يبدو أن الأنظمة العربية لا ترغب في إنجاز قطيعة مع تاريخها القمعي القهري، ولا ترعوي عن"خشقجة" معارضيها، إما بالاحتواء أو بالاختطاف والاعتقال والاغتيال، وتلفيق التُّهم عبر إعلامٍ مزيّفٍ، يروِّجُ دعايات مُضلِّلة. قراءةٌ كرونولوجيةٌ في تاريخ تعذيب المعارضين وترويض المنتقدين، ستكشف حجم تَغوُّلِ السلطة العربية منذ العصر الأموي، وفي هذا الإطار يكفى الاطلاع على كتاب المفكر محمد الناجي "العبد والرعية" وهو دراسة في السلطة والعبودية والدين في العالم العربي.. الدول العربية مازالت بعيدة جدا عن الحداثة السياسية، لكونها مازالت تعتمد في ممارستها للسلطة على القمع وقانون القوة، لا الإقناع وقوة القانون، وهذا معنى قول المفكر المغربي عبد الله العروي إن الدول العربية تنتمي إلى الإرث السلطاني، ولا تُعبِّرُ عن نشأة مجتمع سياسي، على اعتبار أنها أنظمة تمارس القهر على مواطنيها بغية تخويفهم، لتحصل عبثا على الطاعة من خلال سياط الاستبداد. تقوم الدولة الديمقراطية في صميمها على حرية التعبير، واحتضان الرأي المخالف لا مصادرته، لأن الحرية هي مصنع القيم الخلاقة والأفكار المبدعة، كيف نحتفي اليوم بالطفلة المبدعة مريم أمجون وغدا نُصادِرُ آراءها ونمنعها من حرية التعبير؟؟؟ محاكمة الصحفي توفيق بوعشرين هي محاكمة سياسية مكشوفة، وهي تصفية حسابات مع صحفي يزعج "المُتغوِّلين" في المغرب وفي الوطن العربي الجريح، وأن تزيل الشجرة التي تُخفي غابة الاستبداد في العالم العربي، هذا يعني أنك تدخل فوهة البركان، وفي أحسن الحالات أنك تمشي فوق الألغام. الهدف من اتهام بوعشرين بالاغتصاب و"الاتجار بالبشر" هو تحويله أمام الرأي العام إلى "بلطجي" وكلمة بلطجي إيتمولوجيا تتكون من مقطعين: "البلطة" تعني السكين، و"جي" تشير إلى صاحب أوحامل، أي أن بوعشرين مجرم خطير "يحمل سكينا" ويهدد حياة الناس ويبتزهم ويستغلُّ ضعفهم وحاجتهم.. طبعا هذه مغالطة كبيرة، لأن بوعشرين كان "يحمل قلما" لتنوير الرأي العام، والدفاع عن حقوق المعذبين في الوطن، وفضح الفساد والمفسدين والإقطاعيين القدامي والجُدد، ناهبي الثروات وسارقي المال العام، وكشف ألاعيبهم التضليلية..نعم نجح المخزن، فبعد أن كان المغاربة يطالبون بإسقاط الفساد أصبحوا يطالبون بإسقاط الساعة. معظم المواطنين بمجرد سماعهم للحكم على بوعشرين باثني عشرة سنة سجنا نافذة، مع غرامة قدرها مائتي ألف درهم، صُدِموا وتحسّروا، لأن القضاء لم يستمع إلى صوت العقلاء، وقد صدقت نبوءة الأنثربولوجي المغربي عبد الله حمودي حين شكك في إمكانية محاكمة عادلة لبوعشرين. ما جعل حزني يزداد ألما، هو قول بعض الناس إن الدولة كانت أرحم ببوعشرين مما فعلته السعودية بالصحفي جمال خاشقجي، أقول لهؤلاء لقد أصبح خاشقجي شهيدا وبطلا ورمزا لانتصار إرادة الحق والحقيقة على إرادة الظلم والتضليل، أما بوعشرين حين حولته الدولة إلى بلطجي يتاجر بالبشر، لم تقتله مرة فقط وإنما تقتله كل لحظة وبخنجر تهمة الاتجار بالبشر تمزقه باستمرار.. محاورة "المأدبة" "le Banquet" للفيلسوف أفلاطون تعطينا درسا في احتضان الحوار وتعلم حب الإنسان من ثنايا الحوار وتقبل الرأي المختلف.. "المأدبة" هي صالون للغذاء الفكري، يحتضنها "الخاشقجي" هذه الكلمة إيتمولوجيا تتكون من "خاشق" التي تعني الملعقة و"جي" تحيل على صاحب أو حامل، وترمز إلى كريم المأدبة، وأيُّ مأدبةٍ أكرم من إشاعة التنوير الفكري في حياة المواطنين، والتحفيز على ممارسة التفكير الحر والمساءلة النقدية والحفر الأركيولوجي في أعماق السراديب، لاستخراج الحقيقة التي تريد أيدي العابثين وأْدها، بيد أن الحقيقة مهما حاول أعداء الحقيقة اغتيالها وإغراقها فهي تطفو كالفلِّين فوق التيه لترعب مغرقيها. لذا يجب على الدولة التي تريد حل مشاكلها، أن تقيم مأدبة للعقل وتكرس لإعمال العقل، لا أن تحاكمه وتسجنه وتسحقه، وأن تشجع على حرية الرأي، لأن الغاية من وجود الدولة هي الحرية وليس تخويف المواطنين وإرهابهم بتعبير الفيلسوف اسبينوزا. أختم كلامي بالتصور الخلدوني، مع تعديله ليتناسب مع هذه اللحظة التاريخية، بطبيعة الحال ابن خلدون تحدث عن علاقة الرعية بالسلطان لا علاقة المواطنين بالدولة.. وأستعير وجهة نظره وأقول: الدولة القاهرة المتعسِّفة الباطشة بالعقوبات، تُفسد أخلاق المواطنين، وتدفعهم إلى المكر والكذب والخداع، وهذا ما قد يفضي إلى خرابها، أما الدولة القائمة على العدل والاعتدال والتبصر والحكمة تجعل المواطنين يشعرون بالأمن والعدالة، فيتنافسون في إعمارها وازدهارها.. كلنا بوعشرين.. الحرية العاجلة للصحفي بوعشرين.. الصحافة ليست جريمة.. حتما سينتصر الخشقجي على البلطجي.. مهما طال الليل فالفجر قريب..