاربه هذه المرة على مستوى الطبقات والحارات الشعبية لينتزعه من وجدانها ،ويألبها ضده ويدفعها بهكذا كتابة ملغومة للانتحار وللحيرة الحضارية، عندما تتخلص بمعونته الفذة من نفائسها التاريخية. بل هو يشن حربا شعواء ضد الرموز على مستوى البنية التحتية للمجتمع العربي، وهي أخطر الحرب وأفدح الطعن وأقذع اللعن. ولكن الإنصاف يقتضي أن نهمس في أذنه أن صلاح الدين يقيم بموهبته العسكرية، وبحنكته السياسية، لأنه لم يكن يوما نبيا معصوما، بل قائدا يمشي بين الناس والجنود، يكر ويفر ،ينتصر وينهزم، يضعف أمام مباهج الحياة ويتقيها في نفس الآن. ويمكن أن يشرب الخمر في بداية حياته كباقي الناس، ويتوب مثلهم كلما تدرج في الحياة، وتمكن منه الإيمان وعركته تصاريف القدر، وأحس أنها تهيؤه للملمات والمهام الكبيرة.وزيدان الذي صدعنا مشكورا بالطبع بأننا أمة لا تمتلك الحس النقدي ،ضعيفة أمام الخرافة، بعيدة كل البعد عن نهر الحداثة، هو آخر من كان ينبغي له أن يتكلم عن شرب الخمر من قبل صلاح الدين لأنه يعرف أنها ليست نقيصة في منهجه الذي يدعو له، مادام يعلم أن كبار القادة الغربيين الذين يطلب منا أن نلتحق بركبهم ،و نقدس العلم مثلهم ولا شيء آخر غير العلم، يشربون الخمر.ولكنه يدغدغ عاطفة الأمة الإسلامية فلا يستنكف عن استعمال سلاح الخمر، وهو ما كان ينبغي له أن يتورع عنه كمثقف حداثي عقلاني فيحاكم صلاح الدين القائد والسياسي، لا صلاح الدين الإنسان ،و خصوصا وأن الخوض في سيرة بعض العظام يتجاوز هذه السفاسف، ولا يلتفت لمثل هذه الصغائر.ولكن هيهات هيهات أن ينصرف لذلك ،وهو قد خطط بسبق إصرار لحرب شاملة طاحنة لا تبقي ولا تذر على صلاح الدين وصورته. في تحامله المنهج هذا على الناصر صلاح الدين ، لا يسلم زيدان أن يقع في بعض التناقضات ،حيث يتهمه في ختام مقالته التي نشرها بجريدة المصري اليوم بتاريخ 2017/5/30 تحت عنوان أجوبة الأسئلة العشرين الكاشفة لحقيقة صلاح الدين، أنه هو من أرسى قاعدة الحكم لمن غلب التي لازالت معمولا بها منذ ذلك الوقت في العالم العربي، لكننا عندما نعود لكتابه فقه الثورة وتحديدا الصفحة233 من النسخة الصادرة عن دار الشروق، نجده يذكر بالحرف أن سيف الدين قطز المملوكي قائد معركة عين جالوت ولا نقول بطلها لكي لا يغضب زيدان ،و الذي ملك مصر بعد 66 سنة من وفاة صلاح الدين، كان أول من أقر لأول مرة القاعدة الرهيبة التي ظل العسكريون يطبقونها لعدة قرون تالية وهي قاعدة الحكم لمن غلب ،و كان أول من تبعه في ذلك الظاهر بيبرس، ثم قلاوون. ولهذا نخبره أننا نرتبك الآن.، لأنه ما عدنا ندري لمن نلصق إثم هذه السنة البذيئة وإثم من عمل بها، هل لصلاح الدين أم لقطز؟لكم الخيار أو على الأصح لنترك لزيدان أن يعيد لنا ترتيب كل هذا الأمر وحسمه لأحد الرجلين. وبمناسبة الإتيان على ذكر هذه القاعدة في مقاله سنكتشف أن زيدان سيتحول إلى قومي عربي قح حين يرى بأن صلاح الدين قد دمر الروح القومية لما اشترط لحكم الغالب أن يكون مسلما فقط، وهذا تخليط فظيع. فصلاح الدين كان سلطانا تابعا لحاكم عربي قرشي ببغداد ،وكان يدافع عن دار الإسلام التي كانت تطابق في مجال رقعة تحركه دار العروبة، بل هو نتاج للروح الإسلامية و للقومية العربية أيضا. فقد جاهد في نطاق هذه الهوية التي كانت لها آنذاك قدرة فائقة على صهر الكثير من الشعوب غير العربية والأبطال من غير العرب ، لدرجة أننا لا نشعر الآن أن صلاح الدين، أو ابن سينا ،أو عبد القادر الجيلاني ،وغيرهم، ليسوا عربا بانتمائهم البيولوجي العرقي ماداموا قد شكلوا يوما ما النبوغ العربي بشكل من الأشكال.