احتضنت مدينة أكادير في الفترة ما بين 21 و25 أكتوبر 1988 بتعاون بين "المجلس القومي للثقافة العربية" و"المجلس البلدي لأكادير"، الملتقى العربي الأول للإبداع الأدبي والفني تحت شعار "قضايا الإبداع والهوية القومية"؛ ما جعل كثيرين يقطعون وبدون مبالغة بأن الحدث هو أكبر تجمع في تاريخ الثقافة العربية المعاصرة، إذ لم يحدث لا قبله ولا بعده أن اجتمع لفيف من أكبر المبدعين العرب في كل مجالات الإبداع الأدبي والفني في زمن ومكان واحد لتدارس إشكالية ناظمة هي هنا الهوية القومية كعمق للإبداع. يعترف البيان الختامي للملتقى بأن المشاركين أجمعوا بأن الملتقى كان فعلا أول ملتقى يجتمع فيه المبدعون العرب في مختلف المجالات الأدبية والفنية، يتحاورون ويصغي بعضهم إلى بعض، ويتعرف كل مجال على خصوصيات وصعوبات وآفاق تطور المجال الآخر. وفي موضع آخر من البيان ورد أن المشاركين في هذا الملتقى يحيون مبادرة المجلس القومي بجمع مختلف حقول الإبداع لأول مرة من أجل تفاعلهم. والحقيقة أن الملتقى تدارس ما يفوق عشرة محاور إبداعية همت: الفكر والفلسفة، الشعر، القصة والرواية، النقد الأدبي، المسرح، السينما، الموسيقى والفنون الشعبية، الفنون التشكيلية والعمارة، ثم الإعلام؛ ما شكل سابقة لم تتكرر حتى تاريخه. للتدليل على حجم الحدث وقيمة الحضور لا بأس من سرد قائمة بأبرز من حضروا؛ رُفعت بعض أسمائهم من الأعمال المنشورة للملتقى، واستمد البعض الآخر من الذاكرة المحكومة بآفة النسيان، وليعذرنا من لم نتذكر، علما أن الأرقام تحدثت حينها عن حضور مائتي (200) مٌؤتمر: الفكر والفلسفة: محمود أمين العالم (مصر)؛ جورج طرابيشي (سوريا)؛ مراد وهبة (مصر)؛ برهان غليون (سوريا)؛ محمد سبيلا (المغرب)؛ محمد عزيز لحبابي (المغرب) ؛ محمد ياسين عريبي (ليبيا) ... النقد الأدبي: محي الدين صبحي (سوريا)؛ محمد برادة (المغرب)؛ يمنى العيد(لبنان)؛ الطاهر لبيب (تونس)؛ أحمد اليابوري (المغرب)؛ إبراهيم الخطيب (سوريا)؛ باقر جاسم محمد ( العراق)؛ إدريس الناقوري (المغرب)، عباس الجراري (المغرب)؛ عبد الصمد بلكبير(المغرب)؛ بشير القمري (المغرب)؛ فاطمة الجامعي (المغرب) ... الرواية والقصة: سهيل إدريس (لبنان)؛ اعتدال عثمان (مصر)؛ واسيني الأعرج (الجزائر)؛ إلياس خوري (لبنان)؛ أحمد إبراهيم الفقيه (ليبيا)؛ حيدر حيدر (سوريا)؛ إدريس الخوري (المغرب)؛ عبد الله أبوهيف (سوريا)؛ ليلى العثمان (الكويت)؛ سميرة المانع (العراق)؛ خناتة بنونة (المغرب)، هاني الراهب (سوريا)؛ أحمد بهجت (مصر)؛ ليانة بدر (فلسطين)... الشعر: أحلام مستغانمي (الجزائر)؛ طراد الكبيسي (العراق)؛ خالد أبو خالد (فلسطين)؛ ناجي علوش (فلسطين)؛ صلاح نيازي (العراق)؛ محمد بنيس (المغرب)؛ محي الدين صابر (السودان)؛ ناجي محمد الإمام (موريتانيا)؛ أحمد المعداوي (المغرب)؛ علي الصقلي (المغرب)؛ أحمد فرحات (لبنان)؛ أحمد دحبور (فلسطين)؛ علي الشرفي (اليمن)... المسرح: سمير العصفوري (مصر)؛ وجيه مطر (فلسطين)؛ علي سالم (مصر)؛ حسن المنيعي (المغرب)؛ عبد الكريم برشيد (المغرب)؛ نبيل حجازي (مصر)؛ مصطفى القباج (المغرب) ؛ عبد الصادق المجراب (ليبيا)؛ أبو العلاء السلاموني (مصر)؛ عبد الحق الزروالي (المغرب)؛ عبد القادر عبابو (المغرب)... السينما: صلاح أبوسيف (مصر)؛ علي بدرخان (مصر)؛ محمد فاضل (مصر)؛ منى واصف (سوريا)؛ عزت العلايلي (مصر)؛ فردوس عبد الحميد (مصر)؛ إبراهيم العريس (لبنان)؛ هاشم النحاس (مصر)؛ محمد الركاب (المغرب)؛ محمد نورالدين أفاية (المغرب)؛ رمضان سليم (ليبيا) الموسيقى: منير بشير (العراق)؛ توفيق الباشا (لبنان)؛ أحمد قعبور (لبنان)؛ محمد بحر (تونس)؛ محمود الإدريسي (المغرب)؛ محمد قطاط (تونس)؛ محمد الرايسي (المغرب)... الفنون التشكيلية: أنجي أفلاطون (مصر)؛ علي فرزات (سوريا)؛ جورج بهجوري (مصر)؛ محمد شعبة (المغرب)؛ عفيف البهنسي (سوريا)... الإعلام والصحافة: فريد النقاش (مصر)؛ محمد الأشعري (المغرب)؛ فؤاد بلاط (سوريا)؛ مبارك ربيع (المغرب)؛ فاطمة التواتي (المغرب)... في كلمته خلال جلسة الافتتاح الرسمي أكد وزير الثقافة حينها السيد محمد بنعيسى أنه لا يمكن لمشروع هادف للإبداع العربي أن يقوم في غياب الحرية وممارسة العمل الديمقراطي. من جانبه شدد السيد إبراهيم راضي، رئيس المجلس البلدي لأكادير، على أن "العمل الثقافي والإبداعي والفكري عامة يجب أن يسير بتواز كامل مع العمل الاجتماعي والسياسي لتنمية الإنسان وتكوين النشء". كلمتان تركتا انطباعا إيجابيا عن المغرب في أذهان الضيوف العرب الذين عبر كثير منهم عن أن خطاب ربط الإبداع بالحرية غير مألوف ويندر أن يصدر من مسؤولين سياسيين في الوطن العربي. وكان احتضان قاعة العروض بقصر البلدية (قاعة إبراهيم راضي حاليا) أشغال الملتقى تقريبا محمودا للأشغال من الساكنة، وساهم حضور بعض نجوم السينما و الدراما التلفزيونية أمثال عزت العلايلي وفردوس عبد الحميد من مصر ومنى واصف من سوريا في الدعاية للحدث، إذ تزاحم الجمهور في بهو قصر بلدية أكادير لأخذ الأوتوغرافات والتقاط الصور مع نجوم ألفوا إطلالتهم على شاشاتهم الصغيرة؛ على أن الجمهور الحقيقي للملتقى تشكل من التلاميذ والطلبة ومثقفي المدينة الذين أبدوا تفاعلا منقطع النظير، فبين الاستراحات، بل وأثناء العروض، انتظمت في ساحة البريد المُقابلة حلقات جمعت المبدعين مع أبناء المدينة. وتفاجأ كثير من المبدعين العرب بوجود من يعرفهم ويعرف أعمالهم عن ظهر قلب في أكادير، وهي التي خالوها الحاضرة البعيدة في أقاصي بلاد الأمازيغ. ولم يكن غريبا أن تجد تلميذا أو طالبا يذكر أحدهم بموقف نقدي أو بقصيدة أو رواية أو فيلم أو يحمل كتابا يناقش صاحبه في أفكاره ومواقفه. وقد ولد هذا التفاعل أثرا طيبا في نفسية المبدعين العرب، إلى درجة أن الناقد اللبناني إبراهيم العريس كتب في تغطيته للحدث بمجلة اليوم السابع الباريسية: "في أكادير الكل أحس بنجوميته، من نجوم السينما إلى غلاة النقاد البنيويين". وقامت منهجية الملتقى على تخصيص كل مجال إبداعي بجلسة تبتدئ بقراءة ورقة العمل المعدة من المجلس القومي للثقافة العربية كأرضية للنقاش، تعقبها بحوث وشهادات من طرف الممارسين والمختصين في المجال، لتختتم بنقاش عام ومفتوح. وشكلت الجلسة الأولى مفتاح الملتقى وأحد أرقى محاوره. وأثارت مداخلة المفكر الماركسي المصري الكبير محمود أمين العالم حول الخصوصية في الإبداع نقاشا حادا وردود فعل متباينة، جعلت الجلسة تمتد إلى حدود التاسعة مساء، واضطرت المنظمين