بسهناك اليوم، في الساحة الأدبية والنقدية، وكذلك في الساعة الفكرية، نقاش حول (الأدب الإسلامي)، حول التسمية والاصطلاح والمفهوم. وهذا النقاش ليس محصورا بين أنصار الأدب الإسلامي وبين خصومهم، بل نجده موجودا داخل معسكر المؤيدين أنفسهم. الخوض في تفصيلات هذه النقاشات والصراعات والجدالات القائمة بين مؤيدي الأدب الإسلامي وخصومهم، أو بين المؤيدين أنفسهم، في تقديري، لا يفيدنا شيئا كثيرا، فضلا عن أنه لن ينتهي بنا إلى نتيجة ذات وزن، ما دام النقاش والجدال محصورا في الجوانب النظرية والإيديولوجية، وما دام لكل طرف من الأطراف المشاركة في هذا النقاش والجدال دوافعُه وقناعاتُه وأهدافه التي تفرض عليه أن يستمر في الحِجاج والتدافع، وفي بعض الأحيان، أن يشتدَّ في الخصام، لا يَلين ولا يُظهر ميلا لاعتدال أو موقفٍ وسط. وما يمكن تسجيله في هذا الباب، وهو من المعطيات الثابتة التي لا سبيل إلى إنكارها أو التشكيك فيها، هو أنه لم يكن هناك أيُّ اختلاف بين النقاد، ولا أيُّ انقسام وسط الباحثين والدارسين، في شأن اصطلاح أو تسمية (الأدب الإسلامي)، حينما كان مفهومُ النعت الإسلاميّ مقصورا على المفهوم الزمني المنقطِع، الذي يحصر زمان الأدب الإسلامي بين زمان المخضرمين وزمان المحدَثين، كما هو مشهور في التقسيم الذي وصلنا عن القدماء بخصوص العصور الأدبية. وما تزال، إلى اليوم، كثيرٌ من جامعاتنا تدرّس مادة (الأدب الإسلامي) بتحديد الفترة الزمنيّة في عصر صدر الإسلام، أي في عصر النبوّة والخلافة الراشدة، وهناك من يجعل هذه الفترةَ تمتد لتشملَ العصرَ الأمويّ. لم يبدأ الخلاف والانقسام بين الأدباء والنقاد والدارسين المحدثين حول تسمية (الأدب الإسلامي)، إلا بعد أن تجاوز مفهومُ العبارة/التسمية الدلالةَ الزمنيّة للعبارة، وأصبح يُحيل على الإسلام، بما هو قرآن وسُنّة، وبما هو إيمان وشرائعُ والتزامٌ ودعوة ونضال، وبما هو أحكام وواجبات وحقوق والتزامات وأخلاق وآداب. قبل الإعلان عن تأسيس (رابطة الأدبي الإسلامي العالمية)، في سنة 1984، لم يكن هناك نقاشٌ ذو بال حول (الأدب الإسلامي)، وإن كان هناك صراعٌ إيديولوجيٌّ حادّ وخصامٌ فكري محتدم بين "الإسلاميّين"، من جهة، وبين "اللادينيّين"، بكل ألوانهم ومشاربهم وتوجهاتهم، من جهة أخرى. نعم، كانت هناك كتاباتٌ تَظهر بين الحين والآخر، وخاصة في شكل مقالات ودراسات قصيرة، في بعض الجرائد والمجلات، تناقش موضوع إسلاميّة الأدب وموضوعَ الإسلام والفن بصفة عامة، في ظروف سياسية واجتماعية كان يطغى فيها الصوتُ "اللادينيّ" المناوئ للإسلاميّين، تتقدّمهم حركةُ (الإخوان المسلمون)، في مصر وخارجها. لكن حدّة الاعتراض على (الأدب الإسلامي) ستزداد-بل سيصبح الرفضُ والاعتراضُ والاتهام هو الأصل والمَقصِد في مواقف الخصوم اللادينيّين- حينما ستتحول الأماني والرغبات المتعلقة بالأدب الإسلامي مِن مجرد مقالات في ثنايا بعض