كان على زيدان قبل أن يبادر بهذا التصريح ،أن يضعه في سياقه التاريخي بأن يتقمص في وجدانه ذاك العصر ويناقشه بأدوات وتواضعات ومفاهيم ذلك العصر. هل يا ترى كان صلاح الدين بطلا حقيقيا ،أم مجرد خرافة، انطلت علينا ،نحن السذج البسطاء الذين يرون بقلوبهم لا بعقولهم، الجياشون في عواطفهم، والمتخلفون أبد الدهر عن العالمين؟. يوسف زيدان يرى أن صلاح الدين انهزم أكثر مما انتصر.انكسر قبل حطين في موقعة الرملة التي سبقتها ب10 سنوات وفي موقعة أسروف التي تلتها ب 4 سنوات والتي مزق فيها جيشه بالكامل ، ودفع بعدها مرغما للتخلي عن جزء غير ضئيل من البلاد العربية ،وأن حجم انتصاره في حطين كان مبالغا فيه من طرف المخيلة العربية، خصوصا وأنه حازه من خلال خطته في تسميم الآبار . ولكننا نرى أن الهزيمة والنصر أمران عاديان في حياة القادة العسكريين الكبار، فالحرب منذ نشأتها على ظهر البسيطة كانت سجالا. وليس هناك إلا قائدان اثنان في التاريخ لم ينهزما قط هما: خالد بن الوليد، والمغولي هولاكو. بل إن الرسول نفسه لم ينتصر في موقعة أحد ، ومع ذلك استطاع أن يستثمر هذا القتال لاستخلاص بعض العبر حيث قال: أن أحدا جبل يحبنا ونحبه .ولم تؤثر الهزيمة في معنويات المسلمين وتجرهم إلى تقريع الذات والانكفاء. فمجرد الحرب يشكل أحيانا كل النصر. لأنه يعني عدم القبول بالوضع، ويمنحك حتما شرف المحاولة.لقد استطاع صلاح الدين أن يوحد العديد من الأجناس المسلمة تحت راية الجهاد ويوجههم للغاية النبيلة، بل و أبان عن مقدرة فائقة في قلب موازيين القوى، والانتصار على الأوربيين وبرهن عن حنكة كبيرة في التعبئة الروحية و التخطيط الحربي ،حين حصر العدو ما بين كماشتي قرني الحفرة البركانية المسماة حطين، فاستطاع الانتصار عليه بجيش تعداده 12 ألف مقاتل فقط آسرا 30 ألفا ومبيدا 30 ألفا من الصليبيين. ورغم أن يوسف زيدان يتعمد التقليل من شأن هذا النصر، فإنه لا يمكنه أن يغطي لنا الشمس بالغربال، ويفسر لنا كيف لا يكون نصرا كاسحا وعظيما وقد أسر خلاله صلاح الدين ملك مملكة القدس غي دي لوزينيان وأمير حصن الكرك أرناط، وقتل هذا الأخير بيده لسوابقه في اعتراض قوافل الحجاج إلى مكةالمكرمة ، وتعريضهم للتقتيل واستهزاءه بالرسول الكريم.كيف يأسر الأمراء ، ولا تكون هناك شبه إبادة للجيش وللجنود؟.أما تسميمه أو ردمه للآبار، الذي يكاد يجعل منه زيدان جريمة بيئية، تعادل استعمال السلاح الكيماوي في عصرنا هذا، فأمر طبيعي وعادي، ودليل إضافي، يسوقه هذا المهاجم على نبوغ صلاح الدين الواضح في مجال الإستراتيجية والجغرافيا العسكرية. وماذا يضير صلاح الدين ورسول الله صلعم وصحابته استعملوا سلاح الماء للانتصار في موقعة بدر على كفار قريش؟.