حراك جديد بات يلوح في أفق مدينة تنغير، الواقعة في جهة درعة تافيلالت، بعدما اهتزت المدينة على وقع فاجعة إنسانية خلّفت الاستياء في نفوس الساكنة، إذ لقي شاب مصرعه داخل أكبر منجم للفضة بإفريقيا (إيمضر)، يتحدر من منطقة "أمان نوقيدار" التابعة ترابيا لجماعة "واكليم"، التي تبعد عن الإقليم بنحو ثلاثة كيلومترات. وأشعل هذا الحادث فتيل الاحتجاجات بالجنوب الشرقي، لاسيما أن حادثة مشابهة وقعت في منجم "إيمني" الواقع بالنفوذ الترابي لجماعة "أمرزكان" بإقليم ورزازات، إذ توفي عامل في الثلاثينات من عمره، بينما أصيب اثنان آخران بجروح متفاوتة أثناء مزاولة عملهم في إحدى الورشات بالمنجم، ما جعل الفاعلين الحقوقيين يتساءلون عن إجراءات السلامة المرافقة لاشتغال العمّال في مناجم الجهة. وصنعت مدينة تنغير المنجمية الحدث خلال الأيام الماضية، إذ بدأت هذه الحادثة تكتسي أبعادا جهوية ووطنية، وبدأت تذكر الجميع ب"حراك جرادة" ومختلف المقاربات المعتمدة لإخماد الحركات الاجتماعية في بعض مناطق المملكة، فقد تعالت الأصوات المنددة بغياب التنمية الاجتماعية والاقتصادية في المدينة على غرار باقي أقاليم جهة درعة تافيلالت. وتحاول جريدة هسبريس الإلكترونية تسليط الضوء على واقع التنمية بالجنوب الشرقي، عبر استحضار مختلف المحطات التي مرّت منها الجهة منذ إقرار الجهوية الموسعة، مسائلة المسؤولين الجهويين حول ماذا تحقق طيلة هذه الفترة؟ وذلك بأخذ آراء مختلف الفاعلين الحقوقيين والثقافيين والمدنيين بالمنطقة. غياب مخطط حقيقي للتنمية الجهوية بدرعة عبد الواحد درويش، الناشط الأمازيغي، قال إن "الغريب في الأمر برمته أنه أكبر منجم للفضة في إفريقيا، والرابع على الصعيد العالمي، إذ يتوسع المنجم شيئا فشيئا على حساب الاستنزاف والاستغلال البشع للمياه الجوفية، لأنه يستفيد من الفرشة المائية للمنطقة، عبر عقد شراكة وقّعه مع إحدى الجماعات التي خوّلت له ذلك". وأضاف درويش، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن "العديد من الدراسات أثبتت التأثير الخطير لنفايات المنجم على البيئة، إذ تفتخر به مؤسسة مناجم على اعتبار أنه يُصنف ضمن المناجم التي تدر الأموال الطائلة، لكن المدينة عبارة عن منطقة منكوبة تقريبا، بسبب تنامي نسب الفقر بشكل مهول جدا"، وزاد: "يحتضن الإقليم ما يسمى الحي المنجمي الذي اشترت الشركة أراضيه بأثمان بخسة، ما يدفعنا إلى التساؤل عن دورها في تنمية المنطقة عوض تنمية مدينة الدارالبيضاء". وأردف المتحدث: "المادة 169 من اتفاقية منظمة العمل الدولية تُقرُّ بوجوب تحكّم السكان الأصليين في ثرواتهم الطبيعية وأساليب معيشتهم وتنميتهم الاقتصادية، وهي الاتفاقية التي صادق عليها المغرب بالمناسبة، لكن ما مدى احترام الشركة لجميع الشروط القانونية المتوفرة في دفتر التحملات الذي تشتغل بموجبه منذ سنة 1969؟، لاسيما أن المدينة تحتضن أقدم وأطول احتجاج بالمغرب، بلغ حاليا حوالي سبع سنوات". وأوضح الفاعل الحقوقي أن "العديد من الأسئلة بدأت تطرح من قبل الساكنة، بخصوص الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الصعبة، ما يستدعي بلورة مخطط حقيقي للتنمية الجهوية، في إطار الحديث عن النموذج التنموي الجديد، لأن السكان يجب أن يستفيدوا من خيرات المنطقة، لاسيما أنها أفقر جهة بالمغرب، والأمر نفسه ينطبق على عائدات السينما بورزازات ومحطة الطاقة الشمسية أيضا". منجم "إيمضر"..