فتحت كليّة الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط باب النقاش حوْل التحوُّلات العميقة التي تعرفها مؤسّسة الأسرة، وما يواكبها من اختلالات لمنظومة القيَم ما فتئت تزداد حدّة مع تطور بروز وسائط الاتصال الحديثة، مُشكّلة خطرا محدّقا بأركان الأسرة، ومن ثمّ أركان المُجتمع ككُل، باعتبار الأسرة أبرزَ دعائمه. واختارت كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط للندوة الدولية، التي انطلقت الجمعة وتستمر إلى غاية السبت والتي يُنظمها مختبر "الإنسان والفكْر والأديان وحوار الحضارات" وماستر "الاجتهاد في قضايا الأسرة وتجديد الخطاب"، عنوان "الاجتهاد والتجديد في قضايا الأسْرة في السياق الدولي.. سؤالُ الثابت والمتحوّل". أزمة مؤسسة الأسرة وأجمعَت الكلمات، التي ألقيت في افتتاح الندوة التي يشارك فيه باحثون من المغرب والولايات المتحدةالأمريكية والأردن والجزائر، على أنَّ مؤسسة الأسْرة تعيش تحوّلات عميقة، سواء في المغرب أو في باقي بلدان العالم. وذهب جمال هاني، عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، إلى القول إنّ مؤسسة الأسْرة في عصرنا الحالي "تعاني من أزمة". وقال هاني إنّ قضية الأسرة اليوم لم تعد مسألةَ الانتماءات الجغرافية الضيقة بل سارت قضية عالمية، في ظلِّ التطوّر الكبير لوسائط التواصل الحديثة، التي شكّلت سياقا عالميا جديدا أسهمَ في صناعة الواقع الأسَري الحالي، داعيا إلى العمل على فهْم واستيعاب التحولات التي تعرفها مؤسسة الأسرة، باعتماد خطاب منفتح، مع الحفاظ على الاعتزاز بالذات والهوية. واستعرض عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية جُملة من مظاهر "الأزمة" التي تعرفها الأسْرة؛ كتأخّر نسبة الزواج، وتزايد أعداد الأطفال المتخلى عنهم، وتراجع مفهوم الانتماء إلى العائلة بسبب تنامي قيَم الفردانية، واندثار القيَم الحضارية التي تربّت عليها الأجيال السابقة، مبرزا أنّ هذه الظواهر إنما هي تعبير عن الاختلالات التي تعاني من مؤسسة الأسرة، والتي فاقمتها الثورة الإعلامية التي أسهمت في تفكيك عناصر الأسرة الواحدة. وأبرز عاني أنَّ "الأزمة" التي تعاني منها مؤسسة الأسرة اليوم لا تستثني مجتمعا دون آخر؛ وهو ما يحتّم، يُردف المتحدث، على جميع المجتمعات الإنسانية أنْ "تعيد إعادة الاعتبار إلى الُّلحمة الأسرية حماية لها من الظواهر الجديدة التي يمكن أن تهدد الجنس البشري وتهدَّ أُسَّ الأسرة"، مشددا على أنّ هذا يتطلب اجتهادا لبلورة حلول لحماية مؤسسة الأسرة وحمايتها لتظل رمزا ونواة لاستمرار المجتمعات ودوام الحضارات. مركزية الأسرة كلمة جميلة المصلي، كاتبة الدولة المكلفة بالصناعة التقليدية، لمْ تخْلُ من القَلق الذي اكتنف كلمة جمال الدين هاني حوْل وضعية مؤسسة الأسرة في العصر الحالي، إذ قالت إنّ التحولات التي يشهدها العالمُ اليوم ومن أبرز مظاهرها الثورة الرقمية، فيها إيجابيات كثيرة؛ لكنّها تنطوي كذلك على سلبيات، إذ انعكستْ سلبا على مؤسسة الأسرة، في عدد من النواحي. وشددت المصلي على الدور المحوري الذي تلعبه الأسرة في التنشئة الاجتماعية، لكونها أساسَ بناء شخصية الفرد وتربته على القيَم النبيلة، "لذلك لا يمكن الحديث عن أيّ إصلاح لمنظومة التربية والتعليم دون الحديث عن مركزية الأسرة في هذا الإصلاح"، تقول الوزيرة. وفي الوقت الذي ما زالت النساء في المجتمع المغربي يشتكين من "هضْم" كثير من حقوقهن، دعتِ المصلي إلى المشرّع وأصحاب القرار إلى مواكبة التغيرات التي حصلت مع تطوّر المجتمع المغربي، وإيجاد أجوبة للأسئلة والإشكاليات المطروحة، مذّكرة بازدياد نسبة الأسر التي تُعيلها النساء سنة بعد أخرى، حسب ما تؤكده إحصائيات المندوبية السامية للتخطيط، مضيفة "هذا المتغير يحتاج إلى مقاربة تشريعية جديدة". واستطردت المصلي: "الظواهر الجديدة التي أضحت تنتشر بحدة في المجتمع المغربي، كالطلاق وتفكّك عُرى الأسَر وظروف أخرى، جعلت النساء مُعيلات لنسبة مُهمة من الأسَر. وهذا يحتاج إلى سياسات جديدة ومقاربات اجتماعية تجيب عن إشكال النفقة والتوازن النفسي والاجتماعي