رغم صروف الزمن، تقف مدينة باليرمو، أكبر مدن جزيرة صقلية، شاهدة على زهو الحضارة العربية الإسلامية في إيطاليا وأوروبا عموما لأزيد من قرنين، إذ لم يقتصر أثرها على فن العمارة واللغة فحسب، بل تجاوز ذلك ليشمل كافة مناحي الحياة اليومية. ففي قلب باليرمو، الواقعة على الساحل الغربي لجزيرة صقلية، تشد انتباه الزائر آثار المسلمين التي لازالت شاخصة إلى يومنا هذا، تتيح تقليب صفحات من التاريخ تعود إلى النصف الثاني من القرن السابع الميلادي عندما كانت صقلية تحت حكم الدولة الإسلامية. ويقف المتجول في أحياء باليرمو، منذ الوهلة الأولى، على ذلك التشابه مع الطراز المعماري العربي - الإسلامي، لاسيما القصور التي تطل غرفها العالية على ساحة مركزية بأعمدة منقوشة بأشكال زخرفية مستوحاة من فن العمارة في الحضارة العربية الإسلامية. وتقف دار "لازيزا"، وهي قصر مشتق من الاسم العربي "العزيزة"، والذي شيد قبل ثمانية قرون في قلب مدينة باليرمو، شاهدة على الازدهار والتقدم الذي بلغته هذه الحضارة في أوروبا قاطبة. ويحضر الفن المعماري المغربي أيضا في دروب باليرمو، وخاصة في كاتدارئية المدينة التي زين مدخلها بنقوشات بالخط الكوفي على جدران تتوسطها أعمدة وأقواس بأحجام مختلفة. آثار العرب بالمدينة تجسدها أيضا أسماء أحياء عتيقة وسط باليرمو، لازال سكان المدينة ينطقونها بطريقتهم الخاصة، من ضمنها "القصر" و"حي الجامع الكبير"، ثم "الخالصة". أما في سوق "لاتارين" (العطارين) فالأجواء تسافر بك إلى الأسواق العريقة في مدن مثل فاس ومراكش، فرائحة التوابل تنبعث من أول حانوت في السوق الذي تعرض فيه بضائع بألوان مختلفة (حلويات، فواكه طرية وجافة وخضار وأسماك...). ولازالت باليرمو، التي اختارها المسلمون عاصمة للدولة الصقلية عام 831، تحتفظ ببعض مفردات اللغة العربية السائدة في الحياة اليومية لسكانها، من قبيل "الكفة"، و هي القفة، أو "مسكين" التي لها المعنى نفسه في العربية. كما تتداول في أقدم نشاطين في المدينة، وهما الصيد البحري والفلاحة، كلمات عربية مثل "الشبكة" و"الرايس"، التي تعني رئيس الصيادين، و"المعصرة". ويقر فلاحون في باليرمو بأن الإرث الزراعي والاقتصادي الذي تستفيد منه الساكنة المحلية يدينون بفضله للعرب الذين جعلوها من أبرز مناطق العالم المنتجة والمصدرة لأنواع المزروعات التي أحضروها معهم إلى الجزيرة، وهي الليمون وقصب السكر والقطن والتمر والزيتون؛ كما اشتهروا باستخدام نظام للري، إذ أنشؤوا قنوات في باليرمو كانت تضمن تخزين وتبريد المياه، أطلق عليها اسم "الجابية". كما تميز العرب أيضا أثناء حكمهم لصقلية بإصلاح الأراضي، ما أدى إلى زيادة الإنتاج وتشجيع الملكيات الصغيرة وتطويرها إلى عقارات كبيرة. هذه المعالم الحضارية العربية - الإسلامية جعلت باليرمو مدينة تكتسي أهمية بالغة تجاريا وثقافيا، حتى بعد نهاية حكم العرب والمسلمين لجزيرة صقلية. والنورمان الذين سيطروا على الجزيرة كانوا شديدي الإعجاب بالثقافة والحضارة العربية التي ازدهرت بعلومها وفنونها في جنوب أوروبا من الأندلس إلى صقلية. وقد أبقى ملوك دولة النورمان الجديدة على مدينة باليرمو عاصمة لهم بعد أن كانت مقرا لأحد الأمراء العرب ومركزا مهما ومؤثرا للإشعاع الحضاري. كما حرص هؤلاء الملوك على تشييد قصورهم على النمط المعماري العربي، بل إنهم قاموا بمحاكاة أسلافهم العرب في تنظيم بلاطهم، مستخدمين في ذلك الأزياء واللباس العربي الإسلامي. وورث النورمان الكاثوليك عن العرب والمسلمين أيضا قيم التسامح تجاه طوائف الجزيرة، ما أفرز ثقافة فريدة تختلط فيها بتناغم مثير سمات الفنون العربية والبيزنطية والغربية. *و. م .ع