ملاحظات على هامش تصريحات زعيم تحالف "جي8" كلما كانت التجربة أكثر ديمقراطية، كلما صعد الإسلاميون إلى الحكم عن طريق صناديق الاقتراع، وكلما تمكن الإسلاميون من تسيير الحكومة المنتخبة من طرف الشعب كلما تحققت التنمية الاقتصادية والاستقرار السياسي والاجتماعي، في تصالح مع الهوية والمرجعية للمجتمع، على الأقل في الأفق المنظور، وهو ما تؤكده كل التجارب التي عاشتها الدول العربية والإسلامية (ماليزيا، تركيا...) منذ ثلاثة عقود. وكلما كانت التجربة أكثر استبدادا وأكثر فسادا كلما صعد العلمانيون المتطرفون، المتحالفون مع الفساد الإقتصادي والإستبداد السياسي، والمدعومون من الغرب الإمبريالي. مناسبة هذا الكلام هو تصريحات أحد زعماء "المشروع السلطوي الجديد" حول نضج التجربة الديمقراطية في المغرب ومقاومتها لتسليم السلطة للإسلاميين، وهو ما أثار استغراب عدد من المتتبعين، فقد اعتبر هذا الزعيم في هذه الظرفية الدقيقة من تاريخ المغرب أن وضع المغرب يختلف جذريا عن الدول العربية الأخرى التي حصلت فيها ثورات، " المغرب ليس هو تونس ولا مصر ولا ليبيا، نحن لنا تراكمات، المغرب لم يكن له في يوم من الأيام الحزب الوحيد لدينا تراكمات في البناء الديمقراطي والتمثيلية السياسية هذا غير موجود في الدول الأخرى" حسب زعمه. فشل حكومي ذريع تخفي هذه التصريحات الصادرة عن وزير مالية لحكومة فاشلة وغير منسجمة (فيها وزارء ينتمون على المعارضة!) إحساسا بإمكانية حمل الانتخابات المقبلة لبعض المفاجئات الغير السارة للمشروع السلطوي، ومنها انتصار مستحق لحزب العدالة والتنمية، ولهذا فإن مثل هذه التصريحات تعتبر أولا وصاية على المواطنين في اختيار ممثليهم، وثانيا نزعة دفينة تخوف من الآخر لعدم القدرة على مواجهته بشكل شريف، وبالتالي الخوف من حمل صناديق الاقتراع للاختيارات الحقيقية للمواطنين، وثالثا، يثير الشفقة ممتزجة بعدم ارتياح كبير، خصوصا وأن هذا الحزب الذي يقود تحالفا بالوكالة عن حزب الأصالة والمعاصرة (النسخة المغربية لحزب التجمع الدستوري المنحل لبنعلي) يشارك في الحكومة الحالية، وفي نفس الوقت يتحالف مع أحزاب في المعارضة، وينتقد رئيس حكومته (هل رأيتم ديمقراطية بهذا النوع في العالم؟)، مما يثير الشفقة إلى حالة البأس السياسي التي وصلت إليها بعض الأحزاب السياسية المخزنية. لقد نسي وزير مالية الحكومة الفاشلة التي طالب شباب 20 فبراير بحلها هي والبرلمان النائم، بأنه في ظل حكومته تراجع المغرب في عدد من المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وأصبح المغرب مصنفا ضمن "الثلث الأخير" في جميع التقارير الدولية الخاصة بمجالات التعليم وحرية الإعلام والفساد والرشوة والتنمية البشرية والتنافسية الاقتصادية، ولم يعد من الممكن الاستمرار في تكريس هذا الوضع مستقبلا، نظرا لكون هذه التقارير الدولية تزكي واقعا معاشا يوميا من طرف المواطنين، في صراعهم مع المصالح الإدارية والنقل والسكن والبطالة وحرية التعبير والإعلام وغيرها من الحقوق الأساسية للعيش الكريم التي