للمرأة"، داعية إلى الانفتاح على علماء العلوم الإنسانية بمختلف فروعها، من أجل وضع الأصبع على مكامن الخلل وإيجاد حلول لها. وحذّرت المسؤولة الحكومية من مغّبة السّهو عن المخاطر المحدّقة بمؤسسة الأسرة جرّاء التحولات التي تعرفها، قائلة "إذا لم ننتبهْ فإننا سنُنتجُ أجيالا تعاني من التشويش في الاعتزاز والشعور بالانتماء إلى الوطن، ولا بدّ من إعادة الاستقرار إلى مؤسسة الأسرة؛ لأن في استقرارها ضمانة للاستقرار المجتمعي والاجتماعي في بلدنا". ونوّهت المصلي بالمجهودات التي يقوم بها الأساتذة والباحثون في مجال العلوم الإنسانية بالجامعات المغربية، قائلة "هناك نُخبة مهمة في جامعاتنا؛ لكنها بحاجة إلى دعم أكبر ليكون البحث العلمي في المستوى المطلوب"، وزادة مسترسلة: "لا نريد فقط بحثا علميا نظريا بل بحثا علميا موازيا للتحولات التي يعرفها المجتمع.. وهذا يحتاج إلى انفتاح الجامعة على محيطها عبر التواصل مع المجتمع المدني، من أجل التعريف بإنجازاتها العلمية". حَتمية الاجتهاد العلمي والديني في هذا الإطار، قالت بثينة الغلبزوري، منسِّقة ماستر "الاجتهاد في قضايا الأسرة وتجديد الخطاب"، إنّ تنظيم ندوة "الاجتهاد والتجديد في قضايا الأسرة في السياق الكوني.. سؤال الثابت والمتحوّل"، يعكس رغبة كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط في المساهمة في تجويد البحث العلمي وتجديد الخطاب الديني، باعتباره مَدخلا مهما في فهم قضايا المجتمع، مُبرزة أنّ الاجتهاد في ظلّ التحولات التي يعرفها المجتمع "أصبح ضرورة مُلحَّة". وأضافت المتحدثة أنّ الندوة المذكورة تروم الإسهام في طرح القضايا المعاصرة المتعلقة بالتحولات المجتمعية، وإيجاد حلول لبعض القضايا والإشكالات التي المطروحة على الساحة المجتمعية في المغرب، لافتة إلى أنَّ إشكالية الاجتهاد تحتاج إلى التكامل المعرفي بين مختلف العلوم الإنسانية، والاستعانة بخبرات الخبراء المختصّين. وأبرزت طامو أيت مبارك، في كلمة باسم اللجنة التنظيمية لندوة "الاجتهاد والتجديد في قضايا الأسرة في السياق الكوني.. سؤال الثابت والمتغير"، أنّ الهدف من الندوة هو بلورة تصوراتٍ واضحةً حول الأسرة باعتبارها عماد البناء الاجتماعي، نظرا لوظائفها الكثيرة التي تتعدى ترسيخ منظومة القيم إلى تحصين المجتمع ككل من كل ما يهدد ثوابته الراسخة. الحاجة إلى "العقل العلمي" من جهته، قال أحمد البوكيلي، منسق مختبر "الإنسان والفكْر والأديان وحوار الحضارات" التابع لكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، إنّ ندوة "الاجتهاد والتجديد في قضايا الأسرة" تتمركز حول الإجابة عن سؤال رصْد العلاقة بين ما هو وطني وبين ما هو دولي بخصوص مسألة مؤسسة الأسرة، مضيفا: "اليوم نعيش ما يسمِّيه الفلاسفة بالزمن الكوني، والذي يفرض علينا الارتقاء بمستوى العقل العالمي لفهم التحولات والظواهر التي تعرفها المجتمعات". واعتبر البوكيلي أنّ مؤسسة الأسرة تعيش اليوم أزمة، مُستدلّا بالتزايد المطّرد لحالات الطلاق، إذ يُسجّل في المغرب 100 ألف حالة طلاق سنويا، "وهذا يعبر عن وجود اهتزاز عاطفي وسلوكي أخلاقي"، يقول المتحدث، مشدّدا على أنّ ثمّة حاجة ماسّة اليوم إلى العقل العلمي وإلى المنهجية العلمية وإلى الرؤية المنفتحة التي تمزج بين السوسيولوجيا والجانب الديني والتحليل النفسي القانوني من أجل فهم هذه الظواهر، وتقديم البدائل". وبخصوص دور علماء الدين في المساهمة في إيجاد حلول ل"أزمة الأسرة"، قال البوكيلي: "وظيفة الخطاب الديني والخطاب الإسلامي اليوم هي أن يكون خطابا علميا، يمتلك قواعدَ التحليل العلمي، حتى نخرج من منطق الخطابات النظرية؛ لأنه يستحيل أن نبني رُؤية عَمَلية إلا إذا خرجنا من المنطق الصراعي والصدامي مع الآخر إلى منطق التكامل والبحث عن المشترك الإنساني". وأردف البوكيلي: "أزمة مؤسسة الأسرة اليوم هي عالمية، وهي مرتبطة بأزمة القيم، وأزمة المعنى، والسؤال الذي ينبغي أن نطرحه اليوم هو كيف نعيد بناء الأسرة، ليس بكونها بِنية اجتماعية؛ بل باعتبارها مؤشرا في استمرارية الجنس البشري، ومؤشرا في استمرار الحضارة الإنسانية".