المنشورات ذاتِ الانتشار المحدود، ومِن مجرد خطابات وطموحات يعبَّرُ عنها في بعض المحافل واللقاءات، إلى رابطةٍ عالمية، لها أهدافها ومبادئها، وإلى منظمة إسلامية لها قانونها الأساسيّ، ولها هيئاتٌ ومجالس ومكاتب، محليةٌ ومركزية، للتشاور والتداول والتقرير، وإلى مِنبرٍ مسموع وآلياتٍ إدارية وإعلامية للدعوة وللتواصل والنشرِ على نطاق واسع. يقول الدكتور حسن الأمراني-وكان يومها عضوا بمجلس الأمناء برابطة الأدب الإسلاميّ العالمية-في التقديم الذي كتبه، في شتنبر1991م//ربيع الأول 1412ه، ل(دليل الأدب الإسلامي في العصر الحديث)، الذي أعدّه الدكتور عبد الباسط بدر: "في أقل من عشرين سنة، صار للأدب الإسلامي مريدوه، كتّابا وجمهورا، ووجد طريقَه إلى القلوب، وصار، في نظر الخصوم، يمثل-على الأقل-ظاهرةً أدبية من الصعب تجاهلُها. وتوالت الكتابة في الأدب الإسلامي، إبداعا ودراسة، وظهرت-لأول مرة-مجلاتٌ متخصصة للأدب الإسلامي، فظهرت (المشكاة) بالمغرب، ثم تبعها (الأدبُ الإسلامي) بالهند، ثم مجلة (الأدب الإسلامي) في تركيا، وبدأت تتحقق عالميةُ هذا الأدب عموديا وأفقيا، ودخل الأدب الإسلامي الجامعاتِ، وأصبحت تُنجز بحوث ورسائل وأطروحات تتناول هذا الأدب، مما جعل وجودَ دليل لمكتبة الأدب الإسلامي ضرورةً ملحَّة". مِن الكتابات التي ظهرت قبل تأسيس (رابطة الأدب الإسلامي العالمية) أذكر، على سبيل المثال، كتابَ السيد قطب (النقد الأدبي أصوله ومناهجه)، وخاصة في طبعته المتأخرة، التي عرفتْ بعض الزيادات والتعديلات، مقارنة بالطبعة الأولى، وكتابَ الأستاذ محمد قطب (منهج الفن الإسلامي)، وكتاب الدكتور نجيب الكيلاني (الإسلامية والمذاهب الأدبية)، وكتاب الدكتور عماد الدين خليل (في النقد الإسلامي المعاصر). إذن، الأدب الإسلامي، بعد تجربة سنوات من التنظير والإبداع والنقد والنشر، بات، في عين خصومه، في أضعف التقديرات، "ظاهرة أدبية يصعب تجاهلها"، بعد أن كان وجودُه في الستينيات والسبعينيات، وكذلك بعض سنوات الثمانينيات، من القرن الماضي، لا يتعدى حدود الأماني والكتابات الإنشائية الطامعة الطامحة. فيمَ الخصامُ والجدالُ؟ يمكن تصنيفُ الرافضين للأدب الإسلامي، كليّا أو جزئيا، إلى فريقين: الرافضين من منطلَق إيديولوجيٍّ لادينيّ، يغلب عليه التطرفُ في كثير من الأحيان، والرافضين بدافع يغلب عليه الجانبُ الأدبي النقدي الفني، أي أنهم لا يرفضون من أجل الرفض، كما هو حال أصحاب الإيديولوجيا اللادينية، وإنما يُقدّمون بين يدي رفضِهم تعليلاتٍ وتفسيرات ومبررات لها أصلٌ، أو ما يُشبه الأصل، في الأدب ونقده. رفضٌ إيديولوجيٌّ لادينيّ الملاحَظ على هذا الصنف مِن الرافضين أن آراءهم في موضوع الأدب الإسلامي لا نجدها إلا كلمةً هنا وهناك، وتصريحاتٍ مقتضَبة مبعثرةً في هذا الحوار أو ذاك، وإشاراتٍ مختصرةً مبثوثةً في كلام على هامش لقاء، أو في مقالة مضمومة إلى مقالات