توطئة لا بد منها: بادئ ذي بدء أطرح السؤال التالي لأنطلق منه وأحاول تبيان وجهة نظري في مقالي هذا: هل الإسلام كدين والسياسة يتعارضان؟ دون الخوض فيه كثيراً، لأن الرؤية تبدو لي واضحة. على كلّ حال، نجد أنفسنا هنا مباشرة أمام افتحاصٍ لمقولة "الإسلام دين ودولة". ولعلّ الباحث سيجد نصوصاً شرعية كثيرة تتحدّث عن العلاقة بين الحاكم والمحكوم، والطاعة والولاء، والخروج على الحاكم، والبيعة، والعلاقات بين المسلمين وغيرهم، والمعاهدات، وباب الحروب والصّلح... الخ. وهذا–في تقديري-كافٍ للقول إن الإسلام كدين يهتم أو ينظّم الحقل السياسي، ويضع له أحكاماً وفقهاً خاصّاً وفق تبويبات معينة، بحسب الحقول والدلالات. غير أن تساؤلاً آخر يتبادر إلى الذهن، بما أن الدين هو مجال للطهرانية بما يتضمّنه من قيم ومُثُلٍ عليا واستقامة مفترضة، على عكس السياسة التي يعرّفها محمد عبده بأنها بحر من النجاسة، وأتفق معه في ذلك، لكونها لا تعرف ولا تعترف بالأخلاق، بل بالمصالح، ناهيك عن كون السياسة في تعريفها الكلاسيكي هي فن الممكن، في حين إن الدين هو أمور ينبغي أن تكون وتتوفر في الفرد الذي يطمح إلى النجاة. وعليه، وبما أن هذين الحقلين الدلاليين متناقضان، فكيف يتعامل مع هذا التناقض الأشخاص والحركات التي تؤمن بالمرجعية الإسلامية؟ ربما كان الأمر سهلا في فترة دولة المدينة التي قادها النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه، حيث نظّم وشرّع وقاد الجيوش، وعقد المعاهدات... الخ. وهنا لا يمكن القول إلا إنه نبي يتنزل عليه الوحي، رغم كونه ارتكن عليه السلام في أمور كثيرة لمعرفة وخبرة الناس، مثل واقعة معركة بدر، حيث أشار عليه الحباب بن منذر بتغيير مكان معسكر جيش المسلمين فأخذ برأيه. المهم أنه في تلك المرحلة قد نقول إن من نظّم الشأن السياسي هو من نزل عليه الوحي، غير أنه وبدءًا من عهد عثمان فعلي والفتنة مستيقظة بسبب خلاف سياسي على من له أحقية الحكم، ومنذ ذلك الوقت تعامل المسلمون بينهم بالسحق والمحق. والآن، الحركات الإسلامية التي تقول بالمرجعية الإسلامية، وتجد في أدبياتها الحديث عن منهاج النبوة، وأتحدث عن كل الحركات الإسلامية بمختلف تصنيفاتها (معتدلة ومتشددة راديكالية)، من جماعة الإخوان المسلمين إلى تنظيم داعش الإرهابي، مروراً بالسلفيين. كيف يمكن تسيير وتنظيم الشأن السياسي المعروف بنجاسته وتغليبه للمصالح والحروب تحت الطاولة والألعاب القذرة والضرب تحت الحزام، وما يتطلب ذلك من تكتيكات تجعل من المرء مثل "الحرباء" كل يوم في شأن، انطلاقاً من نصوص دينية تحث على العدل والرجمة والقسط وغيره من المبادئ الكريمة. ثم، المعلوم أن البشر خطّاؤون، غير أن ادّعاء الطهرانية أو القول بها في الحركات الإسلامية يجعلنا أمام تناقض صارخ آخر، هو كيف يشرف شخص "طاهر" على وضع "موبوء"؟ السياسة تقتضي الكذب وإخفاء الحقائق، تقتضي أحياناً القمع والظلم... أسئلة كثيرة تجعلني أكفر بالحركات الإسلامية مثلما أنا كافر بالسياسة. أتمنى لو أنني أستيقظ يوما على خبر إلغاء جميع الأحزاب والحركات التي تتخذ من الدين أريكة، وسبب إدانتي لها أنها أساءت إلى الدين، ونفّرت الناس منه، ولم تتقن السياسة، فأكثرت من الانبطاح والتوافق أو بالغت في التشدد والتراشق. *باحث في القانون والإعلام