في رواية "الأشجار واغتيال مرزوق" يحكي لنا عبد الرحمن منيف قصة بطله منصور عبد السّلام مع الطّالبة البلجيكية كاترين. علاقة حب بين شرقي وغربية، لكن دون أن تكون محكومة بعداء تاريخي، ولا بمشروع سري للانتقام من المستعمر، كما هو الأمر لدى مصطفى سعيد، بطل "موسم الهجرة إلى الشّمال". إنها علاقة حب فقط، ببعض الفوارق تُكرسها الهوة السّحيقة التي تفصل بين عالميهما؛ وفي إحدى جلسات اعترافه يحكي لها أنه في بلادهم العربية "إذا جاءت أحدهم رسالة حملها مسيرة يوم ليقرأها له رجل دجال يضع على رأسه لفة، وهذا الرّجل الذي يترنم بقراءتها يأخذ مقابلاً لذلك دجاجة وعشرة أرغفة خبز، وربما تزوج ابنة صاحب الرّسالة التي لا يزيد عمرها عن إحدى عشرة سنة، وتكون هذه الزّوجة العاشرة، بعد تسع زوجات مات منهن أربع أو خمس أثناء الولادة". إنها رواية تحكي قصّة سياسات التّجهيل المعتمدة والمتعمدة في العالم في العربي، إنها رغبة الحكومات القديمة، والتي مازالت تتجدد، في إنتاج مجتمعات على قدر متواضع من القدرة على القراءة والفهم، ونشر وتكريس سياسة الاكتفاء بالقليل، والقليل كثير. فعوض بناء وتجهيز المستشفيات في مدن وقرى الوطن يمكن الاكتفاء بحلول العطارين وبائعي الأعشاب، وبدل شَرطة مقص طبيب لاستئصال ورم كبير، يمكن للمواطن أن يعول على القيمة العلاجية لمشروب ال"خودنجال" المكون من منشطات الزّعتر وفعالية "السّكنجبير"، وعوض الحصول على شهادة الدّكتوراه يجب فقط الحصول شهادة حِرفية متوسطة، فحِرفة في اليد خير من ألف شهادة في الملف. كما ليس بالضّرورة أمام الحاصل على الدّكتوراه في الفيزياء الصّلبة أن ينتمي إلى جامعة ومركز بحثي في مجاله العلمي، إذ يمكنه أن يغير وجهته إلى تجربة تربية الأرانب أو زراعة نبات التّين الشوكي في قريته، في إسفاف بالعلم وبشواهد المتعلمين وبقيمتها، والذي ما هو في الحقيقة إلا إسفاف بالنّظام التّعليمي نفسه الذي يخرجون مرّة مرّة للادعاء أمام الإنس والجن أنه مازال بخير. مع هذه الحكومة التي تسير أمور العباد يجب على هذا الشّعب المسكين أن يصبر على ضياع حقه في أن تكون له جامعات تنسل بالباحثين الأكفاء، ويجب أن ينصت إلى أنين معاناته في دواخله دون أن يقدر على التّصريح بها، فحكومة تسمع فقط إلى آذان المغرب أيام رمضان لا يمكنها أن تسمع إلى الشعب أيام الله كلها، وبصبر التّراجيدي يجب أن يتحمل أخطاء الآخرين في حق مصيره ومستقبله، وفي حق مستقبل من سيأتون بعده من فلذات كبد هذا الوطن؛ ويمكنه تماشيا مع هبوب رياح التغيير أن يسمح له ب"تدوينة فيسبوكية" لن يجد من يكترث لها، يكتبها في حنق مُرٍّ وبئيس، ويمكن أن يسمح له أيضا بوقفة احتجاجية تثير شفقة القلوب الرّحيمة من المارة على قارعة الطّريق أمام وزارة أو مندوبية قد لا ينصت لشعاراته عندها أيٌ من المسؤولين المتكرشين؛ مسؤولون لم يفلحوا إلا في تكسير أحلامنا وتعرية الواقع الحقيقي أمام من درس بجد لينشر على مناول نماذج طفولتنا من أبطال الرّسوم المتحركة المعرفة والخير، ويسهم إلى جانب قوى الخير في الانتقام من الأشرار والخونة، وليفلحوا أيضاً في تعريفنا على أشرار أخطر من شرشبيل وأشد فتكاً من فيغا وجاندال ومقاتلي الفضاء، وفلحوا أكثر في تعليمنا بأن انتظار حل ملف الدّكاترة، والكثير من ملفات هذا الوطن العالقة، أشد عذاباً من انتظار حلقات الكابتن ماجد وماوكلي. دكاترة الوظيفة العمومية الذين يعدون بالآلاف أحد