وكيف يستصغر زيدان نصر حطين، وقد أعقبه بعدها بشهرين حصار القدس إخلاء وطرد الصليبيين منها بعد 88 سنة من الوجود المسيحي بها، هذا الحصار الذي كتب فيه صلاح الدين صفحات مشرقة أخرى من النبل والشهامة والرفق والإحسان والرحمة في معاملة العدو المنهزم انطلاقا من مبادئ الشريعة الإسلامية السمحاء ،كما رسخ شهرته كقائد نبيل يطبق اسمه الآفاق في أوربا لدرجة أن أسطورة صلاح الدين ابتدأت من هناك،بل وأتت إلينا من أوربا هاته التي انبهرت بشخصيته العجيبة التي سبكها بكرمه وورعه وتقواه، فقد جسد لهم بشكل رائع معاني الحب التي يقدسون في المسيحية ،لدرجة أيضا أن الجدات شرعن يحكين الحكايات المثيرة عن هذا القائد الفذ بكل ممالك أوربا، مما جعل منه على الدوام شخصية حية في المخيال المسيحي الأوربي. لقد كان يحاربهم على مستوى الأرض في المعركة ،وعلى مستوى الصورة في مضمار المثل والقيم. كان لا يملك استراتيجية للحرب فقط، بل إستراتيجية لإرساء السلم أيضا في الأراضي المقدسة بين كل الأديان تحت كنف الدولة المسلمة التي عليها أن تكفل حق وحرية العبادة. كان وهو يخوض الحرب، يعرض دائما وأبدا السلم على أعداءه، مما حولهم إلى الإعجاب به والانبهار بسلوكه، فصاروا إلى الآن أبواق دعاية له.وهذا ما لم يفهمه زيدان، أو بالأصح تغافل عنه، فهو لم يسبر أغوار هذه الشخصية ،بل يكتفي بسوق أخبار من السيرة الناصرية وينزعها من سياقها ويعزلها عن الإستراتيجية الشاملة التي كان يقود بها صلاح الدين المعركة مع الصليبيين .ما يعيبه أيضا زيدان على صلاح الدين ،كونه كان متسامحا مع النصارى واليهود، لدرجة إرساله الفاكهة والمثلجات لريتشارد قلب الأسد ،وتعويضه لحصانه الذي قتل بمعركة حطين بحصانين وإخلاءه سبيل الصليبيين، بل ومساعدة العاجزين منهم على افتداء أنفسهم. ويرى ذلك تآمرا من طرفه معهم ضد الحكم المركزي ببغداد. ولكنه غير مصيب في هذا. لأن الخلافة العباسية كانت بدورها قد اهترات، ولا تستطيع شيئا لصلاح الدين في تلك الحقبة التاريخية، لأنه كان فارسها الأوحد الذي يصول ويجول، ويحمي الديار في تلك الفترة. ولأنه كان يقاوم بالسيف وبالمثال.وهو نوع ما من المقاومة أصيل و خاص به رسخه في التاريخ واشته ربه، بالضبط كما ارتبطت المقاومة السلبية بالمهاتما غاندي، وذلك على الرغم من أن العديد من المفكرين الإسلاميين قد لاموا صلاح الدين على نسامحه وتساهله هذا مع الأعداء وعدم تعاقبهم واستئصال شافتهم، لأنهم لم يعاملوه بالمثل، إذ غالبا ما كانوا يعودون بعد إستجماع قوتهم لمحاربته من جديد رغم النذور والوعود التي قطعوها له. أما بالنسبة لليهود، فيكاد زيدان و يا للغرابة يجعله مسؤولا عن قيام كيان إسرائيل سنة 1948 بسماحه لليهود بالسكن بالقدس، هم الذين كانوا ممنوعين من ذلك منذ 400 سنة خلت بمقتضى عهد عمر الفاروق لأهل هذه المدينة من المسيحيين بأن لا يخالطوهم فيها. ولعله لم يصل إلى المعنى من هذه السياسة العمرانية الخاصة بالقدس التي نهجها صلاح الدين المنتصر، فقد كان يريد أن يقدم وجها إسلاميا مغايرا لوجه الاحتلال الصليبي الذي عندما استوطن القدس سنة قام بطرد المسلمين واليهود الذين كانوا قد تسربوا طبعا للعيش هناك ،بالإضافة إلى المسيحيين غير الكاثوليكيين، والغرض من كل هذا تقديم بديل إسلامي لإمكانية التعايش بين الديانات التوحيدية الثلات، مادام الإسلام هو الدين الوحيد الذي يعترف بكلتا الديانتيين الاخريتيين، وتكوين جبهة داخلية قوية تكون دعامة دائمة للسلم.