إن أحدا لا يملك ، وهو يقلب أوراق هذا الملف ، إلا أن يعجب شديد العجب أنه لما يجد طريقه إلى التسوية ، على عدالته ومشروعيته القانونية ، وطول ما عمر ؛ إذ تعود بدايات بروزه إلى منتصف العقد الأخير من القرن الماضي. وفي واقع الأمر ، فإن مفارقات هذا الملف ، وحجم التناقضات التي أثارها ، تجعل المرء يقطع بأن سياسات الحكومات المتعاقبة كانت لها على وجه اليقين ، دوافع غير العدالة الاجتماعية ، وغير تحقيق القانون بالصورة التي تضمن الحقوق لأهلها ، وبمساواة وديمقراطية. ونحن سنقصر هذه المقالة على التذكير ببعض هذه التناقضات والمفارقات ، كيما يطلع القراء ، والجهات القانونية والحقوقية ، على حجم الانتهاكات والهدر والإقصاء والتمييز والتجاهل التي تمارس بحق هذه الفئة من أبناء الوطن ، والتي كان يجب ، بدلا عن ذلك ، أن تحظى بعناية وبتقدير مخصوصين ، لأنها ، دون كثير غيرها في المجتمع ، صمدت وتحدت كل الصعوبات والظروف السلبية ، الذاتية والموضوعية ، حتى أمكنها الحصول على الشهادة العلمية ، الأعلى في البلد وعالميا . مدفوعة ، في كل ذلك ، بما كان اعتقادا سائدا ، بل يقينا ، أن خير مستقبل – سواء على الصعيد الشخصي أو للبلد عامة – هو ما يصنعه العلم. بل إن ما كان بمثابة الحكمة ألا يكتفى بغير تحققاته ذات المستويات العالية ؛ من مثل الشواهد العليا ، وتوجيه الأهداف الشخصية والعامة للبحث العلمي. لكنها الآن الخيبة العميقة أن كل الوعود كانت سرابا ووهما وكذبا. ولعل وضعا بعيد المفارقة كذلك ألا يكون مما يمكن تقبله ؛ فتجد مواقف متراوحة بخصوص ما إذا كان الأمر مجرد أكاذيب وأوهام سبقت على عهد براءتنا ، أم أن هناك اليوم جهات تقف في وجه الدكاترة ، متحصنة بنفوذها ومناصبها ، وقدرتها على الاحتيال على القانون وطمس الحقوق ، ومدفوعة بما تحمله من حقد و عداء لهذه الفئة ؛ فلا تسمح بأي حل محتمل لملفها. والواقع أن ثمة ما يحمل على الاعتقاد أن الجهات المسؤولة لا تريد حل هذا الملف لأسباب ما ، لا تتصل حتما بقانونية وعدالة هذا الملف ، التي هي خارج إطار الجدل والشك ، والتي أقر بها غير واحد من القانونيين والحقوقيين. وبمباشرة هدفنا الأصلي ، من هذا المقال سنجد أن كل الدعاوى والحجج التي يجري التعلل بها ، ليست لها من قيمة برهانية ، ولا يمكنها أن تلغي عدالة هذا الملف وقانونيته ، وضرورة وأهمية حله ؛ فليس إذن غير سلطة القرار التي تمتلكها هذه الجهات تحسم الكلمة الأخيرة ، وإن تكن غير عادلة. إنه منطق غاشم يفرغ القانون والحق من محتواهما ، لصالح أطروحات تدبيرية تضيع معها حقوق الناس ، وتكون مجالا سانحا لكل الممارسات غير المنضبطة ، بل والجائرة في أغلب الأحيان. * * * ملف معمر وإن أول مفارقة يمكن الوقوف عندها في ملف الدكاترة ، هي هذه الألف سنة التي عمرها هذا الملف !! ولقد تعاقبت حكومات تترى ؛ كلما جاءت حكومة كانت أصم من أختها ، واقدر على التجاهل ؛ حتى ليعتقد المرء أن ملفا عادلا مستعجلا ، يعمر حقبا من الزمن في أرففها ، لن يكون شيئا تأبه