تتعدد المبررات التي تدفع الحكومة إلى الانتقال إلى سياسة خوصصة مجموعة من الشركات والمؤسسات التي تملكها الدولة، وانسحاب هذه الأخيرة من النشاطات التنافسية ودعم القطاع الخاص، بحيث إنها لا ترتبط بأسباب داخلية منحصرة في زاوية اقتصادية تنموية فقط، بل تتقاطع بين ما تعرفه الدولة من تحول في النسق الاجتماعي والمؤسساتي، وما تشهده من تطور العولمة والتحرر على الأسواق، وأيضا ضغوط خارجية متعددة، بحيث إن لجوء الحكومة إلى الخوصصة هو نتاج في قصور وضعف واضح في أداء القطاع العام الذي شخصته الخطب الملكية في العديد من المناسبات. فقد تبين أن الاعتماد لمدة طويلة وبشكل أساسي على القطاعات العمومية في تدبير النشاط الاقتصادي ساهم في هزالة المردودية، وتفشي النزعة البيروقراطية التي انعكست على جودة الخدمات المقدمة، وكفاءة الأداء بالمؤسسات والشركات العمومية التي أصبحت تعرف ضخامة وتفرع الأجهزة في غياب للمنافسة التي تستند إليها آلية السوق وفقدان المعايير الاقتصادية؛ الشيء الذي أدى إلى ارتفاع كبير في تكاليف الخدمات والحاجة إلى مزيد من الموارد المالية الكفيلة بضمان الاستمرارية والهروب من واقع الأزمات. لقد شخصت تقارير المجلس الأعلى للحسابات وبنك المغرب انخفاض الإنتاجية وتدنيها على المستويات المقبولة في ظل غياب الحكامة المالية، وارتفاع معدلات التضخم الذي أدى بشكل مباشر إلى اختلالات في موازين العرض والطلب مقابل تراكم الديون نتيجة فشل القطاع العام في توليد فائض يمكن استثماره كبديل عن التدبير المالي غير المعقلن الذي يشكل عبئا على الميزانية العامة للدولة بسبب الخسائر المتلاحقة التي تتكبدها المشروعات التي يديرها القطاع العام، كما ساهم فشل المخططات التنموية التي طبقتها الدولة في معالجة الاختلالات الهيكلية الاقتصادية التي تعاني منها منذ عقود نتيجة الركود الاقتصادي وانخفاض معدلات النمو، فمخطط تسريع التنمية الصناعية 2014-2020 رغم ما أحدثه من نقاط إيجابية متمثلة في رفع الإنتاجية إلا أنه لم يصل بعد إلى الأهداف المرجوة، وما تعرفه بعض المراكز الجهوية للاستثمار من جمود عجل باتخاذ هذا القرار، الذي أريد به ضخ مناصب شغل للشباب وخلق دينامية جديدة بالمجال الاجتماعي الذي أصبح يضيق يوما بعد يوم. لقد ساهمت أيضا أسباب أخرى خارجية في نهج سياسية الخوصصة بغية وضع حلول للضغوط والأزمات الخارجية، بحيث يمكن القول إن اقتصاد المغرب مواكب وتابع في الوقت نفسه بتأثر مناخ الأسواق الدولية، هذا الترابط أدى إلى تأثر الدول الداعمة للمغرب بالأزمات الاقتصادية التي تتعرض لها، مما أدى إلى آثار سلبية وبروز أزمة مالية طويلة، تمخض عنها انخفاض في نسبة الصادرات من السلع والخدمات الأساسية وانخفض حجم العملات الأجنبية في حجم صادرات الدولة، وبالتالي زيادة تكلفة الاقتراض من الخارج نتيجة لعدم قدرتها على تسديد تلك القروض. تبعا لكل ذلك، ازداد حجم الديون الخارجية للمغرب والسعي إلى التحول من التركيز على القطاع العام نحو القطاع الخاص، باعتبار ذلك جزء من التصحيح الاقتصادي الذي تفرضه الدول المتقدمة على الدول النامية مقابل حصولها على المساعدات والقروض من المؤسسات الدولية المانحة، نظرا لما تتخذه من سياسيات استباقية بهدف ضمان طرق فعالة لاسترداد الديون؛ فمعظم تقارير البنك الدولي، بنك النقد، بنك التنمية الإفريقي... وغيرها من المنظمات المالية، تشير إلى أن المغرب إذا استمر على هذا المنوال سيزيد الوضع ضغوطا داخلية مرتبطة بتدني الخدمات المقدمة للمواطن وسخطه عن برامج الحكومة التي لا يلمس تفعيلها على الواقع سنه بعد أخرى. زيادة على تفاقم البطالة وعدم قدرة القطاع العام على استيعاب الحاملين للشواهد وادماجهم في سوق الشغل، وما عرفته الدولة من تحولات اقتصادية إثر تأثير العولمة على قرار من هذا القبيل الذي يكون تأثيرا غير مباشر باعتبار أن الخصخصة أحد آليات العولمة التي دعت إلى إزالة كل أشكال القيود أمام تحرير التجارة الخارجية ومنها خدمات الانترنيت مثلا والاستثمار الخارجي الذي تقوده الشركات متعددة الجنسية، بالإضافة إلى نهج سياسية تعويم الدرهم والسعي نحو الرفع من الصادرات، كلها عوامل داخلية وخارجية مرتبطة بالسياق الوطني