هذا هو الوجه الآخر لصلاح الدين الذي تعمد زيدان ان يحجبه وأن لا يستثمر فيه. وإذا كان هذا شأن صلاح الدين الرحيم بالأعداء، فكيف نفسر شدته على المسلمين من السنة والشيعة على السواء بحسب يوسف زيدان.أولا لا يمكن القبول بهذه الشخصية المزدوجة للناصر صلاح الدين التي يرسمها كاتب النبطي،و التي تنطوي على الشدة مع المسلمين والرحمة مع اليهود والمسيحيين إلا إذا كان صلاح الدين مصابا بانفصام خطير في الشخصية، وهي الحالة المرضية التي يستحيل معها كل ذلك المسار الناجح وتلك المنجزات التي حققها. ثم إنه يتناقض مع التوجيه الالاهي الوارد في القرآن الكريم.(محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم آية2ح سورة الفتح). بل وكيف ينكل صلاح الدين بأولائك الذين سيحارب بهم ؟دون أن يتوقع أن ينفضوا عنه ؟ وهو لابد يعي قول الله تعالى)(ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك آية 159سورة آل عمران). لقد خاض صلاح الدين الحروب الضرورية لتوحيد أمة الإسلام والشام على وجه الخصوص، بعد اندثار وانشطار الدولة الزنكية لعدة ممالك بين أيدي أمراء صغار الهمة تقعد بهم عن الجهاد، وهي حرب دامت 12 سنة كاملة.لقد كان الوريث الموضوعي لنور الدين محمود زنكي. كان عليه أن ينهي تجزئ البلاد الإسلامية قبل أن يوجه ضرباتها إلى نحور العدو. أن الخصال التي أطرت تعامل صلاح الدين مع الصليبيين هي نفسها مضاعفة من أطرت تعامله وحكمه لرعيته من المسلمين. هذه هي الصورة المتساوقة الممكنة التي يقبلها العقل قبل أن يحققها التاريخ الفعلي كما جرى. إذ يستحيل أن يحقق صلاح الدين تلك التعبئة الروحية لخوض حرب مقدسة طاحنة، وهو يظلم رعيته، ويستعبدها، ويستبد بها ،وهذه الصورة الرائعة هي التي تجعلنا نعود لنجزم انه كان إنسانيا بالتأكيد مع العاضد الفاطمي، ووفيا دون ريب لنور الدين زنكي. و لو كان العكس ما وقع، فهل كان الغرب سينحت له تلك الصورة البهية مع كل هاته الشوائب التي يصر زيدان بإصرار و ظلم ذوي القربى على إلصاقها به في تعامله في أبناء جلدته؟. وإلى هنا يثور السؤال الأخلاقي الذي طرحه ضمن مثالب صلاح الدين :هل استولى صلاح الدين على أموال ومدخرات الدولة الفاطمية ؟. نعم ،فذلك أمر حتمي لأن الدولة الأيوبية هي التي ورثت الدولة الفاطمية. والمؤكد أنه رصد تلك الأموال أو أغلبها لتألف قلوب الجند من المسلمين. وقد يكون صلاح الدين قام بتأميم ممتلكات الفاطميين. فلم ينصب زيدان نفسه ظهيرا للخليفة الفاطمي العاجز المريض دون الشعب المصري؟. هل هذه هي الديمقراطية؟؟.المؤكد أن صلاح الدين لو كان قد استأثر بكل تلك الأموال، ولم يصرفها في تجهيز الجيش، وتنظيم الحملات و تمويل شؤون السياسة والعمران ،ما كان ليسطع نجمه العسكري في الحرب ضد الصليبيين. ولو كان قد كنزها للقي مبكرا مصير المستعصم العباسي من بعده الذي قتله هولاكو، وخزائنه تفيض بالأموال الطائلة، والذهب الكافي، لرد عدوان أضعاف جيش المغول الغزاة .