عرفت ديون المؤسسات العمومية خلال السنوات الأخيرة ارتفاعا مستمرا، إذ إن المجلس الأعلى للحسابات رصد تفاقم هذا الإشكال المالي في تقاريره السنوية، لعل أبرزها تقرير سنة 2015 الذي كشف وضعية الديون الخارجية بقطاع المؤسسات والمقاولات العمومية التي وصلت إلى 71.6 مليارات درهم، أي 24 بالمائة من إجمالي تكوين رأس المال الثابت. كما أن إجمالي تحويلات الموارد المالية للدولة لفائدة المؤسسات والمقاولات العمومية بلغ 159.8 ملايين درهم خلال الفترة المتراوحة بين 2010 و2014؛ في حين لم يبلغ حجم تحويلات المقاولات العمومية نحو الدولة سوى 53.9 ملايين درهم، أي بفارق قدره 105.9 ملايين درهم، بالإضافة إلى بلوغه سنة 2015 من حجم المديونية ما يقارب 245.8 مليارات درهم، وبالتالي يشكل 25 بالمائة من الناتج الداخلي الخام. أما سنة 2016-2017 فعرفت ارتفاعا للمديونية المؤسسات العمومية بشكل متزايد، إذ بلغت نسبة الدين الخارجي 68.6 في المائة، حسب ما أوردته مختلف التقارير السنوية للمؤسسة الدستورية في مجال الرقابة على المال العام. كما رصدت تقارير بنك المغرب الأزمة نفسها، إذ رصدت زيادة الدين الخارجي للمقاولات والمؤسسات العمومية بنسبة 5.7 في المائة إلى 179.3 مليارات درهم. وحسب التقرير السنوي لبنك المغرب لسنة 2017 فإن جاري الدين العمومي ارتفع بنسبة 5.4 في المائة إلى 871.5 مليارات درهم، وتزايدت نسبته إلى الناتج الداخلي الإجمالي بواقع 0.4 نقاط إلى 82 في المائة.. فيما واصل الدين العمومي المباشر الارتفاع بواقع 0.2 نقطة إلى 65.1 في المائة من الناتج الداخلي الإجمالي، رغم التخطيط لتخفيضه بنسبة 60 في المائة في أفق سنة 2021 في إطار نية الحكومة نهج برنامج الوقاية والسيولة، بالإضافة إلى سعي الاتحاد العام للمقاولات إلى إيجاد حل من أجل تسوية الآجال المحددة للديون. كل هاته العوامل ساهمت بشكل مباشر في فتح النقاش حول وفاء المؤسسات العمومية بتسديد ديونها والخروج من هذا الوضع بحلول واقعية. لقد شكل الارتفاع المضطرد لمديونية بعض المؤسسات والمقولات العمومية منذ سنة 2011 حتى سنة 2018 أحد المخاطر التي تهدد المالية العمومية، من خلال جعل ميزانية الدولة تتحمل أقساط الديون المتراكمة بعد أن تتبين عدم قدرة بعض المؤسسات على سداد ما بذمتها. إذ إن الارتفاع المستمر لمديونية المؤسسات العمومية على المقاولات يكشف الستار عن إشكالات عديدة تتقاطع في غياب الحكامة المالية وتدبير معقلن للموارد الذاتية. كما أن هاته الأزمة التي تتخبط فيها المؤسسات العمومية ترتبط بعدم نهج خطة عمل واضحة المعالم ودقيقة الأهداف، معتمدة على مقاربة مندمجة شاملة كإطار مرجعي للقوانين التي تؤطر اختصاصاتها، وكذا علاقتها بمختلف الوزارات، زيادة إلى هشاشة المخططات التنموية وعدم تقييم مواردها الذاتية بحجم استثماراتها. وبالتالي كان من الضروري التفكير في اعتماد خطة عمل تهدف إلى إعادة هيكلة بعض المؤسسات والمقاولات العمومية بغية تجويد مخرجاتها وجعلها قادرة على نهج تدبير سليم للمالية بشكل يحفظ استمرارها كفاعل في العملية التنموية للبلاد، ويجعلها في منأى عن مخاطر هاته الأزمات التي إن استمرت ستشكل عائقا كبيرا أمام عجلة التنمية في شتى المجالات. إن اعتماد خطة عمل مشتركة ودقيقة المعالم والرُؤًى، تهدف إلى إعادة هيكلة بعض