والدولي، سواء الاقتصادي أو الاجتماعي، جعلت الحكومة غير مخيرة في تفعيل هذا القرار الذي تحاول من خلاله تعويض صرف ميزانية الدولة على سداد ديون مؤسسات وشركات أبانت عن عدم قدرتها في الاستثمار الذاتي. إن اللجوء إلى الخوصصة يدل بالملموس على محدودية المداخيل المالية وتفاقم الأزمات بالقطاع العام، رغم أن مجموعة من المؤسسات الرقابية دقت ناقوس الخطر نتيجة وضعية الديون الخارجية بالمؤسسات والمقاولات العمومية التي وصلت إلى 71.6 مليار درهم، أي 24 بالمائة من إجمالي تكوين رأس المال الثابت، كما أن إجمالي تحويلات الموارد المالية للدولة لفائدة المؤسسات والمقاولات العمومية بلغ 159.8 مليون درهم خلال الفترة المتراوحة بين 2010 و2014، في حين لم يبلغ حجم تحويلات المقاولات العمومية نحو الدولة سوى 53.9 مليون درهم، أي بفارق قدره 105.9 مليون درهم، بالإضافة إلى بلوغه سنة 2015 من حجم المديونية ما يقارب 245.8 مليار درهم، وبالتالي يشكل 25 بالمائة من الناتج الداخلي الخام. أما سنة 2016-2017 فهي الأخرى عرفت ارتفاعا لمديونية المؤسسات العمومية بشكل متزايد، حيث بلغت نسبة الدين الخارجي 68,6 في المئة. هاته الأرقام تشخص بالملموس حجم الأزمة بحيث لا يمكن الحديث عن بديل للخوصصة في الوقت الراهن نتيجة الارتفاع المضطرد لمديونية بعض المؤسسات والمقاولات العمومية منذ سنة 2011 حتى سنة 2018، والتي أصبحت إحدى المخاطر التي تهدد توازن المالية العمومية وصرفها في المشاريع التنموية. لقد أصبحت ميزانية الدولة تتحمل أقساط الديون المتراكمة لهذه المؤسسات بعد أن يتبين عدم أو ضعف قدرتها عن سداد ما بذمتها، كما أنه يلاحظ أن قانون المالية للسنة المقبلة 2019 يرتكز على نفقات التسيير دون الاهتمام بشكل كبير بنفقات الاستثمار كبديل لدعم الميزانية العامة؛ ما يجعلنا نتساءل عن الكيفية التي ستنفق من خلالها الحكومة على المشاريع التنموية والإصلاحية في مجالات حيوية كالتعليم والصحة وغيرها من القطاعات التي أصيبت بالأعطاب جراء ضعف الموارد المالية، وأمام مطالبتها بسداد الديون الخارجية. وبالتالي، إننا أمام ازمة تدبير للمالية بالشكل السليم والواقعي دونما توفير حلول ترقيعية مؤقتة أقل ما يقال عنها إنها تصريف للأزمة حتى متم الولاية الحكومية ومجيئ حكومات أخرى تواجه المصير نفسه تجعل الدولة مكبلة بالديون وعاجزة عن خلق استثمارات تنموية. ومنه يمكن القول إن الخوصصة سلاح ذو حدين قد ترفع من مداخيل الميزانية العامة وقد تخفض من جودة الخدمات نتيجة غياب الرقابة، كما أنها لن تكون بديلا لصرف الأزمة المالية في سياق قد يجعلها آلية لغياب النجاعة والمردودية. وبالتالي، نصبح أمام مشكلتين؛ الأولى مرتبطة بفقدان الدولة سيطرتها على تلك المؤسسات والمقاولات، والثانية متمثلة في أن ينقلب هدف الخوصصة المتمثل في إنعاش الاقتصاد ودعم القطاع الخاص إلى مؤسسات خاصة تفتقد للرقابة وكل ضوابط التدبير الفعال. إن نهج الخوصصة في مثل هاته الظروف التي تفتقر إلى الحكمة والرزانة السياسية يبقى آخر ما يمكن اللجوء إليه، علما أنه قرار جاء نتيجة فشل الحلول الهزيلة التي كانت تنهجها الحكومات. وبالتالي، كان من الضروري التفكير في اعتماد خطة عمل تهدف إلى التخلص من عبئ بعض المؤسسات والمقاولات العمومية بغية تجويد مخرجاتها ولو على حساب القطاع الخاص وما يعرفه هو الآخر من إكراهات متعلقة بمزاج الأسواق العالمية والأزمات الاقتصادية التي تطفو على السطح بشكل مستمر. وبالتالي، الحكومة تحاول خفض العجز المالي للموازنة من خلال توقفها عن تحمل مصاريف وخسائر بعض المؤسسات والشركات العمومية التي غالباً ما تقدم خدماتها للمواطن بأسعار أقل من تكاليفها، بل غالباً ما تكون هاته الخدمات مجانية أو شبه مجانية. هنا لا بد لنا أن نتساءل: هل الخوصصة ستساهم في تيسير نمط عيش المواطن المقهور من خلال تجويد الخدمات العمومية المقدمة من طرف هاته المؤسسات التي سيسري عليها الانتقال إلى الخواص؟ وهل ستوفر مساحة للإدماج الفعال في سوق الشغل للشباب والتخلص من البطالة؟ أم إنها مجرد مشروع أريد به در الرماد في عيون منظمات مالية مانحة، واستمرار الوضع دون تغيير ملموس، فقط تصريف أزمة مرتبطة بعامل الزمن؟