أخرى في هذا المنشور أو ذاك المطبوع. وهذه الصورة التي تظهر بها آراءُ هؤلاء الرافضين إنما هي، في تقديري، دليلٌ على أنها آراءٌ لا تستند إلى أساس نقديٍّ علميٍّ قائمٍ على البحث والتحري والتتبع والاهتمام، وأن أصحابها لم يُكلِّفوا أنفسهم أن يعرفوا حقيقةَ الموضوع الذي يَحكمون فيه، ولا أن يقرأوا أدبياتِ هذا الخصم الذي ليس له عندهم إلا الرفضُ والاتهامُ والإنكار. وقد يتعذّر على الباحث أن يجد لهؤلاء دراسةً جادة منشورةً، تعتمد قواعدَ البحث الأكاديميّ، أو كتابا مطبوعا ينمّ على مجهودٍ معتَبر في البحث والنقاش والحِجاج، وإنما الأمر، باختصار، كلامٌ إنشائيّ مُلقىً على عواهنه، تحكُمه العداوة الإيديولوجية العمياءُ، وتستدعيه أهدافٌ لا علاقة لها بالأدب والنقد، ولا بالحوارات الفكرية الجادة، والنقاشات الفنية المعقولة المقبولة. مِن الكتب القليلة المطبوعة التي وقفت عليها لهؤلاء الرافضين المتطرّفين كتابُ الدكتور سعيد علوش (نقد المركزية العقائدية في نظرية الأدب الإسلامي)، الصادر عن دار أبي رقراق للطباعة والنشر، بالرباط، 2002. وهو كتاب قائم، من أوله إلى آخره، على الاختلاقِ والتلفيق والاتهامات الباطلة والأحكام الجائرة المنحطة في حق الأدب الإسلامي ومؤيّديه والمدافعين عنه، مِن الكتّاب والنقاد والأدباء. كتابٌ يجري على لغة هي أقربُ إلى السباب الدنيء وفجورِ السوقة والعوّام في الخصام منها إلى لغة العلم والنقد والأمانة والموضوعية. كتابٌ، في تقديري، لا علاقة له بموضوع النقد والأدب، ولهذا لم أرد أن أثقل على القارئ بالوقوف عنده. هذا هو حال المعترضين على (الأدب الإسلامي)، لأسباب إيديولوجية؛ فهم، في غالبيتهم، ينتمون إلى التيار اللاديني-وهو تيار يجمع الملحدين الأقحاح إلى جانب المسلمين المتذبذبين المتشككين والغافلين اللاهين-ومن ثَمّ فهم يرفضون هذا الأدب، لأنه يحيل على الدين، الذي يعتقدون-طبعا بمنظارهم الإيديولوجي-أنه والفن ضدان متعاديان متنافران لا يلتقيان. وأسوق فيما يلي مثالا على مقالات هؤلاء الرافضين اللادينيّين المتطرّفين الحاقدين، التي لا علاقة لها بالبحث البناء، والنقد الموضوعي، والكلام المسؤول. فهذا محمد بنيس، أحد أعلام "الحداثة"، الذين رفعهم الإعلامُ اللادينيّ إلى مصاف المشهورين-وأيُّ شهرة؟ وأيُّ حداثة؟ وأيُّ إنتاج؟ وأيُّ شعر؟!!-يصف، في مقالة له بعنوان "أولياءُ بدون ولاية"، الدعوةَ إلى الأدب الإسلاميّ بأنها "حركة يؤلِّف أصحابُها كتبا يدعون فيها إلى أدب المؤمنين، تمييزا له عن أدب الكافرين، المفسدين، المغضوب عليهم"[لاحظ الطّنْزَ والكلامَ اللامسؤول](ص124)، ويُسمّي دعاةَ الأدب الإسلامي "أولياء بدون ولاية"(نفس الصفحة)، "وهمْ من مظاهر المرحلة الحالية، في الثقافة العربية، التي تتخلى عن القيم الكبرى للحداثة"(ص125) ، ويصف الدعوة إلى أدب إسلامي بأنها "ردّ فعل جاهل بالأدب، وبالأدب العربي، وبالثقافة العربية..."