أضرار بيئية وصحية خطيرة طالت العديد من الانتقادات منتخبي المدينة الذين لم يتفاعلوا إطلاقا مع الموضوع، إذ عبر السكان عن حنقهم من "بعض العلاقات التي تجمع هؤلاء المنتخبين بالشركة"، الأمر الذي "يفسر صمتهم حيال الفواجع المتعلقة بالمنجم"، متسائلين عن مصير تنسيقية الأحزاب "المتصارعة" بتنغير، التي وعدت الساكنة بالترافع عن قضاياها، ومن ثمة إقرار نموذج تنموي يخص الإقليم. ويرى كريم إسكلا، رئيس مرصد دادس للتنمية والحكامة الجيدة، أن "الجمعيات سجلت بقلق كبير تكرار حالات وفيات عمال المناجم بمناطق مختلفة من جهة درعة تافيلالت، بمناجم وازار وإميني وإيمضر، إلى جانب حالات تسرب النفايات المنجمية كما حدث بمنجم تيويت قبل سنتين"، وزاد: "هذا يجعلنا نتساءل عن مدي احترام شروط سلامة العمال، خاصة مع ورود تقاريرعن استعمال مواد سامة ومسرطنة". ويؤكد الفاعل الجمعوي، في حديث مع هسبريس، أن "الآلات المستعملة تستنزف الثروات المعدنية بشكل سريع، إضافة إلى الاستنزاف المهول للفرشة المائية وتلويث المياه السطحية"، مردفا: "ننبه إلى خطورة الرهان على المحيط المنجمي كرافعة لتنمية المنطقة، لأن هذا الرهان رغم مردوديته على المدى القصير والمتوسط، إلا أنه يطرح إشكالا على المدى البعيد، لاسيما مستقبل الأجيال المقبلة ومستقبل المنطقة بيئيا وإمكانية تحولها إلى كارثة بيئية لا تصلح للعيش. ولنا في مناطق منجمية كانت مزدهرة إلى وقت قريب، وتحولت الآن إلى أطلال، خير نموذج، مثل منطقة أحولي وجرادۃ وغيرها". ولفت المتحدث انتباه القائمين على التخطيط التنموي للمحيط المنجمي في هذه المنطقة الواحية إلى ضرورة "معرفة ما يميزها من هشاشة إيكولوجية، إذ لا يمكن الرهان على استقرار الإنسان بهذا المجال وصرف الأموال في البنية التحتية وتشجيع المشاريع الفلاحية والعقارية، وفي الوقت ذاته خلق مشاريع تقوض شروط العيش من العمق"، وزاد: "إذا أريد لهذه المناطق أن تكون للصناعة المنجمية ومناطق عسكرية، فليضعوا مخططات مهيكلة لترحيل الساكنة وتجميعها في أماكن أخرى مجهزة وبعيدة، تتوفر فيها شروط الاستقرار والتنمية المستدامة". "رفاق الأموي" بتنغير يستنكرون ظروف العمل في المقابل، نظم الاتحاد المحلي للكونفدرالية الديمقراطية للشغل بمدينة تنغير وقفة احتجاجية قرب مفوضية الشرطة، عشية يوم الخميس، دعا إليها فرع منجم "إيمضر"، تنديدا ب"الاستهداف الممنهج للنقابة، من خلال كثرة الشكايات ضد أعضائها". كما أضرب العاملون بالمنجم عن العمل لمدة أربع وعشرين ساعة، حدادا على وفاة زميلهم، واحتجاجا على "انعدام شروط السلامة". أحمد الجزولي، عضو الكونفدرالية الديمقراطية للشغل بتنغير، أكد أن "الوقفة أتت في سياق مؤازرة عامل في المنجم تعرضت سيارته للتهشيم"، مضيفا: "هي ليست بالمرة الأولى، فقد سبق للنقابة أن خاضت وقفات عديدة بسبب استدعاء الشرطة للعديد من العاملين في المنجم بين الفينة والأخرى، لأنه استهداف ممنهج للنقابة، لاسيما بعد شرائها أكبر مقر في المنطقة وتوفرها على قطاعات مهيكلة للغاية، ما يدل على أن الملف مفبرك"، داعيا إلى توفير المزيد من إجراءات السلامة لفائدة العمال. "مخطط صفر حادث" يسائل الشركة من جهته، قال إدريس فخر الدين، فاعل حقوقي ومدني بالمنطقة: "يجب عدم إغفال مجموعة من المعطيات المهمة في تحليل الموضوع، أولها أن حالة منجم إيمضر لا تشبه ما يقع بمدينة جرادة بشكل نهائي، لأن حادث الوفاة وقع في قطاع منظم ومهيكل، ويتعلق الأمر أساسا بأكبر شركة للمناجم في المغرب". وأضاف فخر الدين، في تصريح أدلى به لجريدة هسبريس: "توجد بالمنجم نقابة ينضوي تحت لوائها المستخدمون، وهي من بين أقوى فروع الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، باعتبار أن لفرع مدينة تنغير في قطاع المعادن والمناجم ثقل كبير جدا، كما أنه موحد جيدا". وأبرز المتحدث أن "الشركة نهجت مخطط صفر حادث في تصميمها منذ سنوات عدة، لكن وقعت الآن الحادثة الثانية من نوعها في صفوف شركة المناولة، ما يطرح سؤالا مشروعا: لماذا تقع حوادث العمل لدى شركات المناولة فقط ولا تقع عند شركة مناجم؟"