له. وثمة خشية أن الحكومة لا تتحرك إلا لملفات يأتي بها الصراخ الثاقب ، والاحتجاج الجنوني ، والخسائر والمآسي ، بدل الملفات التي تفرض وتوجب حلها عدالتها الاجتماعية ومشروعيتها القانونية. وبالنسبة لكل المتتبعين من النقابيين والحقوقيين والقانونيين .. وغيرهم ، فإن ملف الدكاترة قد تخطى تخوم المنطق والعقل والعرف ، أن يمتد به الزمن كل هذه السنوات الطوال ، حتى تجاوز العقدين ؛ وهو الملف الذي كان يجب ، بقوة الدستور والقانون والمصلحة العليا الحقيقية للبلد ، أن يحل في أول إعلان مطلبي له. * * * وعود رسمية كاذبة وترتبط بهذه المفارقة السابقة مفارقة أخرى تتمثل في أن كل الوزراء الذين تعاقبوا ، صرحوا بعدالة الملف وبمشروعيته القانونية ، وكانوا يتعهدون بحله ، ويؤكدون ذلك رسميا ، لكنهم جميعا كانوا يتراجعون في اللحظة الأخيرة ؛ حتى إن الأمر بات مثيرا للريبة والتساؤل !! فما ومن كان يجعلهم يتراجعون ؟ ورئيس الحكومة الحالية، وكثير من قادة حزبه كالسيد الداودي والسيد محمد يتيم وغيرهما ، وعلى ما نعرفه من نزاهتهم وصدقهم في تحمل المسؤولية ، فإنهم قد حدث معهم الأمر ذاته. بل إنهم عندما فاز الحزب برئاسة الوزراء وبتشكيل الحكومة ، صاروا أشد على الملف من أعدى أعدائه ؛ فما الذي جعلهم ينقلبون بهذه الصورة ، خاصة وأنهم في موقع يخول لهم أعلى الصلاحيات ؛ أم أن الملف لم يعد له من أهمية في ظروفهم الجديدة ، ولم تعد له مشروعية قانونية ودستورية، فكأن هذه المشروعية تثبت وترتفع تبعا لظروف غير ذات صلة !! ولقد حقق هؤلاء هذه القاعدة المستحيلة عندما انتقلوا من المعارضة إلى الحكومة فتنكروا لما كان يعد بالنسبة لهم حقوقا ثابتة ومبدئية يكفلها الدستور والقانون. وضمن آخر مواقفهم ضد ملف الدكاترة هذه المسرحية البرلمانية التافهة التي دفعت فيها الحكومة بالفصل 79 لرد مشروع القانون القاضي بإحداث هيأة خاصة بالدكاترة ، وهو ما سنفصل فيه في موضعه من هذه المقالة. ولعل البعض ، ممن يؤيدون السياسة التي ينهجها الحزب ، أن يحتجوا أن هناك ملفات لها الأولوية في منطق المعالجة الذي تلتزمه الحكومة ، وهي مبدئية في هذا المنطق وتراعي الأولويات الإنسانية.. وما في هذا القبيل من الكلام والتبرير المعروف. لكننا نتساءل ، والحال هذه ، ما إذا كان ثمة ملف فيه ظلم لفئة من أبناء هذا الوطن ، كما في هذا الملف ؛ وهل مما يمكن التغاضي عنه أن توجد فئة تعليمية لا يعترف لها بشهادتها ؛ ويهدر حقها في سنوات من البحث والدرس كابدتها حتى تحصل على هذه الشهادة ، ثم يكون كل ذلك كلاشيء تماما. أيضا كيف تستطيع هذه الحكومة أن تبرر ما كانت ستقدم عليه من زيادات خيالية في رواتب الولاة والعمال والقياد والباشوات ، تصل إلى الضعف مرتين أو ثلاث. ولن يغير من الواقع المؤسف شيئا أنها الآن تتراجع تحت ضغط الإعلام ، والقوى السياسية والمدنية ، لأن هذا التراجع لن يكون على الأرجح سوى مناورة وتكتيك مرحلي .. فأين القانون في هذا الموقف !! وأين العدل ، وأين النزاهة والدين !! * * * تمييز