تضمن المواطنة الحقة، والتي كان زعيم تحالف "جي 8" أحد أقطابها في الحكومة غير المنسجمة التي شارك فيها، فقد تراجع المغرب خلال سنة 2011 حوالي 14 درجة في سلم التنمية البشرية، ليصبح 130 بعد أن كان 116 في السنة ماضية، كما أصبح الفساد مستشريا في عدد من القطاعات الحكومية، بحيث تراجع المغرب في مؤشر إدراك الفساد إلى الرتبة 89 حسب تقرير منظمة الشفافية الدولية، بعد أن كان في حدود 40 عالميا قبل هذه الحكومة المشئومة، ربما لن ينسى المغاربة فضيحة وزير الشباب والرياضة الليبرالي الذي اكترى سيارة بمبلغ خيالي لمدة ثلاثة سنوات (وما خفي كان أعظم!)، ومعدل نمو ضعيف لم يتجاوز 4 في المائة، كما احتل المغرب الرتبة 75 عالميا حسب ترتيب تقرير التنافسية العالمية 2010-2011، بالإضافة إلى تراجع حرية الصحافة حسب تقرير مراسلون بدون حدود، والتراجعات في سجل حقوق الإنسان، بالرغم من تأسيس المجلس الوطني لحقوق الإنسان بطريقة غير ديمقراطية، مثل القمع الوحشي للاحتجاجات الشعبية، والاختفاء القسري والتعذيب وغيرها، ومحاكمة الصحفيين وسجنهم، التي اعتقد البعض بأنها ستنقرض مع "العهد الجديد". ولكن بدأت حرارة الربيع العربي ترتفع، وبدأت الثورات العربية تؤتي ثمراتها الأولى، تتجلى في مصالحة الشعوب مع نخبها، لتعبر فعلا عن إرادة الشعوب في تحقيق الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية ومحاربة الفساد والاستبداد، أدت أولى نتائجها إلى إسقاط رؤوس الأنظمة الأكثر ديكتاتورية، بدأت بطرد بنعلي ومبارك وآخرها الطريقة البشعة التي قتل بها القذافي، وتصفية نظامه الغير مأسوف عليه، وما زالت مستمرة في كل سوريا واليمن، واستأنفت حيويتها في مصر مجددا مع وثيقة الجيش الغير ديمقراطية، وقد انتقلت عدواه سريعا إلى المغرب مع الاحتجاجات الشعبية التي قادها شباب 20 فبراير، وما زالت مستمرة، وإن كان يعتقد السيد وزير المالية أن المغرب ليس هو تونس أو ليبيا، فما عليه إلا أن ينظر إلى المسيرات الشعبية الداعية إلى مقاطعة الانتخابات التي نزلت يوم 20 نونبر، والتي لا اعتقد أن السيد الوزير يمكن يجمع مثلها؛ طبعا من دون إعطاء مقابل مادي للمشاركين مثلما وقع له أحد المرات بإلقاء قنينات فارغة عليه؛ ثم استأنفت الثورات العربية عملية البناء الديمقراطي لتعطي في أول تجربة بعد أكثر من ربع قرن من الحكم العلماني المتطرف في تونس أول حكومة شعبية شارك في اختيارها أكثر من 90 في المائة من الأشخاص المسجلين في اللوائح الانتخابية، وأعطت فوز حركة النهضة التونسية فوزا مستحقا بعد ثلاثين سنة من القمع في الداخل والمتابعات في الخارج. من الاختزال والتبسيط المخل بالتحليل الموضوعي والدقيق لما يقع في المنطقة، أن لا يأخذ وزير محترم بعين الاعتبار المعطيات الثابتة والمتغيرات الطارئة، التي تسمح بتكوين تحليل دقيق لما يقع ومن ثمة القدرة على التنبؤ بالمسارات القريبة والبعيدة، والعمل على تفادي السيناريو الأسوأ: إنها الثورة يا مولاي!. إن الذي لا يتعظ بما يقع في دول المنطقة لا يستحق أدنى احترام، لأنه