"أنا أوسيلفي إذن أنا موجود"؛ ترجمة جديدة صدرت للسيميائيّ المغربي سعيد بنكراد، عن المركز الثقافي للكتاب بالعاصمة اللبنانية بيروت، مجاورة، على رفوف المكتبات وراحات أيدي المهتمين، مؤلّفا آخر له حديث الصدور هو "تجليات الصورة". في هذا الحوار "خفيف الدّسم"، تجاذبت هسبريس أطراف الحديث مع السيميائي المغربي حول ترجمته ل"Je selfie donc je suis"، وراهِنية موضوعه، وعمله في السنوات الأخيرة ترجمة وبحثا على موضوع الصورة والإشهار، وحول التغيّرات التي طالت ذهنيّة الإنسان "المعاصر" الذي صار يفضّل توثيق اللحّظة قصدَ تَأْبِيدِهَا أكثر من عيشها. ما موضوع المنشور الجديد "أنا أُوسيلفي إذن أنا موجود"؟ هذه ترجمة مؤلّف فرنسي بعنوان "Je selfie donc je suis"، صاحبته هي إلزا غودار، محلّلة نفسانية شابة، من مواليد سنة 1978، صدر في سنة 2016 عن دار نشر ألبان ميشيل. الكتاب يتحدّث، كلُّه، عن "الرقمية" بصفة عامة، والعوالم الافتراضية الجديدة التي جاءت فيها الرقمية الحديثة، أوّلا فيما يتعلّق بما يسمى بالشبكات الاجتماعية، وكل الصيغ البصرية المرافقة لها، بما فيها عملية التصوير الذاتي، أو تصوير العالم الخارجي، أو محاولة التعامل مع الواقع باعتباره ممرّا فقط نحو عالم حقيقي هو العالم الافتراضي. وتدرس المحلّلة النفسانية، على امتداد 200 صفحة تقريبا، كل العواقب الممكنة والنتائج المترتّبة عن هجر الناس للواقع أوّلا، وتنازلهم ثانيا على جزء كبير من حميميَّتهم الخاصة لصالح شركات أجنبية، ومصالح استخباراتية، إلى غير ذلك؛ فهم يقدّمون طوعا، بدون عنف ودون عسف، كل ماله علاقة بحياة شخصية كانت تعدّ بالأمس القريب من أشدّ المناطق التي يحافظ عليها الناس. ما أهمية هذه الترجمة خاصة في مجالنا التداولي العربي الذي لا يعرف وفرة في المراجع التي تواكب مستجدّات علاقة الإنسان بالتقنية والصورة؟ يبدو لي أن هذا كتاب يجب أن نضعه بجانب الوسادة كل مساء. ربما ما زلت إلى حدّ الآن من بين من يُسمّونهم في العالم الغربي "المهمَّشين"؛ الذين اختاروا الهامش لكي لا ينغمسوا في هذا المجال الجديد، لا لأنني ضد الرقمية، بل بالعكس فقد استفدت من هذا الميدان، لكن لأننا، أيضا، خسرنا معها شيئا كثيرا جدا. خسرنا أوّلا اللغة؛ فتراجَعَت اللغة، وصار الناس يكتبون اليوم فقرات بشكل اعتباطي، بخليط من دارجة وحروف معبّأة في كلمات، وتحوّلنا إلى ما يسمى ب"الاستبصار"، و"التّلصّص"، و"الاستعراء". الآن، لم تعد عندنا حميمية، وفي فترة من الفترات كان الناس لا يقولون أسرارهم، عكس الآن، حيث القاعدة هي أن تقول كل شيء عن نفسك وعن الآخرين، فإذا تعشّيت بالكسكس تصوِّرُه وتضعه على فيسبوك. واللحظة لم يعد لها قيمة على الإطلاق، فيجب أن تصوَّر لا أن تُعاش؛ فإذا ذهبتُ إلى البحر عوض أن أتمَلَّى في أمواج البحر، يجب أن أصوِّر نفسي أمام البحر، ويصبح هذا هو الأساس ليرى الآخرون أنني كنت بجانب البحر، أما متعتي الخاصة فقد أصبحت مسألة لا قيمة لها نهائيا. أما مسألة اللغة، التي سبق أن تحدّثتُ عنها، فما تسميه إلزا غودار بال"آيدولون" (Eidolon)، وهو مفهوم إغريقي قديم يعني الصور العرَضيّة الهشّة التي لا تستقرّ في الذاكرة إلا قليلا، يجعلنا عِوض أن نعيش العوالم كما تقدّمها اللغة؛ أي بوصفها سلسلة من الطاقات المفترضة التي تمكّن الفرد من استحضار وضعيات متعدّدة، نفرض على الذاكرة وعلى العين صورة محدّدة بدون قيمة، وتحل بسرعة محلَّها صور أخرى، وهكذا دواليك. الآن، العالم لا يُعاش باعتباره محكيّا، بل باعتباره صورة فقطا. كنا نحكي الحكايات والآن هناك فقط صور. وهناك وضعيات يمكن أن يشاهدها الناس في الشارع ولا تضحكهم على الإطلاق، وإذا ما صُوِّرت وتُدُوِّلت على "واتساب" تصبح مدعاة للضحك، وهذه مسألة خطيرة جدا. صدرت لكم في السنوات القليلة الماضية مجموعة من الترجمات والكتب المتعلّقة بالصورة والإشهار، أين تتجلّى أهمية الموضوع الذي دفعكم إلى تناوله في مجموعة من الكتب والمقالات؟ أولا، الواقع الحالي يفرض ذلك، وثانيا، أنا عندي فكرة إما أن أبقى في حدود السيميائيات التقليدية؛ أي عرض نظَريّات يتلقّفها الطّلبة، وهذا أمر مهم، أو أن أحاول ما أمكن بالموازاة مع ما نقدّمه بالمدرّجات والكليات، أن ننفتح على الواقع. في الواقع الآن مستجدات كثيرة جدا؛ فهناك استعمالات جديدة للأشياء، وهناك استعمالات للزّمن، والناس اليوم يعيشون بالإشهار، ولو خلّصنا الآن شوارعنا من كل الصّور التي تزيّنها وتؤثّثها لأصبح العالم موحشا في أعيننا، وبالتالي يبدو لي أنني، كأكاديمي، لست منفصلا عن هموم ما يدور بجانبي، وإذا كانت السيميائيات نظرية تجريدية فقط، فلا حاجة لي بها. بل يجب أن تتحوَّل إلى أداة لقراءة المحيط بأشيائه، وكائناته، ومحكيّاته، وكل مفاهيمه، وهذا ما دفعني إلى الاهتمام بهذه المسألة.