هؤلاء المساكين الذين كُتب عليهم التّحلي بالصّبر والصّمت مع التّعامل النّزق واللامبالي لوزاراتهم المسؤولة عنهم أمام الله وأمام مستقبل هذا الوطن، وعدم اكتراث وزرائهم بقضاياهم، ومحنهم، والتّعامل معها بالخداع مرة وبالدّسيسة والوعود الخاوية مرات، في سياسة "تمشخيرية" تعبر عن فشل المسؤولين في إيجاد حلول سريعة وفعالة لإنقاذ الوطن وإنقاذ مؤسساته التعليمية، ولمعالجة هموم ومشاكل هذه الشّريحة، ومداواة عذاباتهم اليومية؛ عذابات كانت الوزارة نفسها التي تفننت في نحتها لعقود، بإزميل صمتها المطبق عن واقع مازال مستمرا منذ زمن لحسن الداودي، صاحب نظرية "الحمار أول مهندس طوبوغرافي". إنها الهندسة والصّمت الذي لا تفسره إلا رغبة الوزارة والحكومة في عدم إعادة الاعتبار إلى شهادة الدّكتوراه، عبر نهج سياسة التلكؤ والوعود التي سرعان ما ينجلي فجرها الكاذب. مراكز الدكتوراه في كل المواقع الجامعية صارت مراكز لتفريخ العديد من العاطلين أو على الأقل القليل من الموظفين الذين استقر بهم العمل في مهن وحقول لا علاقة لهم بها، فلا هي تلائم تكوينهم ولا مجالات بحوثهم، ولا هم يتلاءمون معها، فالذي نال دكتوراه في الفيزياء يمكن أن يشغل منصب موظف في مصلحة الرّخص وفك الخصامات أو حتى في أرشيف مصلحة الموارد البشرية في أحد المديريات الإقليمية، بل وربما في أرشيف مصلحة المأذونيات والرّخص في أحد العمالات وما ذلك على حكومة "عدّي وسلّك" بعزيز؛ وكل ذلك تحت الرّئاسة المباشرة لموظف حصل على باكالوريا حرة قبل عامين فقط، وهكذا في مهزلة تسير بحكيها الرّكبان، وتليق نكتاً مضحكة على هامش أعمدة الجرائد السّاخرة، ولولا الإطناب في الإسفاف لبُسط جزء من أخبارها في الجريدة الرّسمية. وزارة التّعليم العالي كانت في عهد الوزير الآشوري (من التّشيار بالطّبع)، ولربما مازالت، تريد حل مشاكل مناضلي الحزب، في محاولة سمجة لتوزيعهم على مناصب في الجامعة قبل مغادرة الحزب للوزارة، وملء الشُّعب بهم، أو حل المشاكل الاجتماعية للأساتذة الجامعيين المنتمين إلى حمى الحزب، ما بين تنقيل الزّوج من مكان تعيينه الأول ضداً على رغبة شعبته، وإلحاقه، في واضحة النّهار وعلى مرأى ومسمع الجرائد كلها، بالمكان الذي يجد في فيه هواه، ثم إلحاق زوجته به في مرحلة أخرى، ضمن قواعد لم نعرفها إلا في الشّطرنج المغربي (ضاما). وتصير ماسترات الجامعة عقاراً محفّظا في ملكية المنتمين إلى الحزب ممن أبلوا البلاء الحسن في الكتائب الإلكترونية أو في أذرع الحزب الدّعوية والجمعوية وفي غيرها. مأساة الدّكاترة الموظفين لا تذكرنا تاريخياً إلا بقصة الخديوي عباس مع المفكر رفاعة طهطاوي حينما أغلق الأول مدرسة الألسن التي أنشأها طهطاوي لأجل تطوير نقل العلوم الأجنبية في مصر، وأرسله إلى السّودان في مهمة ظاهرها إدارة ابتدائية افتتحها الخديوي في الخرطوم، وباطنها نفي هذا الرجل الذي يريد اللحاق بالغرب عبر جعل العربية تتكلم لغة العلم والتقنية، أو لربما لأنه رأى، وبحكمة تتجدد من ساسة العالم العربي كل يوم وكل قرن، أن وقوفه على مدرسة في فلاة السّودان أهم وأخطر من الوقوف على مشروع حضاري لم يُكتب له النّجاح، وستخفق مصر بإخفاقه في لقاء مع التّاريخ. وليختصر لنا رفاعة طهطاوي حكايته كلها، ومعه حكاية الدّكاترة الموظفين في قصيدة "مهازيل الفضائل خادعوني"، على وزن وقافية قصيدة: لقد أسمعت لو ناديت حيّاً...ولكن لا حياة لمن تُنادي.