ثم ألم يتساءل زيدان هل كان في حياة الناصر صلاح الدين متسع لنعيم العيش ورغده في قصور مصر، وهو من حارب طيلة 24 سنة 16سنة منها قضاها تحت الخيام العسكرية وفوق ظهور الجياد، لدرجة أنه بعد وفاته قام صديقه القاضي الفاضل بدفن سيفه معه في قبره قائلا: هذا سيفك معك تتوكا عليه إلى الجنة.؟فهل كانت هذه المشاهد الحقيقية مجرد إخراج ووهم انطلى أيضا على مجاييله؟؟.أو مجرد مقطع سقط سهوا من التصوير في فيلم أحمد مظهر العقدة الكبرى لزيدان. لقد انصرف صلاح الدين إلى بناء المدارس الدينية لتدريس الشريعة الإسلامية، ومنها كان يستوحي أسلوبه الراقي في التعامل مع العدو ومع الأسرى . كما وحد مذهب الأمة في المذهب الأشعري السني، وقد قام بإغلاق الأزهر الشريف كما قال زيدان، والذي كان آنذاك مدرسة إيديولوجية تلقن مبادئ المذهب الشيعي الباطني للدولة الفاطمية التي حكمت مصر لقرنين من الزمن.وكان ذلك إجراء إحترازيا منه، خصوصا وأن هذا الجامع على ما يشير لذلك الكثير من المؤرخين، كان يحمل نقوشا على الجدران تقدح في الخليفتين الأول والثاني أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما. وكانت هذه النقوش من الكثرة بحيث يستحيل إصلاحها أو محوها دون ترميمات وإصلاحات طويلة زمنيا. هذه الإصلاحات التي طالت إلى أن قام الظاهر بيبرس بعد 100 سنة بافتتاحه من جديد، بعد أن طال الأمد بالناس بخلفيته الشيعية، ليكون هو هذا الأزهر السني الذي وصل إلينا.كان صلاح الدين ينفذ سياسة دينية تنسجم وقناعته التي درج عليها كسني منذ نعومة أظافره، و تتماهى مع إخلاصه لنور الدين زنكي وللخلافة السنية في بغداد. لذلك لسنا نرى ما الذي يضير زيدان في ذلك؟؟. خصوصا و أنه كان يجب للإنصاف مناقشة صلاح الدين في سياق عصره، و بمعايير عصره، لا بمعايير هذا العصر. وهذا ما يقصر الكثير من الناقدين التارخيين عنه . كانت أوربا موحدة تحت شعار الصليب و هوس الحرب المقدسة، وكان على صلاح الدين الذي استوعب ذلك أن يقابلها بالمثل،و أن ينجز للأمة الإسلامية وحدتها المذهبية. وكان على زيدان أن يلبس عباءة ذلك العصر ويتقمص ويتلبس ظروفه وملابساته لكي لا يحيد، ولا يميل كل الميل، ويكون بالفعل ناقدا في التاريخ.وبما أننا لازلنا في باحة العلم والجوامع والمكتبات ،فإن زيدان يتجنى على التاريخ حين يتهم صلاح الدين بحرق مكتبة دار الحكمة بالقاهرة، والتي حرقت قبل ميلاد صلاح الدين ب57 سنة في نزاع دب بين الجنود الأتراك والجنود السودانيين إبان العصر الفاطمي.أما صلاح الدين فقد حافظ على محتوياتها لكنه أبطل دورها في الدعاية للمذهب الشيعي ونشره. كانت فترة صلاح الدين فترة مضطربة جدا. فقد كان عليه أن يواجه إضافة إلى الصليبيين الإرهاب الشيعي الإسماعيلي لفرقة الحشاشين المتحصنة بقلعة ألموت، أو داعش الأولى في نسختها الباطنية، والتي كانت تزرع الرعب لدي الجميع لدرجة أنها قامت بعدة محاولات لاغتياله، والتسلل إليه ،وكادت تنال منه في كثير منها.مما جعلها أحد أهم الكوابح التي كانت تشغله عن التفرغ للمقاومة وتحرير الأرض. كان يلجأ حتى إلى التحقق من محيطه، ومن جنده واحدا واحدا ،وإخفاء حتى مكان مبيته وتواجده. هذا المحيط هو ما تغافل عنه زيدان حتى ليخيل لنا أن صلاح الدين لم يكن محاطا إلا بالأخيار والفضلاء من الحكام والأمراء وأبناء الشعب. بل و لربما كان هو الشرير الوحيد من بينهم حسب شتائم زيدان . فالمشكلة كانت فقط أن يعترف هو لهم بالجميل ويقابلهم بالعرفان والوفاء..