يعتبر الدين العمومي من أخطر الإشكالات المالية والتدبيرية التي تواجهها الدول والحكومات بشكل عام، خاصة وأن الأزمات الاقتصادية والمالية التي ضربت المنظومة الاقتصادية الأوربية والأمريكية كانت ذا ارتباط مباشر بالديون العمومية والسيادية، وبقدرة الدول على الحفاظ على حد أدنى من التوازن المالي الشمولي. وقد عانت مختلف الدول الأوربية من تضخم حجم المديونية، وذلك كنتيجة لمحدودية الموارد العمومية مقابل الارتفاع المطرد للنفقات التي لا يمكن تقليصها أو تجميدها، ناهيك عن الحاجة لتمويل ومواجهة حاجيات الاستثمار العمومي، ويعتبر النموذج اليوناني أبرز مثال على الورطة الاقتصادية والمالية التي يمكن أن تجد دولة نفسها فيها. فالأزمة اليونانية بينت بجلاء خطورة ارتفاع حجم الدين العمومي وعجز الحكومات اليمينية واليسارية المختلفة عن مواجهتها، كما لم تتمكن الحكومة الشيوعية الحالية من إيجاد وسيلة لتمويل نظامها الاقتصادي والمالي، ورضخت في نهاية المطاف لإملاءات الاتحاد الأوربي وطبقت الإجراءات التقشفية القاسية التي فُرضت عليها بهدف تقليص النفقات العمومية وزيادة موارد الدولة عبر الرفع من الضريبة على القيمة المضافة TVA، وذلك من أجل تخفيض عجز الميزانية وأداء الالتزامات المالية المرتبطة بخدمة الدين العمومي. فكلما ارتفع حجم الدين العمومي إلا وزادت الحاجة للتمويل، نظرا لارتفاع تكلفته المالية من جهة، واضطرار الدولة المستدينة لإتخاذ إجراءات تهدف لترشيد الإنفاق، وقد تضطر إلى اتخاذ الإجراءات التقشفية التي تهدف عادة لتجميد الأجور او حتى تخفيضها، وخفض النفقات الاعاتيادية التي تهم السير العادي للقطاعات الحكومية، إضافة إلى عدم القدرة على تعبئة الموارد العمومية الكافية لتغطية نفقات التجهيز والاستثمار. وإذا كان اللجوء للاستدانة يعتبر بمثابة المقابل الحسابي والمالي لعجز الميزانية، فإن محاولات تقليص عمليات اللجوء للاستدانة تصطدم في العادة بإكراهات تمويل الميزانية في حالات عدم كفاية الموارد العمومية لتغطية التكاليف العادية. وهنا تبدو جليا عدم قدرة عدد من الدول عن حصر عمليات الاستدانة في تمويل نفقات الاستثمار وهو من القواعد الذهبية في تدبير المالية العامة. وعلى المستوى الوطني، فقد عجزت الحكومات المتعاقبة عن الالتزام بهذه القاعدة وتطبيقها عمليا، بحيث كانت عمليات الاستدانة منذ أواخر سبعينات القرن الماضي توجَّه بالأساس لتغطية تكاليف نفقات التسيير، وعرفت الثمانينات أوج الأزمة المالية بالمغرب، بحيث اضطرت الحكومة آنذاك للتوقف عن الأداء، ولجأت للاستدانة من الخارج لأداء نفقات الموظفين وتغطية تكاليف استيراد المواد الأساسية وعلى رأسها الحبوب والمواد النفطية. وبعد نهاية مرحلة التقويم الهيكلي (أواسط التسعينات)، بدت الحاجة ملحة لتفادي تكرار سيناريو الثمانينات، وهي الوضعية التي تشبه اليوم الوضع الاقتصادي والمالي لليونان، وبدأ الاهتمام بتوفير الموارد عبر الآليات الاستثنائية لتمكين المغرب من القيام بالإصلاحات الضريبية التي تحتاج لوقت أطول حتى تبدأ مردوديتها