كانت لديه فرصة لتفادي السيناريو الأسوأ، ولكنه لم يتعظ، فبعد "الثورة" لن يكون ممكنا الرجوع إلى الوراء وإصلاح ما فات، ولن تكون المطالب الإصلاحية كافية لتلبية رغبات وتطلعات متنامية لفئات اجتماعية واسعة، لم يعد بإمكانها الانتظار أكثر لتلبية هذه التطلعات، ولن تستطيع حكومة يقودها وزير تشير إليها أصابع الشباب بأنها حاضنة للفساد ونتيجة للاستبداد أن تفرج عن الاحتقان الموجود حاليا، والتي لا يعلم أحد، إلا الله، ما يمكن أن يقع نتيجة لحالة الإحباط العارمة التي يمكن أن تقع داخل المجتمع بسبب فشل النموذج العلماني المتطرف المتواطئ مع المخزن الاقتصادي والمدعوم من طرف المخزن السياسي الحاكم. الإسلاميون في الحكم: على عكس ما يتوهم بعض التبسيطيين والإختزاليين، الذين أعمتهم الإيديولوجيا عن رؤية الواقع المركب، فالتجربة الإسلامية في الحكم ليست متشابهة، بل هي متعددة حسب السياقات التي أنتجتها والحيثيات والظروف المؤسساتية والدولية التي أفرزتها، فالتجارب الدولية المتوفرة تشير إلى أن هناك طرق متعددة لوصول الإسلاميين إلى الحكم، يمكن حصرها في ثلاثة: أولا: عن طريق الانقلابات العسكرية، مثلما وقع في التجربة السودانية، بعد الانقلاب العسكري الذي قام به عمر البشير وأصحابه في يونيو 1989، والتي أدت على سوء تقدير للمعطيات الثابتة للمجتمع السوداني المتميز بالتنوع الإثني والتعدد الديني والشساعة الجغرافية، بالإضافة إلى المعطيات الدولية، الرافضة لوصول الإسلاميين للحكم، لتتحول بعد ذلك إلى أكل الحية لنفسها، بحيث بدأت محاكمة بعض الشخصيات التي شاركت في الانقلاب، وقد أثبت هذا النموذج فشله، ولم يكن في يوم من الأيام مثيرا للإعجاب. ثانيا: القيام بثورة شعبية بشكل فردي، مثلما وقع في الثورة الإيرانية بقيادة الخميني، وأدت في نهاية المطاف إلى نظام شبه-ثيوقراطي، بعد تملك أتباع الخميني لزمام الأمور، تم فرض رأيتهم للسياسية والاقتصاد والأخلاق...، ولم يعد هناك فرصة للرجوع إلى الوراء من أجل الاتفاق على طريقة تدبير مرحلة ما بعد الثورة، وهذا النموذج بقدر ما يثير الحماسة، بقدر ما تبرز نتائجه بأن مخرجاته ليست ديمقراطية بالضرورة. ثم ثالثا: عن طريق انتخابات ديمقراطية، مثلما وقع في ماليزيا وتركيا في الثمانينات التسعينات، وهذه الأخيرة ما زالت مستمرة حاليا، وفي الجزائر بداية التسعينات والأردن وفلسطين، الخ...، وهو النموذج الذي تقتنع به الغالبية العظمى من الحركات الإسلامية في العالم، وهو مبدأ المشاركة والتغيير من داخل المؤسسات، في إطار التعددية واختلاف الآراء واحترام الآخر. وتشير التجارب الدولية كلها إلى أنه كلما كان وصول الإسلاميين على الحكم عن طريق الانقلابات العسكرية أو الثورات الشعبية، فإنها تؤدي إلى تكريس نفس نموذج الحكم الاستبدادي السابق، مع تغيير في الأسماء والرموز، ولكن يبقى الجوهر الغير ديمقراطي، وهذا أمر مفهوم، فكل ثورة تحمل ضمنها ثورة مضادة، وكما يقال في بعض الأمثلة الشعبية، السلاح الذي تقتل به هو الذي تموت به، حيث أن الأوضاع