إلى استعجال إنهائها لارتباطهم بموعد تقديم وجبة العشاء. والواقع أن العالم كان جريئا في طرحه وفيا لقناعاته، حين عاكس التوجيه القومي المؤطر للملتقى، مركزا على هوية الإبداع. وقد كشفت ردود الفعل الحادة التي أعقبت ورقته كم كان هذا الملتقى مؤدلجا بما يخالف الكنه الحقيقي للإبداع الأدبي والفني. في باقي الجلسات، اقتصر النقاش على ذوي اختصاص كل محور دون غيرهم، إلا ما ندر، ما جعل الملتقى رغم وحدة قاعة العروض عبارة عن ورشات كان بالإمكان أن تعقد مستقلة عن بعضها، وفشل بالتالي في تحقيق ما رسمه الأمين العام للمجلس القومي للثقافة العربية عمر الحامدي في كلمته الافتتاحية من أن الملتقى يستهدف "القضاء على حالة الفصام التي تفصل بين أنواع ومجالات العمل الإبداعي، ويتوخى إنجاز التواصل الضروري بين مختلف الأنشطة الأدبية والفنية...". ومن أكثر ما انتقد في المحاور ما أسماه المنظمون شهادات المبدعين، إذ دعي كثير ممن لم يشاركوا في المحاور بمداخلات علمية لتقديم تجاربهم الشخصية في شكل شهادات، ما فتح المجال للنرجسية وتضخيم الذات. وتسابق كثير من المتدخلين في كتابة الخطب العصماء عن مساهمات أعمالهم في إذكاء الحس القومي واستنهاض الهمم لتحقيق الوحدة العربية. وتصادف الملتقى مع حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل للآداب في سابقة في تاريخ الأدب العربي، فكان الروائي الكبير بمثابة الحاضر الغائب. ودارت نقاشات في أروقة الملتقى وفي الكواليس عن أحقيته بالجائزة، وذهب قسم كبير إلى تسييس جائزته، معتبرين أنها جاءت مكافأة لمساندته لاتفاقيات كامب ديفيد؛ بل طرحت مسألة تضمين البيان الختامي تنديدا به وبجائزته، لولا غلبة المتنورين الذين رأوا أن محفوظ قامة أدبية كبيرة لا تضيف إليها نوبل ولا تنتقص منها. ولعل أجمل محاور الملتقى السهرات الموازية، فقد استمتع الجمهور بسهرة مسرحية ألقى خلالها علي سالم، مؤلف مسرحية مدرسة المشاغبين، إحدى مسرحياته السياسية. كما استطاع رائد المسرح الفردي بالمغرب عبد الحق الزروالي أن يأسر الجمهور بإلقائه المبدع لمسرحيته "سرحان المنسي". وفي سهرة الغناء والطرب، تمرد الجمهور الأكاديري على الغناء السائد، ليتفاعل مع الغناء الملتزم في شخص محمد بحر من تونس وأحمد قعبور من لبنان. في الملتقى لحظات ظلت عالقة بالذاكرة، فقد اكتشف جمهور أكادير قبل غيره أحلام مستغانمي سنوات قبل "لغة الجسد" و"فوضى الحواس"، ولن ينسى من حضر كلمتها المنثورة التي ألقتها بنفس شعري بديع انتزعت بها الاستحسان والتصفيق الحار، ولن ينسى من حضر مداخلة عازف العود العالمي منير بشير وهو يقدم على عوده شواهد لأفكاره رابطا المفيد بالممتع، أو الممثلة فردوس عبد الحميد التي تحدثت بعفوية كيف أدمنت على قراءة الكتب دون أن تتمكن من أن تصير مثقفة، أو صرخة المخرج السينمائي المغربي محمد الركاب وهو يتحدث عن الصعوبات التي يواجهها لتمويل فيلمه "مذكرات منفى" فتحققت نبوءته "لأنجزن مذكرات منفى أو لأموتن دونه"، أو المطرب المعروف الذي تلفظ بكلام فهم الجمهور أنه انتقاص من تجهيز القاعة ومقدرة الفرقة الموسيقية المصاحبة، فما كان من هذا الجمهور إلا أن أصر على إنزاله من المنصة، ولم تشفع وساطات محمد عزيز الحبابي وعمر