، مشددا على أن "الاستغلال العشوائي للمناجم مازال سائدا في القطاع بالمنطقة إلى حدود الساعة، ما يدفعنا للتساؤل أيضا هل تتوفر على رخص أم لا؟. مهنيو المعادن ينددون بأوضاع القطاع طالبت الجمعية الجهوية لمقاولات المناجم الصغرى والمتوسطة والحرفيين في درعة تافيلالت المسؤولين بحوار مباشر مع مهنيي قطاع المعادن بالجهة، من أجل مناقشة الأوضاع التي آل إليها الميدان. ودعت جمعية مهنيي المعادن بدرعة، في شكاية سابقة وجهتها إلى رئاسة الحكومة ووزارة الطاقة والمعادن، إلى "تعديل قانون المعادن 13-33 في أقرب وقت، نتيجة المشاكل التي تتخبط فيها المقاولات الصغرى والمتوسطة"، مستغربة "غياب أي دعم أو مواكبة من قبل الدولة". وأشار مهنيو المناجم إلى كون"الحكومة وجب عليها أن تأخذ بعين الاعتبار المقاولات التي تنشط في القطاع والمقدرة بخمسين ألف مقاولة، باعتبارها توفر الدخل لأربعمائة ألف نسمة بشكل مباشر وغير مباشر، إضافة إلى وجود أزيد من 150 ألفا من أرباب الشاحنات التي ترتبط مباشرة مع مهنيي القطاع". درعة تافيلالت.. جهة مع وقف التنفيذ أقر دستور 2011 الجهوية الموسعة، وهو شكل إداري جديد يعطي للجهات تحررا أكبر عن مراكز القرار بالعاصمة، إذ منحت لرؤساء الجهات ومكاتبهم صلاحيات أوسع، في مقدمتها تدبير الميزانيات دون تدخل الأطراف أخرى. وقد مرت نحو ثلاث سنوات على إحداث جهة درعة تافيلالت، التي تضم أقاليم تنغير وورزازات وميدلت وزاكورة والرشيدية، غير أن العديد من الفاعلين عبروا عن "استيائهم من عدم تنزيلها على أرض الواقع"، بعدما استبشر السكان بهذه الخطوة الإستراتيجية. ومازال سكان المناطق الجبلية يعانون من العزلة التامة خلال أوقات الشتاء، بسبب غياب مخطط جهوي للتنمية القروية، يضاف إليه بطء أشغال بناء المستشفى الإقليمي بمدينة تنغير، إلى جانب الانتقادات الكثيرة التي تطال باقي مستشفيات الجهة. وتشكل الدراسات الجامعية عقبة أمام طلبة تلك الأقاليم، بسبب غياب جامعة جهوية، لذلك يضطر الطلبة إلى التنقل نحو مدن أخرى من أجل استكمال دراساتهم العليا، بحيث تستقطب جامعتا القاضي عياض وابن زهر أكبر نسبة من طلبة الجهة، بحكم أن مراكشوأكادير أقرب مدينتين للأقاليم الخمسة المشكلة للجهة. وتتوفر درعة تافيلالت على كليتين صغيرتين، الأولى هي الكلية متعددة التخصصات في ورزازات، وهي تابعة لجامعة ابن زهر بأكادير، والثانية هي الكلية متعددة التخصصات في الرشيدية، وهي تابعة لجامعة مولاي إسماعيل بمكناس، رغم أن التقطيع الجهوي الجديد فصل كلا من أكادير ومكناس عن درعة تافيلالت. ولازالت الطريق الوطنية رقم 9 الرابطة بين مراكشوورزازات تشكل أكبر معضلة في المنطقة، لأنها تؤثر سلبا على حركة السياح وتنقل المواطنين، وكذلك نقل المرضى نحو مستشفى مراكش. "تطاحنات سياسية" تعرقل برنامج التنمية بالجهة يشهد مجلس درعة تافيلالت "تطاحنات" كبيرة بين الأغلبية والمعارضة، منذ سنوات، إذ سبق لبعض الأعضاء أن وجهوا شكاية إلى الفرقة الوطنية للشرطة القضائية بفاس من أجل التدقيق في مختلف الصفقات التي أبرمها رئيس الجهة، بحيث باشرت عملية افتحاص واسعة همت ملف اقتناء مائة حافلة للنقل المدرسي بكلفة مالية وصلت إلى أربعة ملايير سنتيم، وفواتير دعم المهرجانات الفنية والثقافية، وكذلك المنح المالية للجمعيات والميزانية المخصصة لدعم الأنشطة الفكرية بالجهة. وفي الوقت الذي ترمي المعارضة رئيس الجهة بتهمة "الاختلالات المالية"، فإن الحبيب الشوباني يهاجم بدوره الأحزاب المشكلة للمعارضة، بدعوى عرقلتها لمسار الإصلاح الذي باشره في الجهة، منذ توليه لزمام المسؤولية، الأمر الذي يرخي بظلاله على جلسات التصويت في ما يخص الميزانية العامة، إذ تتعرض في الغالب ل"البلوكاج" مدة طويلة بسبب هذه الصراعات، لتضيع معها آمال الساكنة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية المنشودة.