المتأزمة في إيران تنبأ عن حدوث تحولات عميقة مستقبلية نحو تمايز أكثر وضوحا في علاقة المقدس (آيات الله) والدنيوي (الحكومة المنتخبة) نحو إعطاء مزيد من المسافة بين التدبير اليومي والإستراتيجي، وبين المرجعي والتدبيري. والعكس بالعكس، حيث تؤكد التجارب التي يصل فيها الإسلاميون على الحكم عن طريق انتخابات ديمقراطية كلها تؤكد على أن الإسلاميين يحققون نقلة نوعية في الاقتصاد والفكر والسياسة، فكلما وصل الإسلاميون إلى الحكم عن طريق صناديق الإقتراع واستطاعوا تشكيل حكومة، كلما تحقق الإزدهار الإقتصادي والإستقرار السياسي والإجتماعي. هذا الإستنتاج تؤكده التجربة التركية والماليزية، في حين أن باقي التجارب الأخرى، الجزائر في بداية التسعينات وفلسطين سنة 2006، تم إجهاضها بسبب تواطأ القوى الخارجية مع بضع التيارات العلمانية المتطرفة المتنفذة في السلطة والمتشابكة المصالح مع الغرب الإمبريالي. ففي التجربة التركية، استطاعت حكومة العدالة والتنمية مضاعفة الدخل الفردي أكثر من أربع مرات منذ سنة 2002، بحيث انتقل الدخل الفردي من 3000 دولار سنويا سنة 2002 إلى حوالي 15000 دولار حاليا، كما تم مضاعفة الدخل القومي الخام PIB أكثر من ثلاثة مرات من 200 مليار دولار سنويا إلى حوالي 750 مليار دولار حاليا، كما أن معدل النمو حالي في تركيا من أعلى نسب النمو في العالم، وصل إلى أكثر من 9 في المائة ( قارنوا مع نسبة 4 في المغرب في ظل حكومة وزير المالية الليبرالي)، كما أن الاقتصاد التركي يوجد في الترتيب 16 عالميا بعد أن كان في مراتب متدنية سابقة قبل حكومة العدالة والتنمية، ونفس الأمر مع حكومة محمد مهاتير، بحيث اعتبر ضرورة التصالح مع القيم من اجل تحقيق إقلاع اقتصادي وانسجام اجتماعي وتحرر فكري وسياسي من التبعية الغربية، وكان من أبرز النماذج التي طبقت نموذج: "التنمية بالقيم"، والتجربة الماليزية مهمة في تحقيق التنمية الاقتصادية بالاعتماد على القيم الدينية والاجتماعية الإيجابية، بدل النماذج المستوردة من الخارج، التي تأتي نتائج معاكسة للبيئة الأولى التي نشأت فيها، وهو ما يريد بعض الليبراليويين استنباتها في المغرب، عن طريق الفن والإعلام، والمركز السينمائي المغربي و2M نموذجان بارزان. ------------ يمكن استنتاج قاعدة لتقييم مشاركة الإسلاميين في الحكم، فإذا تمت المشاركة عن طريق انقلاب عسكري أو ثورة شعبية؛ يقودها الإسلاميون لوحدهم وليس بتشارك مع قوى أخرى؛ ستؤدي حتما إلى كوارث، وهذا لا ينطبق على الإسلاميين فقط، ولكن في نموذج الحكم الحاصل عن طريق انقلاب عسكري أو ثورة إيديولوجية معينة، ولكن في حالة وصل الإسلاميون إلى الحكم عن طريق تعاقد مع الشعب، وتفويض لهذا الأخير للإسلاميين لتدبير شؤونهم الدنيوية، ويمر بصناديق الاقتراع، ويشهد بنزاهته الخاص والعام، فهذا لن يؤدي إلا إلى الازدهار والتنمية، والتجربة التونسية تأكد أن الإسلاميين أكثر نضجا مما يتصور بعض غلاة العلمانيين الفاقدين للشرعية الشعبية والمختفين وراء الجيش والأنظمة الفاسدة. [email protected]