الحامدي في إعادته للمنصة مرة أخرى. الشاعر الفلسطيني خالد أبو خالد قال في شهادته إنه كان رابع الثلاثة في رواية "رجال في الشمس"، وأنه تراجع عن الركوب في آخر لحظة ليترك الثلاثة الذين لم يدقوا الجدران لمصيرهم، فاتحا المجال للتلاميذ والطلبة لربط الحقيقة بالخيال في رواية كانت حينها أشهر الروايات المقررة في دراسة المؤلفات بالمدارس الثانوية المغربية. حبل الملتقى بطرائف كانت كالملح في الطعام؛ عبد الحق الزروالي يقطع إلقاءه المسرحي ليطلب من أحد الجمهور سيجارة من النوع الأمريكي الفاخر قاصدا وضع المتلقي في قلب مسرحيته؛ علي سالم في جلسة المسرح يقمع ناقدا مغربيا شابا طلب نقطة نظام بعبارة "أقعد يا تلميذ"، ظانا أنه من التلاميذ أو الطلبة المتنطعين؛ المخرج صلاح أبوسيف، رئيس جلسة الرواية، ينادي على السيدة هاني الراهب للالتحاق بالمنصة، ليفاجأ وسط ضحكات الجمهور بأن هاني رجل وقور بلحية... كانت إحدى أكثر اللحظات حميمية حفل العشاء الختامي على الرمال الذهبية لشاطئ أكادير، حين نصبت الطاولات على الرمل بمحاذاة مركب تافوكت، حينها تخلى كثير من المبدعين عن تحفظهم وانخرطوا في الغناء والتصفيق والرقص على أنغام أحواش. على روعة جمهور أكادير ومساهمته في إنجاح الحدث، فقد كان الملتقى أول عهده بالملتقيات الكبرى، لذا سجلت عليه بعض المظاهر السلبية، ومنها المبالغة في التصفيق في قاعة العروض بمناسبة أو بدونها. غير ذلك، شكل الملتقى وعي كثير من مثقفي المدينة اليوم، وساهم في تكوين شغفهم الأدبي والفني عندما مكنهم من الاحتكاك بكبار نساء ورجال الثقافة العربية بمختلف مشاربهم الإبداعية. في بيانه الختامي، بعث الملتقى رسالة تحية وتضامن مع المقاومة الوطنية اللبنانية وكفاح الشعب العربي اللبناني، وحيا انتفاضة أطفال الحجارة في فلسطين التي اقتربت يومها من نهاية عامها الأول، وأصدر توصية في شأن الجاليات العربية في المهاجر الأوربية وما تتعرض له هويتها القومية من محاولات الاستلاب والتغريب على حد تعبير البيان. الطريف أنه من كل محاور الملتقى، لم يتقدم محور بتوصيات عملية مستقلة عن توصيات البيان الختامي إلا ندوة الموسيقى. ولعل ما لخص الفائدة من الملتقى فقرة في بيانه الختامي تحدثت عن أن "الملتقى حقق الغرض الأول من عقده، وهو تحقيق التعارف وتبادل الخبرات والتجربة بين المجالات المتباينة من الإبداع الأدبي والفني العربي". طيلة خمسة أيام، كانت أكادير عاصمة حقيقية للثقافة العربية، وليست كالعواصم الحولية التي تسمى كل سنة بالاسم دون أن تحقق أي إضافة للثقافة العربية. بعد كل هذه السنوات لم يتحقق حدث في مثل حجم الملتقى العربي الأول للإبداع الأدبي والفني ويعسر أن يتحقق. كان من مشاريع المجلس القومي للثقافة العربية تكرار مثل الحدث في أكثر من بلد عربي وبحجم أكبر، لكن تعثر الحلم القومي حال دون ذلك. في سنة 1990 سيجتاح العراق أحد الأقطار الدافعة بالمشروع القومي العروبي الكويت ليدق مسمارا ثالثا في نعش الحلم القومي بعد مسمار نكسة 1967 ومسمار كامب ديفيد 1978، لتظل أكاديرالمدينة الوحيدة التي حققت حلم جمع مبدعين من ألوان الطيف يصعب اليوم حتى التفكير في جمعهم في زمان ومكان واحد. كانت أكادير يومها بحق عروس الثقافة العربية.