وحيف ومن التناقضات الصارخة في معالجة الدولة لهذا الملف ، والتي تنم عن تمييز وجور وإقصاء لا يكاد يصدقها العقل ، كون دكاترة وزارة الثقافة قد سويت وضعيتهم دون باقي الدكاترة في الوزارات الأخرى !! فكيف يظل الدكتور في وزارة التربية الوطنية مثلا يحمل إطار أستاذ الثانوي التأهيلي ، بينما في وزارة الثقافة هو بمثابة أستاذ باحث ؛ ويتقاضى ضعف راتب نظيره بالثانوي ! فمن ذا يستطيع أن يبرر ويفسر هذا التناقض. كذلك نتساءل عما يفرق بين دكتور الجامعة ودكتور الثانوية ، والأخير يعمل ويبحث أكثر. وما القول في دكتور وزارة الصحة الذي يعمل بالإدارة ، والذي خلع عليه إطار مساعد طبي !! أليس هذا عين التناقض ؛ هو أقل بدرجات ودرجات من الدكتور الطبي .. هكذا يجب أن تفهم أيها القارئ – عفوا – يعني هذه ضحالة وقصور حتى في الصياغة اللغوية فدعونا لا نفقد صوابنا ، أما المنطق والعقل فتكاد هذه التناقضات أن تذهب بها ؛ أم يراد لنا أن نتقبل أن الجمل يدخل في سم الخياط. فهيهات منا القبول بالجنون والتناقض !! إن هذه المفارقات والأوضاع الجائرة لا تحدث ، أو لا توجد ، إلا بالمغرب !! وخير لنا ، وحرصا على سمعتنا أننا نجعل الأوضاع سواء ؛ فإما أن ينال جميع الدكاترة هذا الحق ، وإما أن ينزع عنهم جميعا ، إذا كانوا لا يستحقونه دستوريا ، ثم ألسنا نحن في دولة تمتلك وزارات وموظفين لن يعجزهم تمحيص القوانين والسياسات المعمول بها في البلد - والمفترض لكافة المواطنين بعدل ومساواة وديمقراطية - فينقوها من هذه المفارقات ، ومن أشكال الحيف والظلم والتمييز ، التي تجعل أكثر الناس وطنية يفقد الثقة في كل شيء. * * * الماستر والدكتوراه سواء كذلك من هذه الممارسات الجائرة في حق الدكاترة أن يتوظف حملة الدكتوراه والماستر بإطار وسلم واحد. وإني لأتنازل عن كل منطق تعلمته وكل معقول عرفته ، بل أتنازل عن أني تعلمت أي شيء في هذه العقود من الدراسة والبحث والتحصيل والكتابة ؛ فأنا أمي ليس يضيرني ؛ فقط أرجو - بكل صدق وبكل جدية – أن يأتي من يفهمني أن هذا الأمر عادل ، ومنصف ، ويمكن أن يوجد في دولة لها وزارات قائمة الذات ، وبها موظفون يشتغلون صباح مساء !! * * * ارتجالية وعشوائية وأبرز ملف الدكاترة ، كذلك ، أن الحكومة والوزارات تقبل أن تتصرف بعشوائية وارتجالية في مواقف معينة. وكدليل على هذا الأمر ما حدث في المباراتين اللتين فرضتهما نضالات الدكاترة سواء بالاعتصام أو الإضرابات والوقفات الاحتجاجية ، قبل ثلاث أو أربع سنوات. ففي هاتين المباراتين الصوريتين والتوافقيتين غيرت الدولة إطار ما يزيد على ستمائة دكتور ، وأبقت على أضعاف هذا العدد دون أن تغير إطارهم ؛ وليس من فرق بالمعنى الحرفي بين الفئتين ، على الإطلاق وبكل المقاييس. ثم طوي الملف بعد ذلك ، وتجاهلت الدولة وعودها الرسمية والقاطعة بتسوية أوضاع ما تبقى من الدكاترة. وفي سياق هذه العشوائية والارتجالية نذكر بأن هاتين المباراتين كانتا مفتوحتين في وجه دكاترة وزارة التربية الوطنية وحدهم دون باقي الوزارات. فأين التخطيط من كل هذه الارتجالية والأخطاء الفادحة ؟ وأين عمل الوزارات ؟ بل أين تكافؤ الفرص والديمقراطية والعدالة ؟ !! * * * طعنة غادرة من المهندسين ومن ناحية أخرى ، فإن ملف الدكاترة عرى أدواء اجتماعية أدعى للاستغراب في واقع الأمر ، وذلك أنها صدرت عن فئة يفترض فيها أن تكون نصيرا للحق والعدالة ، متعالية عما يحط من سمو قدرها في المجتمع وتميز مستواها العلمي . لكنها المصلحة الخاصة الضيقة ، تنزع عن إنسان الحضارة الحالية الأقنعة ؛ فتتعرى حقيقته البدائية بكل أدوائها ، وبكل انحطاطها وأفونها الذي يجعلها ترتكس في حمأة الحسد الاجتماعي ، والهلع والجزع من أن يحصل الناس على حقوقهم ؛ فكأنما سيكون الأمر على حساب أرزاقها. وأبشع به من موقف غاية في الضعف. ولسنا نعمم للتوضيح ؛ لكن عددا من المؤسسات والهيئات التمثيلية للمهندسين ، سعت بكل ما تملك من قوة ووسائل كي لا ينال الدكاترة حقوقهم ؛ ولعل هذا أن يكون موقف معظم الأفراد في هاتين الفئتين ، ونحن لا نقرر هذا الأمر المؤسف دونما دليل. وإننا ندعو المهندسين أن يتراجعوا عن موقفهم غير المفهوم هذا ، وليصطفوا إلى جانب الحق داعمين ومؤيدين ، أو على الأقل أن يقفوا على الحياد من قضية يمكن أن يعتبروها لا تهمهم ولا تعنيهم. كما نهيب بالشرفاء منهم ألا يذعنوا لموقف هذه الفئة المأفونة في صفوفهم ، والتي تدفعهم ، الآن ، إلى موقف مخز لن يغفره التاريخ لهم. وسيتذكر الجميع في وقت آت ، عندما سيكون الملف قد سوي ، أن المهندسين عندما كان مطلوبا منهم الوقوف إلى جانب الحق ، وإلى جانب فئة يقع عليها ظلم وحيف ، فإنهم لم يكتفوا بأن يتجاهلوا واجب المساندة والنصرة ، الذي تمليه الأخلاق والمروءة والضمير ، بل إنهم مالأوا الظالم ، وكانوا أشد في توجيه الطعنات الغادرة. وإني لأتحدى أن يستطيع أحد تبرئة هذا الموقف ؛ أو يجد له ما يسوغه من الملابسات المكتنفة. فأنعم به من إنجاز باهر محمود !! وأنعم بها من شهامة !! ومن نبل موقف قل نظيره في الثقلين !! * * * نقابة التعليم العالي وعداء الدكاترة ومن المفارقات الكبيرة في ملف الدكاترة أن نقابة التعليم العالي ودكاترة الجامعة يتصدون بكل حزم وبكل شدة لأي محاولة لاقتراب دكاترة الوظيفة العمومية من الجامعة. وكأنما يذوذون عن حمى خلفه لهم آباؤهم ، فإن هؤلاء يرون أن ليس من حق واحد من دكاترة الوظيفة العمومية أن تطأ قدمه الجامعة التي ورثوها. والحق أن هناك فعلا صعوبة كبيرة في فهم دوافع هذا الموقف المتصلب لهذه الفئة المتعجرفة. وإذا كان السبب هو ما يقال من أن الدكاترة لا خبرة لهم بالتعليم الجامعي ، فإن هذه حجة مردودة ، وذلك لأن معظم دكاترة الوظيفة العمومية ، وخاصة منهم دكاترة وزارة التربية الوطنية ، يدرسون بالجامعات كأساتذة عرضيين ولمواد ومجزوءات أساسية فوق ذلك ، بل ويكون أداؤهم أفضل من هؤلاء ، ثم هل الأساتذة العرضيون – من غير الدكاترة - والذين ليس لأغلبهم شواهد تؤهلهم للتعليم العالي (حملة الإجازة والماستر ، والدبلومات الخصوصية ... إلخ) وكذا طلبة السنة الثانية دكتوراه ، أقول هل هؤلاء أولى من الدكاترة الأكثر خبرة منهم ، فتمتلئ بهم الكليات المختلفة الآن حتى باتوا مثار احتجاجات الطلبة وشكواهم وإضراباتهم لضعف مستواهم وهزالة بضاعتهم معرفيا وعلميا ، بل وعلى مستوى التعبير اللغوي كذلك !! وبعد هذا وذلك فالدكاترة هم خريجو هذه الجامعات وصنيعة هؤلاء الأساتذة الجامعيين وثمرة مناهجهم ، فإن يكونوا غير مؤهلين فإن هذا النقص مأتاه ممن تولى تأهيلهم وتأطيرهم.. أما إذا احتج هؤلاء بضرورة اجتياز المباريات المعمول بها قانونيا في هذا الإطار ، والتباري على المناصب المعلنة ، فإن الدكاترة لم يكن لديهم يوما اعتراض على هذا الأمر. لكن المشكل هنا هو أن المباريات لا تعلن إلا لماما وبشح كبير ، وإذا ما أعلنت – وقلما كانت تعلن ، بل كان يجري إخفاؤها وخاصة فيما مضى – فإنها لا تكون نزيهة مطلقا إلا في حالات ناذرة. ومما يؤسف له أن هذه هي الحقيقة ، وإذا بدت صادمة وغير قابلة للتصديق ، فيمكن التحقق والتأكد من ذلك بالعودة إلى ملفات القضاء وأرشيفات الإعلام ، أو من أفواه الذين مورس عليهم التزوير، وهم كثيرون وقصصهم أكثر إيلاما وأكثر غرابة. من جهة أخرى ، فإن مشكل المناصب أو الميزانية لن يكون مطروحا في حال إلحاق من يريد الالتحاق من الدكاترة بالجامعة ، فإنهم جميعهم لهم مناصب مالية ومعظمهم خارج السلم ، ثم إن الجامعة المغربية ستسد – عن طريق هؤلاء الدكاترة – جزءا مهما من خصاصها الكبير في هيئة التدريس ، والذي بات مثار شكوى في الإعلام ، ولدى كثيرين ممن يعنون بقضايا التعليم الجامعي ، وسيزدهر كذلك البحث العلمي الذي يمارسه معظم هؤلاء الدكاترة رغم إكراهات عملهم بدواليب الوزارات وأقسام التعليم الثانوي والإعدادي وأحيانا الابتدائي !! وستستفيد الجامعة من إنتاجاتهم في هذا المجال ، علما أن لدى أغلبهم مؤلفات ومقالات محكمة ، وحضورا ثقافيا فاعلا لا يتوفر لكثير من أساتذة الجامعات – ونحن تتلمذنا على أيديهم ونعرفهم ونعرف مستواهم العلمي – الذين لا حدود لغرورهم الأجوف ، ولا لاعتدادهم بأنفسهم على هزالة بضاعتهم !! لقد كان أحرى بنقابة التعليم وبدكاترة الجامعات أن يقفوا على الحياد من ملف الدكاترة ، ويدعوهم وشأنهم مع وزاراتهم ومع الحكومات ، لا أن يتصلبوا على هذا الموقف غير المبدئي وغير الأخلاقي ، والذي تمليه في الغالب دوافع غير كل ما ناقشنا ؛ إذ أغلب الظن أن عواطف سيئة ، ومصالح ذاتية ، هي ما يملي هذا الموقف شديد الريبة والغرابة.. إننا على ما نعلم من أننا انزلقنا إلى حجاج قاس فيه شيء غير قليل من البساطة ؛ بل ومن الإسفاف كذلك ؛ ذلك أنه كان أحرى بنا ألا نناقش موقف هؤلاء لعدم موضوعيته ، بل لشذوذه بالأحرى ، لكننا لم نجد بدا من أن ندلي بما أدلينا به – وعذرا للكفاءات والشرفاء من أساتذتنا الأجلاء - وذلك لأننا لم نكن نتوقع تماما هذا الموقف ، وكذلك لأن هذا الموقف كان من العوامل الرئيسية في عدم انتهاء ملف الدكاترة إلى الحل العادل المقدور له. وأخيرا لأننا