إن زيدان لا يولي اعتبارا لكل هذا، ولا يسافر عبر الزمن، ولا يتموقع مكان الناصر صلاح الدين لفهم حياته وتقديم صورة منصفة عنه. بل هو يظلمه ظلما وهو الذي عانى من آفة الإرهاب الديني النظامي وغير النظامي، حين يتطرف بل ويغالي في التطرف و يعتبره نبعا من ينابيع الإرهاب وملهما للإرهابيين ،فقط لأن مجموعات فدائية أو إرهابية تتخذه اسما لها .إنه إذا طبقنا هذه القاعدة العجيبة سيصبح كل رموز الإسلام ينابيع فكرية للإرهاب . وسنكون كمن يحرم العنب بسبب شاربي الخمر. إننا نضطر لهذه الأمثلة البديهية المبسطة، لأننا فعلا بإزاء أفكار قمة في السطحية والعبثية. وفي هذا نسأل زيدان سؤالا بسيطا فقط: هل تزر وزارة وزر أخرى في عقيدته الفكرية ومنهجه البحثي الفريد. فيما يخص فيلم الناصر صلاح الدين الذي أنتجته السينما المصرية بإشراف من السلطات السياسية، ومشاركة من ألمع النجوم والكتاب المصريين، والذي يعتبر زيدان ،أن بوحه للقراء ،بأن الفنان أحمد مظهر بطل الفيل، قد كان ضابطا سابقا في الخيالة يعد كشفا ،وسبقا ،ودليل إدانة ضمني، لهذا الفيلم ذو المحتد السلطوي، بما أن بطل الفيلم كما يريد أن يوحي لنا زيدان ينتمي لجهاز العسكر ،الذي انهزم أمام إسرائيل . إلا أننا لا نرى أي مبرر لهذا الإسقاط ولهذا النفخ في هذه القربة الفارغة .فالفيلم، إن كان يذكر بحقبة تاريخية ذهبية، فإنه لا يروج أبدا لفكرة المخلص. هو فيلم وكفى. وكل تشابه في الأسماء والأحداث مجرد مصادفة غير مقصودة كما يقولون، و محض مكر من ضروب مكر التاريخ وما أكثرها كما تعودنا القول.ولا أعتقد أن صلاح الدين كان يحتاج لهذا الفيلم ليسكن وجدان الجماهير العربية. ليس في الفيلم تضليل ولا لعب بعقول الجماهير. وحتى إن كانا ،فما علاقة سيرة صلاح الدين بذلك؟؟، وإنما فيه حبكة تاريخية. وزيدان يعرف انه قد نحتاج أحيانا لاختلاق شخصيات من الخيال وتحريكها بجانب الشخصيات الحقيقية لضخ الحياة في أوصال الفيلم والرواية التاريخية على السواء. وغالبا ما تكون هناك علاقة حب يبتكرها كاتب السيناريو أو المؤلف لمرافقة الأبطال في الأمكنة والأزمنة الملازمة للرواية لشد الانتباه وتمرير الخطاب في إطار من الفرجة.ينكر زيدان في الشريط مسيحية عيسى العوام وينكر عليه ان أدى الأمانة حيا ومشينا لكنه ربما لا ينكر أن الفن والسينما يمثلان إحدى ساحات المواجهة مع العدو .وعيسى النصراني، حين يحارب مع صلاح الدين فإنه يعطي شرعية قومية ووطنية للنضال ضد الاستعمار .الحروب الصليبية لم تكن فقط حروبا دينية بل كانت تحريرا للأرض من المستعمر الأوروبي الغاشم.وصورة العوام تلحم أكثر الأقباط والمسلمين في مصر وتجعل النصر إنجازا لكل أطياف الأمة، وتدمج المكون المسيحي العربي في المشروع الحضاري لكل الأمة. عود على بدء هل معنى كل هذا أن صلاح الدين شخصية أسطورية ،و شخصية فوق العادة ،لا يحق لنا أن نتناولها بالنقد أو بالتجريح العلمي كما فعل ذلك زيدان، لأنها تصنف ضمن المقدسات التي لا ينبغي المساس بها. أظن أن بطل حطين هو فقط واحد من الشخصيات المسلمة التي تحظى بحب واحترام وتقدير الجماهير العربية لحمولتها الهوياتية التي تحصلت لها بمرور التاريخ ،و لأنها ترمز للصمود وللمقاومة. وهو واحد من أفذاذ الأمة الذين يذكرنا بالقضية ويذكون فينا الأمل بالنصر، وبإمكانية تحقيقه.