المؤسسات والمقاولات العمومية، سيشكل لبنة أساس في مسار الإصلاح المالي، الذي يتطلب الانكباب في تسريعه والعمل على تفعيله على أرض الواقع، لاسيما حينما يتعلق الأمر بإعادة النظر في بعض فروعها التي لا تتماشى ونشاطها الرئيسي، وكذا العمل على ترشيد نفقاتها، وذلك في إطار عقود برامج مع الدولة، إضافة إلى السعي نحو تعزيز مخططاتها ومواردها الذاتية في علاقة بحجم استثماراتها. كما أن الوقت حان من أجل التخلص من بعض المؤسسات العقيمة التي تشكل عائقا مستمرا للمالية العمومية، وأيضا لتطور أجهزتها ومدخراتها، وهيكلة أخرى ذات طابع تجاري، وفسح المجال ما أمكن للقطاع الخاص للمساهمة في بعض أنشطتها، سواء كليا أو في إطار عقود الشراكة، ودعمها بشكل مستمر بالعقود والبرامج الكفيلة بحل الأزمة، زيادة على دفع الديون المتراكمة في ذمتها، من أجل إحداث دينامية اقتصادية حقيقية تساهم بشكل تشاركي في خلق الثروة، وتمكين المغرب من بنيات أساسية كبرى وتجويد الخدمات المقدمة للمواطنين، رغم أن هذا الخيار المتعلق بتصفية بعض المؤسسات والمقاولات، وإحلال الدولة محلها، قد يشكل مخاطرة على المالية العمومية، إذ يتطلب الأمر دراسة عميقة للبدائل ومدى قدرتها على مواكبة التحولات بشكل يضمن فعاليتها ونجاعتها، كما يستلزم تحليلا دقيقا لكل حالة، مع الأخذ بالاهتمام الأفاق المرتبطة بطبيعة الشركات المساهمة؛ وبالتالي فالوضع الحالي يتطلب الانكباب الجاد والواقعي لدراسة التدابير المستقبلية بغية الحفاظ على التوازنات المالية، زيادة إلى تبسيط الإجراءات عن طريق تحديد المسؤوليات بشكل أكثر وضوحا، وإحداث أنظمة معلومات لرصد فترات الدفع المالي، ما سيساعد في حل المشكل بشكل أكثر فعالية؛ وهي كلها تدابير وقائية واستباقية من شأنها المساهمة في تمكين القطاع العام من تقوية قدرته الاستثمارية، والمساهمة في تجويد دينامية الاقتصاد الوطني. إن مشروع قانون المالية يواجه تحديات كثيرة مرتبطة بالإصلاح الاجتماعي والاقتصادي لمختلف الملفات العالقة. وبالتالي يسعى مشروع قانون المالية للسنة المقبلة الذي تم إعداده بناء على التوجيهات الملكية السامية للإصلاح المالي، لاسيما ما شكلته توصيات خطابي العرش وذكرى ثورة الملك والشعب من رؤية واضحة المعالم لمسار الإصلاح المالي، (يسعى) إلى دعم الأوراش الكبرى بالقطاع الاجتماعي، بالإضافة إلى مواكبة الإصلاح المتعلق بالمراكز الجهوية للاستثمار التي أوصى جلالة الملك بإعادة تدبيرها، ودعم المقاولات الصغرى والمتوسطة. بناء على ما تقدم سيمكن مشروع قانون المالية من إيجاد حلول للأزمة التي تعاني منها المؤسسات العمومية والمقاولات، من خلال خلق فضاء للاستثمار المالي في مختلف المجالات الحيوية التي ستعزز قدرتها على الاستثمار الداخلي؛ وهو ما سيساهم في تسريع السداد للمقاولات الصغرى والمتوسطة، زيادة على محاولة رفع الإمدادات المالية الموجهة إلى المؤسسات العمومية التي تخصص للتسيير وللرفع من رأس المال. إلا أنه رغم ذلك لا يمكن الجزم بكون قانون المالية كفيلا بوقف ارتفاع مديونية المؤسسات العمومية، إذ لا بد من نهج الحكامة المالية وتتبع وتقييم المشاريع والمساعدات بغية ضمان مساهمته في حل الأزمة؛ هاته الأخيرة يكون لها وقع مباشر على البرامج والأوراش التنموية التي ينتظرها المواطن من أجل تحسين نمط عيشه.