نود من هذه النقابة وهؤلاء الدكاترة أن يتجندوا ، من باب أولى ، للمشاكل التي تغرق فيها الجامعة المغربية وهي لا حصر لها ، وأن يسعوا إلى تحسين جودة التعليم العالي ، بدلا عما انزلقوا إليه من اهتمام هابط كشف تفاهتهم وعرى عوارهم. تمييز وحيف ثانية ومن الأوضاع غير الدستورية وغير القانونية ، كذلك ، التي يتوجب على الجهات المسؤولة أن تبادر بتصحيحها ، لما لها من الأثر السيء على سمعة البلد في الملف الاجتماعي ، هذا الضرب من التمييز بين الفئات ، والذي سبق معنا ، في سياقات معينة ، أن أشرنا إلى مثال عنه ، أو أكثر من مثال ، وهو أن يقصد لفئات هي أصلا في وضعية جيدة ومريحة ، وتترك الفئات المتضررة !! ونحن نبرزه هنا بتفاصيل إضافية لخطورته ، ولضرورة أن ينكشف مستوره للرأي العام. ولقد أشار البيان الذي أصدرته النقابة الوطنية المستقلة لدكاترة المغرب ، عقب وقفة احتجاجية للدكاترة أمام وزارة المالية بالعاصمة الرباط – كانت الأخيرة في الموسم الجاري - ، في يوم إضراب إنذاري وطني لدكاترة الوظيفة العمومية دعت إليه النقابة المذكورة ، إضافة إلى هيأة الدكاترة التابعة للاتحاد المغربي للشغل ، والكتلة الوطنية للدكاترة. قلت ، أشار البيان إلى هذا التمييز ، والذي يقع على الدكاترة ، باعتباره أسوأ واقع تعانيه هذه الفئة ، ويجعلها محبطة من سياسة الحكومة ، وفاقدة للثقة في عدالة المسؤولين المعنيين بحل الملف ؛ فما الفرق بين المهندسين وبين الدكاترة مثلا ؟ ؛ بل لماذا يفرق بين دكاترة وزارة الثقافة وبين باقي الدكاترة في الوزارات الأخرى ؟ ولماذا يقصى الدكاترة دائما ؟ هل فعلوا من جريرة يستحقون عليها هذه المعاملة المهينة دون باقي الفئات ؟ أم لأنهم حازوا على شهادة علمية ،هي الأعلى في البلد، فهم يجازون بهذا التمييز ، وبهذا الهضم لحقوقهم الدستورية ؟ !! إن على المسؤولين على الملف أن يتحملوا مسؤوليتهم القانونية في حله ؛ فليس أحد فوق دستور البلد ليعطله ، أو ليتصرف بما يناقض روحه من هذه الممارسات غير الحكيمة وغير المسؤولة. إن هذا واقع مؤسف في الحقيقة يتناقض مع شعار الحكامة المنشودة ؛ فإذا كان من الممكن حل ملف ، يقضي القانون بحله ، فلماذا يتلكؤ المسؤولون حتى تندلع هذه الاحتجاجات ، وتتعطل مصالح المواطنين ، وأحيانا تصل الأوضاع إلى حدود مأساوية ؟ !! إننا نعتقد أن ما يتطلبه تجاوز مثل هذه الأوضاع هو شيء لن يكون ، من الناحية التقنية ، فوق طاقة وزارة ، أو وزارات ، بداواليبها وموظفيها وسياساتها ؟ !! * * * شهادة دون إطار ومن هذه المفارقات التي يعرفها ملف الدكاترة قضية الإطار المناسب. فشهادة الدكتوراه ، ورغم كونها أعلى شهادة علمية ، فهي لا تضمن لحملتها إطارا متوافقا ؛ فدكاترة وزارة التربية الوطنية ، مثلا ، ليس لهم إطار يناسب الشهادة التي يحملونها ؛ ولذلك فهم يمنحون إطارا كإطار حملة الماستر في الوزارة ، بل ومثل حملة الإجازة أيضا !! إن المحصلة من هذه السياسة/المعاملة التي تنتهجها وزارة التربية الوطنية في هذه النقطة ، هي أن الإجازة مثل الدكتوراه. فهل الإجازة مثل الدكتوراه ؟ !! كذلك ، وارتباطا بهذا السياق ؛ فكيف يسوغ أن لا يعترف للدكتور بأهليته للبحث العلمي ، وهو إنما نال شهادته بالبحث العلمي ، الذي راكم فيه خبرة أساسية ؛ وفي أطروحة الدكتوراه وحدها على الأقل ، فلا يمنح إطار أستاذ باحث. إن في هذا الأمر ، وفي الحد الأدنى ، تعطيلا لمبدإ الترقية عبر الشهادة. ومهما يحتج البعض في هذا الموضوع ، فإنهم لن يبرروا أن تبقى الدكتوراه بلا إطار ، وبلا أي مقابل في سلم الأجور ؛ فهل سنوات الدراسة والبحث للحصول على الدكتوراه لا تساوي شيئا ؟ وعلى الأقل وجهة نظر منطقية ؟ * * *
دكاترة ضد الدكاترة كذلك فإن هذا الملف قد كشف عن واقع جد مؤسف ، وهذه المرة من داخل صف الدكاترة. وإننا ، ونحن نعرض لهذا الواقع ، لا يتوقع أحد أن يدفعنا الحرص المفترض على التجميع ، وعلى تأليف الدكاترة حول قضيتهم ، أن نسكت عما نراه نصحا شرعيا يتوجب توجيهه إلى طائفة من الدكاترة أخطأت في حق قضيتها ، كما خذلت الدكاترة ، بصورة لا أخلاقية في واقع الأمر. ونحن لا نوجه نقدنا ، هنا ، لأي من الدكاترة والدكتورات الذين اتخذوا قرارا بعدم النضال لأسباب وقناعات شخصية ؛ فكل حر في مواقفه وقراراته ، ولا يمكن إلزام أحد بأمر يرفضه ولا يراه مقنعا بالنسبة له. لكن نقدنا سنخص به فئة تدعي وتصرح ، بمناسبة وغير مناسبة ، أنها مع النضال ، وتعد من يخبرها أنها ستكون في الموعد ، ثم هي تخلف في كل مرة ؛ فلا تأتي للمحطات النضالية ولا تضرب عن العمل ، وهو أضعف الإيمان ، هذا وهي ليس لها من عذر على الإطلاق. فإذا كان من نتيجة جاء بها نضال الشرفاء ، ومن يضحي من الدكاترة ، تجدهم أسبق إلى الثمار الدانية ، كما حدث في المباراتين اللتين فرضهما الاعتصام والإضرابات والوقفات ، في ما قبل. وهذه في واقع الأمر انتهازية وخسة ودناءة ؛ فإذا كنت غير مقتنع بالنضال ولا تشارك فيه ، فليس من حقك أن تأخذ ثمار المناضلين ؛ ولا يحل هذا حتى من الناحية الدينية الشرعية. إن هذه فئة لا يمكن التعويل عليها مطلقا ؛ كما لا يمكن إصلاحها وزحزحتها عن موقفها ، ولذلك فأجدر بالدكاترة المناضلين ، وخاصة أعضاء المكاتب المسيرة ، أن لا يأبهوا لها ، أو يأسفوا أنها لا تلتحق بصفوف المناضلين ؛ فإنها لا خير فيها مطلقا لهذا الملف ، كما أنها ، وهذا أمر هام يجب استيقانه ، لا يمكن أن تؤخر حله عن موعده المقدور. * * * احتيال قانوني وضمن آخر هذه المفارقات ، التي طبعت ملف الدكاترة ، ما واجهت به الحكومة مقترح القانون الخاص بإنشاء هيئة للدكاترة بنظامها الأساسي ، الذي تقدم به الفريق الدستوري ، من الرفض الذي عللته بالفصل 79 من الدستور ، والقاضي بأن المقترح لا يدخل في مجال القانون ، وإنما في مجال السلطة التنظيمية.. ولن نكون معنيين بأي نقاش قانوني في هذا الموضوع ، ولكن لنا ملاحظات بخصوص هذا الموقف ، في حد ذاته ، وبعيدا عن حيثياته في النظر القانوني ، ننطلق فيها من بعض عناصر المداخلة التي عبر فيها الفريق الدستوري عن