إنه ممن يمنعون عنا الهزيمة النفسية بعد أن سقطنا في الهزيمة العسكرية، و يحفظون مناعتنا النفسية ،التي هي آخر الحصون المتبقية لنا.نعم هو يبقى بشرا ،كانت تجتاحه نفس المشاعر التي تجتاح جميع الناس . لم يكن أبدا زعيما مفارقا للطبيعة. بل كان إنسانا يأكل ويشرب، وينام ويصحو، و يحب ويكره ،ويتحالف ويتنازع،و يطمئن ويركن، ويتوجس ويحذر، و يقدم ويحتاط وقد يخاف أيضا. وقد كانت له بالتأكيد مثالبه ومساوؤه الصغيرة كما لنا جميعا. ولكنها لاتصل إلى أن تهز المكانة التي له في قلوبنا.إنه من رعيل تلك الشخصيات التي لا يقيم أداؤها على هذا المستوى ،وإنما على مستوى مخرجاتها وإنجازاتها. هي شخصيات يتم تحليل عطائها على المستوى الماكر وسكوبي وليس على المستوى الميكروسكوبي. لأن قراراتها تكون غالبا قرارات مصيرية وقرارات دولة. ولا داعي لأن نغرق في التفاصيل الدقيقة التي لا تعني سوى البحث عن تشويه الصورة بخلط ما هو سلوك يومي بما هو سلوك استراتيجي. لقد أنهك زيدان نفسه فيما لا طائل من وراءه. فما القيمة مثلا لوفاء صلاح الدين لزنكي أو للعاضد أمام تحرير القدس ومغالبة الصليبين عليها. إن إثارة مثل هذه المواضيع، وبهذا الشكل ،هو الدغدغة الصريحة والمفتوحة لعواطف العامة لتأليبها ضد تاريخها بأساليب مريبة.فما يهم حقيقة هو هل أبلى صلاح الدين البلاء الحسن في جهاد العدو أم لا؟. وهذا سؤال أجاب عنه الغرب. وقديما قد قالوا الحق ما شهدت به الأعداء.فباختصار لقد تطاول زيدان كثيرا على هذه الهامة الكبيرة ربما بقصد أو بدون قصد فهو الأعلم بنيته منا . إن تحقير صلاح الدين يمهد الطريق لتكوين رأي عام جديد لا يرى فائدة من المطالبة بتحرير فلسطين من خلال تبخيس الرموز وتهوين الانبطاح أمام ناظره. فعندما نهين الجانب المضيء من تاريخ الشعوب فإننا في الحقيقة نصادر مستقبلها ،ونطلب منها ان تعتاد على الهوان طبقا لقول الشاعر ومن يهن يسهل الهوان عليه/ما لجرح بميت إيلام .ولكننا نعتقد أن صورة صلاح الدين أكبر من أن تهتز بسبب مناوشات فكرية كهاته، ونعتقد أنه بإمكاننا أن نتحمل سقطة إضافية لكاتب كبير كيوسف زيدان تغفر له دعوته إلى إعمال العقل مثل هذه الزلات فلا يكسر الأواني إلا من يحاول تنظيفها. وفي الأخير لا نريد أن نودع يوسف زيدان ومغالطاته دون أن نتساءل هل كان صلاح الدين مجرد مطية بالنسبة له لنقد الحاضر العربي وأبطاله الورقيين؟. هل يصب زيدان جام غضبه على الاستبداد العربي عبر قناة الناصر يوسف؟. هل يتنصل مما يجري أمامه بهذه التقية التي ليست أبدا في مكانها؟ إذا كان كذلك فقد أساء اختيار الشماعة المناسبة. وكان عليه أن يتصدى وهو المؤرخ الجهبيذ لتأريخ الحاضر الذي تدور حلقاته المؤلمة أمامه الآن، فعلى الأقل لا يحتمل الخطأ في هذا المجال، وأن تكون له الشجاعة لإعلان موقفه من كثير من القضايا التي تؤرقنا الآن، لا أن ينهال بمعول الهدم على ما تبقى من مظاهر العزة والفخر العربي الإسلامي. أما صلاح الدين فسيبقى بطلا راسخا في الوجدان العربي والإسلامي والإنساني بالرغم من كل مقابلات وكتابات زيدان.