المالية والميزانياتية. ومنذ سنة 1999 بدا اللجوء بشكل مكثف لهذه الموارد الاستثنائية لتمويل الميزانية العامة والحد من اللجوء للاستدانة، وتمت خوصصة الجزء الأكبر من المقاولات والمنشآت العمومية لمواجهة عجز الميزانية والتخفيف منه، وذلك في محاولة لتفادي اللجوء لرفع حجم الدين العمومي، إضافة إلى إبرام اتفاقيات دولية لتحويل الديون الخارجية إلى استثمارات وإلى امتيازات اقتصادية داخل المغرب لفائدة المؤسسات الدائنة. وقد نجحت نسبيا حكومة عبد الرحمن اليوسفى في تقليص حجم الدين العمومي عبر آليتين رئيسيتين لضمان توازن مالية الدولة: * آلية الخوصصة التي مكنت الحكومة خلال بضع سنوات من الحصول على أزيد من 100 مليار درهم، بما يشكل دعما ماليا استثنائيا لميزانية الدولة، مكنت الحكومة من اتخاذ عدة إجراءات وتدابير تشريعية وتنظيمية لضمان توازن مالية الدولة على المدى المتوسط، مقابل عجز الحكومة آنذاك عن اتخاذ إجراءات استراتيجية لإصلاح مالي حقيق؛ * تحويل جزء من الديون الخارجية إلى استثمارات، وهي آلية تدخل في سياق المساعدات الدولية غير المباشرة، بما مكَّن المغرب من التقليص بشكل كبير من حجم الدين الخارجي المكلف على مستوى الميزانية وعلى مستوى ميزان الأداءات مقابل منح امتيازات اقتصادية ومالية وعقارية للشركات والمقاولات الدولية.
وبالنظر لعدم قدرة الحكومات السابقة عن القيام بإصلاح استراتيجي لطرق تدبير المالية العامة، فقد بدت الصعوبات المالية منذ سنة 2005، على الرغم من أن ميزانية الدولة كانت في وضع مريح، لكنه كان وضعا قصير المدى. ورغم أن سنتي 2007 و2008 عرفتا لأول مرة تحقيق فائض في ميزانية الدولة، فإن الحكومات السابقة لم تستثمر هذا الوضع لوقف عملية العودة للارتهان للاستدانة، ولم يتم استغلال الفرصة للقيام بإصلاحات مالية وضريبية عميقة وحقيقية. ومع بداية الأزمة المالية العالمية لسنة 2008، وعادت الصعوبات المالية لتخيم على ميزانية الدولة، وعادت عمليات الاستدانة لترتفع بشكل مطرد نتيجة عجز الموارد العادية للدولة عن تغطية التكاليف العمومية، خاصة وأن نفقات الدين العمومي كانت في ارتفاع منذ سنة 2005، مما يدل على أن كرة الثلج بدأت بالفعل في التضخم. فأية زيادة في حجم الاستدانة يؤدي من جهة لارتفاع تكاليف الدين العمومي على مدى 10 سنوات الموالية للسنة التي تمت فيها الاستدانة، ومن جهة ثانية لمزيد من الارتهان للموارد الاستثنائية لتغطية التكاليف الإلزامية واستفحال عجز الميزانية مقابل استفحال النزيف الاقتصادي والمالي. فمنطقيا لا يمكن الحديث عن تقليص حالات اللجوء للاستدانة دون تقليص عجز الميزانية النسبي والمطلق، وما دامت الموارد العادية لا تستطيع وحدها تغطية نفقات التسيير وجزء من نفقات الاستثمار فلا يمكن بأية حال من الأحوال الحديث عن إمكانية تقليص نسب الاستدانة السنوية، فأحرى أن يتم تقليص حجم الدين العمومي. ويمكن القول بأن أي ادعاء بالقدرة على تقليص الدين العمومي دون تبيان آليات الوصول لهذا الهدف سيعتبر حلما بعيدا عن المنطق وعن الواقع، خاصة وأننا