موقفه بإزاء دفوعات الحكومة بخصوص المقترح. وأبرز ملاحظة نسجلها هي طبيعة التعلل الذي دفعت به الحكومة في حد ذاته ؛ إذ نجده لا ينصب على مدى أحقية القانون بالتصويت من عدمه في أصل المسألة ، ومع ذلك ، وبرغم شكليته الظاهرة ، فقد استساغت الحكومة أن يكون سببا لإبطال حق دستوري ثابت لأهله ، دون أن تلجأ إلى أي مسار تكييفي مفترض في هذه الحالة. والواقع أن الحكومة لم تكن واضحة ونزيهة في هذه القضية تحديدا ، ولهذا السبب فإن الفريق الدستوري دفع ، من بين ما دفع ، بأن ما تزعمه الحكومة من القول بأن الفصل 5 ، من النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية ، يسمح للحكومة باتخاذ أنظمة أساسية خاصة ، لا يستقيم ومبدأ المشروعية الذي يعني أن القاعدة القانونية الأسمى يجب أن تعلو على القاعدة القانونية الأدنى ؛ وبالتالي فقد كان من الضروري إعادة تكييف مضامين النظام الأساسي للوظيفة العمومية مع مضامين الدستور ، وليس عدم احترام الدستور بمبرر وجود مقتضى قانوني أدنى يمنح للحكومة اختصاصا غير واضح ، في مقابل مقتضى دستوري أسمى ينيط بالبرلمان اختصاصا واضحا في مجال الوظيفة العمومية. ومع افتراض أن الأنظمة الأساسية هي من اختصاص الحكومة ، فإنه لا يبدو أي عنصر يبرر منطقيا السماح للبرلمان باتخاذ أنظمة أساسية في بعض الحالات ، ومنعه من ذلك في حالات أخرى.. وفي هذه الحالات الأخرى نلحظ الكيل بمكيالين الذي تمارسه الحكومة ؛ وهو أمر شديد السلبية ، لا صلة له بالمبدإ الدستوري القاضي بالمساواة والعدل بين الفئات. وإلا فما الذي يفسر أن نصدر ، على سبيل المثال لا الحصر ، الأنظمة الأساسية الخاصة بموظفي إدارة مجلس النواب ، وموظفي إدارة مجلس المستشارين ، والمتصرفين بوزارة الداخلية.. أن تصدر بقانون ، ويستثنى من ذلك الدكاترة أو أي فئة أخرى لها نفس الحق !! وإذا كان هناك من مبرر داخل المنظومة القانونية يجيز مثل هذا الاستثناء - ونحن نعرف أن الأمر حدث ، ما دام أنه تم الآن رفض مقترح القانون - فالأكيد أن في مجمل الأمر خللا يجب تصحيحه ؛ فإن القانون ، في نهاية أي تحليل ، يتوجب أن يكون وسيلة لتحقيق العدل والمساواة ؛ لا أن يكون أداة لفرض أوضاع ظالمة غير عادلة ، تكرس التمييز بين فئات لا يجوز التمييز بينها ، وتهضم عن طريقه حقوق الناس. إن الغاية المبدئية للدستور والقوانين أن تنشأ دولة عادلة ، لا أن تنشأ دولة تتكرس فيها الأوضاع غير العادلة بسلطة وقوة القانون. إن هذه المفارقات ، وغيرها كثير، سواء في ملف هذه الفئة ، او ملفات فئات أخرى ، هي ، بالقطع ، أكثر ما يجعل تعليمنا يعرف هذه المراوحة التي لن تنتهي حلقاتها المفرغة من الاصلاح و من إصلاح الاصلاح و.. و.. إلى آخر هذا المسلسل الذي لايريد أن بنتهي من الفشل ، والتي وجه إليها جلالة الملك نقده الشديد في خطاب العرش الأخير .. فمتى تتاح لنا فرصة حقيقية - مع مسؤولين أكفاء ونزهاء وغيورين بات وجودهم كالكبريت الأحمر- يخرج معها البلد من وهدة التاخر والتخلف التي طال غرقه فيها .