(ص126)، و"أن أهل الأدب الإسلامي خارجون عن الأدب. وبخروجهم أعفونا من النقد والنقاش والسجال. إنهم من أهل اللاأدب". وينتهي، في آخر المقالة، إلى أن دعاة الأدب الإسلامي "جاؤوا إلى الثقافة العربية والأدب العربي من خارجهما. والذي يجعل من نفسه الأديبَ الإسلاميَّ في العالم العربي ليس صديقَ الأدب، ولا صاحبَه، ولا قريبه، ولا حليفه، ولا ناصحه. إنه من خارج الأدب يتكلم، جاهلا بأسس ومعرفة، ونحن ساكتون."(ص128) هذه المقالة منشورة في كتاب "الحداثة المعطوبة" لمحمد بنيس. وهذا الكتاب عبارةٌ عن مقالات وخواطر وكتابات إنشائية، جُمعت بالإكراه تحت عنوان "حداثي"، وطُبعت في صورة كتابٍ، في رأيي وتقديري وتقويمي، لا تُرجى منه فائدة، بميزان الفن والأدب والنقد؛ وهل من فائدة في الهذر؟ وهل الثرثرةُ شيءٌ غيرُ اللغو والهَباء؟ لاحظْ، في هذه المقتطفات، أولا، هذه الجرأةَ في الحكم على الآخر، وهذا التعالمَ والأستاذيّةَ المزيّفةَ في النظر إلى مخالفيه ممّن اختاروا غيرَ اختياره، واجتهدوا في غير سبيله، واستندوا إلى غير مرجعيّته وهواه. ولاحظْ، ثانيا، مستوى هذه اللغة والتعابير التي يصوغ بها ضغائنه وسخائمَ صدره، التي تنزل، في أحيان كثيرة، إلى مستوى الكلام الركيك. سئل مرة عن الأدب الإسلامي فأجاب بأنه "دعوةٌ إيديولوجية عمياء ومتعارِضة مع جوهر الأدب"[من حوار أجرته معه "طنجة الأدبية"، حاوره يونس إمغران، 12 أبريل2010]. "رمتني بدائها وانسلّتْ"، مثلٌ عربيٌّ يُضرب لمَنْ يسبق إلى تعْيير خصمِه بعيْب هو أولى بأن يُعَيَّر به. هل يُعقل أن يصدرَ مثلُ هذا الجواب مِن رجل يزعم أنه "شاعر"، وأنه "منفتِح"، وأنه من أهل العاطفة والذوق والوجدان؟ "شاعر حداثيّ"، عند نفسه، وفي الأبواق الحداثيّة الصاخبة الهائجة المائجة، لسانُه حديدٌ ونارٌ على الإسلاميّين من أهل المسجد، وقلبُه حنانٌ ورقةٌ و"شاعريةٌ" ناعمةٌ فياضةٌ للخمر، أمِّ الخبائث، وبالطبع، لشرّابها من روّاد الحانات، بالليل والنهار؛ اقرأوا ما كتبه في مقالة بعنوان "الشعرُ والحبّ والنبيذ"[(القدس العربي)، 12 أبريل2013]. وهذا مثال آخرُ من مقالةِ كاتبٍ لادينيٍّ مغمور، لا يزال يسعى ويجتهد في السعي، ليصبح مشهورا، على طريقة مثالِه الأعلى، الذي لا يفتأ يدافع عنه، وهو أدونيس وأمثالُه من الملحدين المناضلين المحترِفين. اسم هذا الكاتبِ محمد بودويك، ولا عجبَ أن يكون مُصنَّفا في "الشعراء"، لأن الشعر في هذا الزمان بات حِمىً مستباحا لكل مَن هبّ ودبّ، يدّعيه هيُّ بنُ بيّ، وطامرُ بنُ طامر، وصَلْمعة بنُ قلْمعة، وأمثالُهم مِن المجاهيل، ما دام الأمر فوضى، والباب مُشْرَعا يدخله كلُّ من شاء، بلا قواعد، ولا مقاييس، ولا مفاهيم، ولا أهداف. فعند هذا الرجل، "إضافةُ الأدب إلى "الإسلامي"، معناه تديِينُه، وإلباسُه جبّة الداعية، ووضعُ سبحة "النظم" والوعظ في يده، وقسرُه على أن يكون "بوقا" زاعقا للدين، ومشروطا-حتما-بالمناسباتية، ومنسلكا-بإجمال-في العرض والطلب. من هنا، تفطّن الأصمعيُّ بنباهة الناقد الحصيف، إلى معاني هذه الحقائق، لمّا اعتبر أن "الشعر شر بابه النكد إذا دخل باب الخير لاَنَ"..."