سبق أن سجلنا ضعفا واضحا لمختلف الحكومات المتعاقبة في مواجهة الارتفاع المتزايد للدين العمومي وتأثيره السلبي على مالية الدولة نتيجة ارتفاع نفقات خدمة الدين منذ سنة 2006. وإذا كان هدف التقليص من حجم الاستدانة يعد بمثابة هدف استراتيجي لأية حكومة، فإنه يستوجب الوضوح في تحديد الآليات المعتمدة لتحقيق ذلك، خاصة ضمن قانون المالية السنوي الذي يعد الإطار القانون الوحيد الذي يسمح بذلك. وإذا لم تتم صياغة استراتيجية حكومية واضحة للتقليص التدريجي من ثقل الدين العمومي ومن كلفته المالية والميزانياتية، مقابل توجيه الاستدانة حصريا لميزانية الاستثمار والعمل على منع تمويل نفقات التسيير من موارد الدين العمومي، فإننا لن نستطيع الحد من تفاقم حجم الدين العمومي، وستبقى أية إجراءات أخرى مجرد ترقيعات ظرفية لا توقف نزيف المالية العمومية. فعجز الميزانية الذي أصبح هيكليا منذ ثمانينات القرن الماضي (باستثناء سنتي 2007 و2008) يعني اللجوء للتمويل عبر الدين العمومي الداخلي والخارجي (أو عبر الخوصصة كما سبق تفصيله)، وتمويل عجز ميزان الأداءات يتم بالضرورة عبر اللجوء للسوق المالية الدولية، وإذا لم تتم معالجة هذاتين الإشكاليتين فإنه لا يمكن تقليص وتيرة اللجوء للاستدانة. وبالمقابل فإن عمليات الاستدانة السنوية المتزايدة تؤدي لزيادة تكاليف الدين العمومي، والتي تعتبر نفقات إلزامية تقتطع من الموارد العادية للدولة، مما يؤدي لزيادة التكاليف العمومية سنة بعد أخرى، مما يؤدي بالمقابل أيضا لزيادة الحاجة لتمويل الميزانية لتغطية التكاليف العمومية التي لا تستطيع الموارد العادية تغطيتها. وبالتالي فإن عجز الميزانية يقابله عادة التمويل عبر الدين العمومي (أو الموارد الاستثنائية مثل الخوصصة)، وما دامت نسبة العجز مرتفعة، وما دامت الموارد العادية لا تغطي نفقات التسيير، فإن تقليص حجم الدين العمومي أو حتى توقيف تصاعده وازدياده المطرد يبدو أمرا مستحيلا وغير منطقي. إن إصلاح المالية العمومية يجب أن يكون مبنيا على معطيات واضحة ومنطقية، وتحديد هدف التقليص من حجم الدين العمومي يجب أن يتم وفق مؤشرات ماية واقتصادية حقيقية، والوضع الحالي لميزانية الدولة لا يمكن معه تقليص عمليات اللجوء إلى الاستدانة. لذا يتعين أن نكون واضحين أمام الرأي العام عند الحديث عن إشكالية الدين العمومي، والنقاش العمومي حول هذه المسألة يجب أن ينطلق من البرلمان الذي يملك وحده الاختصاص التشريعي المرتبط بالمالية العامة وبالترخيصات المرتبطة بها. وإذا كانت الحكومة الحالية قد نجحت إلى حد كبير في تنزيل إصلاحات هيكلية جنبت البلد الوصول للحالة اليونانية منذ سنة 2012، فإنها تحاول بشكل إيجابي تقليص العجز المالي في اتجاه وقف نزيف الميزانية، وهو أمر سيؤدي بالضرورة للمعالجة التدريجية لإشكالية الدين العمومي، لكن شريطة ربطه بإصلاحات ضريبية حقيقية تنعش الاقتصاد الوطني وتفادي التخبط في إجراءات ضريبية محدودة الأثر الاقتصادي ويمكن أن تشوش على الإجراءات الحكومية الحقيقية والواضحة في مجال الإصلاحات الكبرى.