11 نونبر من سنة 1989، لم يترك نبأ موت نبي الشعر والأغنية السياسية الأمازيغية لنساء قبائل سوس الكبير سوى صمت يتكئ على همس مذياع لا يفهمن مذيعه عربي اللسان، منتظرات أن يأتيهن باسم محمد ألبنسير وبخبر عنه؛ لكن لا شيء في نشرة الظهيرة عن إنسان عاش بعيدا عن المركز، ليظل الناس مترقبين لمرسول من منطقة إلبنسيرن بإمي نتانوت، لعله يأتي بمصير شاعر غنّى للأمازيغ واشتكى حيف الدولة على الهامش وموسيقاه التي لم تجد بعد الطريق إلى الاعتراف. في مثل هذا اليوم، رحل محمد أجاحود، موسيقي تحدى صورة كُونت عن الرباب وحامليه، وانتقد سياسة الملك الراحل الحسن الثاني علنا دون مواربة، ونظم حول تهميش الإعلام الرسمي للأمازيغية في مقابل اهتمامها بالأغاني المشرقية لمحمد عبد الوهاب وأم كلثوم وغيرهم من المطربين، في أغنية "رزمغد أوولي"، التي يقول فيها: "منذ 1961 ونحن نمجد الملك، ولم يستطع حتى أن يشتري للفنانين الأمازيغ ولو دراجة هوائية". أغاني ألبنسير القوية ستتواصل وستقوده إلى الاعتقال سنة 1981، عقب نظمه لقصيدة معارضة عن الاحتجاجات التي عرفتها البلاد في تلك الفترة، وعنونها ب"أكرن"، أي الدقيق، وتناقش أوضاع القحط والترهل الاقتصادي الذي طال المغرب، ودفع سكانه إلى الاحتجاج، لينعتهم وزير الداخلية السابق ادريس البصري، ب"شهداء كوميرا". ألبنسير، الذي ازداد سنة 1937 بإلبنسيرين، لم يعرف اسمه الغني عن كل تعريف طريقا ليطلق على شارع أو زقاق، ولو حتى في مسقط رأسه، وبقي حبيس النسيان سوى من ذاكرة النساء الأمازيغيات التي يسترجعن أغانيه كلما اجتمعن على التقاط حبات أركان أو التقين في التجمعات النسائية في دواوير سوس. أما الرجال فيكادون لا ينسون يوم جاء القياد والباشوات لجمع مساهمة إجبارية لبناء مسجد الحسن الثاني بالبيضاء، ليصدر عقبها ألبنسير، قصيدة بعنوان "تيمزكيدا"، أي المسجد. القصيدة منعت من الخروج إلى الأسواق حسب مقربين من ألبنسير، وظل الرايس يغنيها في السهرات والمناسبات فقط، رفقة العديد من الأغاني التي كانت محط مساءلة دائمة له من لدن السلطة، على غرار أغنية "ربي زايد العز إتشلحيت نتات أسليغ أتيك"، "يا الله زد عزا للأمازيغية فهي التي منحتني قدري العالي وسط الناس"، وكانت أغنية مؤطرة للوعي السياسي لدى الفئات الشعبية الأمازيغية التي أحست بالغبن إزاء غياب الإنصاف والاعتراف. أسطورة الغناء الأمازيغي قال عبد الله بوشطارت، الباحث في الثقافة الأمازيغية، إن "الشاعر والرايس محمد ألبنسير هو أسطورة لن تتكرر في التاريخ، شاعر ينظم الشعر وعازف على مجموعة من الآلات الموسيقية؛ أولاها الرباب ثم لوتار، وعلى الآلات الإيقاعات الأخرى منها الناي والعود وتالونت، التي يتقنها وتعلمها بنفسه بشكل عصامي". وأضاف بوشطارت، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن "ميزة ألبنسير في شعره المغنى هو كونه ينشد قصائد في الدين والهجرة والتجوال والسياحة والحب والقضايا الاجتماعية كالفقر والتهميش والطمع والجشع والغربة؛ لكن وصل إلى القمة والمجد الفني والشهرة الفائقة والعجيبة بالأغنية السياسية أو ما يمكن الاصطلاح عنه بالأغنية الثورية". وأردف المتحدث أنه "كان ينتقد المجتمع والدولة والنظام السياسي في لحظات سياسية عصيبة كقصيدة "أكورن" التي اعتقل بسببها في سنة 1981 والتي جاءت في سياق الانتفاضات الشعبية والتقويم الهيكلي، وعارض فيها النظام السياسي القائم ودافع عن حق الأمازيغ في الحكم وممارسة السياسة، وله كذلك قصيدة حول بناء مسجد الحسن الثاني وهي قصيدة غير مسجلة سببت له مشاكل مع السلطة". رمز خالد أكد محمد واخزان، باحث في شعر ألبنسير، أن "الرجل كان سيكون له شأن أكبر بكثير مما للمتنبي في الوقت الراهن، لو كان للأمازيغية امتداد جغرافي كبير، فعلى الرغم من مستواه الثقافي الضئيل فإنه امتلك وعيا تجاوز الناس بشكل كبير"، مشيرا إلى أنه "كان ملتصقا بهموم الطبقة الكادحة وله ميول ثوري بارز، جعله رمزا خارقا للتعبير عن المشاكل الاجتماعية ووضعية الأمازيغية". وسجل واخزان، في تصريح لهسبريس، أن "قصائد ألبنسير تضمنت العديد من المواضيع ذات البعد الأخلاقي كذلك، حيث ظل يستنكر المكر والخداع والغش المنتشر في المجتمع". وزاد المتحدث: "ناقش ألبنسير قضايا غلاء المعيشة وتهميش الأمازيغية من طرف الدولة، كما انتقد الملك الراحل الحسن الثاني غير ما مرة بشكل رمزي أو مباشر". وأردف الباحث في شعر الرايس ألبنسير أن هذا الأخير "خلف أزيد من 566 أغنية وقصيدة، وكوّن العديد من الروايس والرايسات، المتألقين حاليا في الساحة الفنية الأمازيغية"، مشددا على أن "الرجل سيظل رمزا خالدا في وجدان الثقافة الأمازيغية".