[مقال بعنوان (الأدب والدين) منشور بالجريدة الإلكترونية المغربية (هسبريس)، بتاريخ 9 ماي 2018] وقد نقل السيد بودويك كلامَ الأصمعي محرَّفا؛ وأذّكِر هنا، باختصار شديد، أن هناك روايتين مشهورتين لكلام الأصمعيّ، الأولى هي التي اعتمد عليها الكاتبُ، ونصها الأصليُّ، بلا تحريف: (الشعر نكد بابه الشرُّ، فإذا دخل في الخير ضعف)، وهي رواية ابن قتيبة في (الشعر والشعراء)(ج1/ص305)، والثانية هي رواية المرزباني في (الموشَّح)، وهي مختلفة في صياغتها ومضمونها عن رواية ابن قتيبة. وقد حقق الدكتور صالح أزوكاي في الروايتين، وانتقدهما، سندا ومتنا، بطريقة علمية موضوعية، وانتهى إلى ترجيح رواية المرزباني، التي لا يُفهم منها قطعا ما نفهمه من رواية ابن قتيبة؛ وهذا نصُّ رواية المرزباني: (حدثني عبد الله بن يحيى العسكري، قال: حدثني إبراهيم بن عبد الصمد، قال: حدثنا الكراني، قال: حدثني العباس بن ميمون طابع، قال: حدثني الأصمعي، قال: طريقُ الشعر إذا أدخلته في باب الخير لاَنَ؛ ألا ترى أنّ حسان بن ثابت كان علا في الجاهلية والإسلام، فلمّا دخل شعرُه في باب الخير، مِن مراثي النبي صلّى الله عليه وسلم وحمزةَ وجعفرٍ رضوان الله عليهما وغيرهم، لان شعرُه. وطريقُ الشعر هو طريق شعرِ الفحول، مثل امرئ القيس، وزهير، والنابغة، من صفات الديار والرّحل، والهجاء والمديح، والتشبيب بالنساء، وصفةِ الحمر والخيل والحروب والافتخار؛ فإذا أدخلته في باب الخير لاَن."(ص71). هذا فيما يخصّ لفظَ رواية كلامِ الأصمعي وصحةِ نسبةِ هذا الكلام إليه. أما الاستشهادُ بالأصمعي، فهو استشهادٌ إيديولوجيٌّ لا علاقة له بالنقد الأدبي الفني، لأن الأصمعيَّ كان مشهورا بأنه من رواة اللغة وغرائبها ونوادرها، وكان هواه-مثلُه مثلُ غالبية الرواة من جيله-مع القديم؛ قال الجاحظ: "طلبتُ علمَ الشعر عند الأصمعيّ فألفيته لا يعرف إلا غريبه..."[الكشف عن مساوئ شعر المتنبي، للصاحب بن عباد(إسماعيل بن عباد، ت 385ه)، ص31]. وقال السيد بودويك في موضع آخر من مقاله: "تنبغي الإشارة إلى أن "فرية" الأدب الإسلامي، نادى بها السيد قطب، ومصطفى صادق الرافعي في ما كتبوا ونظموا، ودبجوا. وتبعهم نجيب الكيلاني وغيره كثير، إلى أن طرحت الفكرة على بساط الجد والدعوة، والإيديولوجية العارية في منتصف القرن العشرين، فالتأم جمع الدعاة إلى هكذا "أدب"، فيما سموه ب "رابطة الأدب الإسلامي العالمية"...". ويشهد هذا الكلامُ على صاحبِه بأنه لا يملك معلومات صحيحة عن الموضوع الذي يتكلم فيه، فكيف يمكن إصدارُ أحكام موضوعية ومُنصِفة استنادا إلى معلومات غيرِ صحيحة؟ وكيف يمكن بناءُ استنتاجات مُعتبرَة ومقبولة على مقدمات مختَلقَة أو محرَّفة أو متخيلة؟ فهو يذكر هنا، مثلا، أن تأسيس (رابطة الأدب الإسلامي العالمي) كان في منتصف القرن العشرين، وهو خطأ يؤكد أن صاحبه لا يعرف عن هذه الرابطة إلا التخرّصات الناجمةَ عن التخيّلات والأوهام والإشاعات، ولا علاقة لها بالبحث العلمي والتحري الموضوعي والقراءة الفاحصة الناقدة المتتبعة. ويختم مقاله بقوله: "لا يوجد أدبٌ إسلاميّ، ولا أدبٌ مسيحي، ولا أدب يهودي، ولا بوذي، ولا زَرادُشْتي...كدت أقول: بدأ الأدبُ وثنيا وسيظل، أيْ "لا َدينيا"، وتلك ميزته وتفرده.". وهذا بيتُ القصيد من كلامه: "بدأ الأدبُ وثنيا وسيظل، أيْ "لا َدينيا"، وتلك ميزتُه وتفرّدُه."!! وأختم هذه الأمثلةَ من مقالات الرفض الإيديولوجيّ المتطرف للأدب الإسلامي بمقتطف ممّا أجاب به سعيد عيوش حينما سئل عن التحفظ الذي كان منه على تسمية الأدب الإسلامي في كتابه (نقد المركزية العقائدية في نظرية الأدب الإسلامي)؛ قال: "تصوّرْ أن مائة سنة التي قضاها العربُ في النهضة، وفي البحث عن وسائل النهوض بالأدب العربي، ولم يتوصلوا رغم ذلك إلى نظرية عربية محضة، نجد دعاة الإسلاموية[تأمل هذه الصياغةَ وما تختزنه مِن شحنات إيديولوجية] يتوصلون إلى نظرية في عَقدين، تحت تسميّة نظرية الأدب الإسلامي. هل هذا يسمى نظرية؟ هذه النظرية دون مرجعية، أتحدّى أصحابَ هذا التوجه أن يقدّموا مرجعية أكاديمية أو جامعية، بل كل ما قاموا به مجرد تجميعات عقائدية، وأظن أنها دون المستوى الأكاديمي، بل تخدم توجهات إيديولوجيا وظرفية محددة".[من حوار مع جريدة (الخبر) الجزائرية، في29 ماي 2014.] "التحدي"، و"تبريق العينين"، و"الجبهة" في الدفاع عن الباطل، فضلا عن الفجور في الخصام، خصالٌ ثابتةٌ في سلوك معتنِقي الإيديولوجية اللادينية المتطرفة. هذا الصنفُ من الرافضين للأدب الإسلامي، في اعتقادي، لا مجال معه للنقاش والحوار والتواصل، لأنه ينطلق من موقف إيديولوجي "عدمي" تجاه الإسلام وكلِّ ما يتعلق به من معتقدات وتصورات وأحكام وأخلاق وآداب. ويضم هذا الصنفُ أخلاطا من الناس-مِن الملحد المناضل عن اعتقاد واقتناع إلى المسلمِ الغافل اللاهي المتّبِع عن تقليد وإمّعيّة-تجمعهم رابطةُ اللادينية، حيث العداوة للدين، وحيث كل الوسائل مباحة في هذه العداوة، بما فيها الاختلاق والتزوير والافتراء والرجم بالغيب، للطعن على الدين، والتشكيك في نوايا المتديّنين، والطعن على معتقدهم، وتناول مقالاتهم وسلوكاتهم ومساعيهم بالتشويه والاتهام. فموقف هذا الصنف من المعترضين المناوئين ل(الأدب الإسلامي)، في اعتقادي، بعيدٌ أن يوصفَ بأنه رأيٌ واجتهاد ونظرٌ من زاوية مختلِفة، وإنما هو رفضٌ من أجل الرفض، وتشكيكٌ واتهامات وتلفيقات من هنا وهناك، فضلا عن لغة السخرية والتجريح البذيء. تتمة الكلام في الجزء الثاني من هذه المقالة، إن شاء الله. وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.