يعتبر المغرب من بين الدول العريقة، ذات التاريخ المجيد، والماضي التليد، متنوع التضاريس خصب التربة، طيب الأعراق تعايش، سكانه منذ وجدوا على أرضه، وساهموا في صنع حضارته وأمجاده وكتابة تاريخه، متكاثفين متلاحمين مهما اختلفت لهجاتهم، وتعددت قبائلهم، وتنوعت مشاربهم، وقد انصهروا في بوتقة واحدة، هي بوتقة الوطن، مكونين عنصرا واحدا، وجنسا واحدا، ودما واحدا مما منحهم قوة ومنعة ضد أطماع الطامعين وكيد الكائدين. ونظرا لموقعه الاستراتيحي وثرواته الزاخرة، فإن أطماع الطامعين في امتلاك خيراته، واستعباد أبنائه مازالت تتنامى رغم الفشل الذريع والمتكرر الذي مني به في الماضي القريب والبعيد، فإنهم ما فتئوا يخططون ويدبرون المكائد للإيقاع به في شراكهم، وذلك عن طريق إيهام أبنائه وخداعهم بما عجز الاستعمار البغيض عن خداعهم به، ألا وهو ادعاء عدم عروبة البربر وانتمائهم لجنس آخر هو جنس الأمازيغ، اعتقادا منهم أن هذا الاسم يبعدهم عن العروبة، ولا يجد المتخصص في اللغة العربية، المتمرس بأوزانها وتصاريفها أدنى صعوبة في ربطها بأصله العربي الصميم، فوزن الأمازيغ هو وزن عربي خالص فهو على وزن: أفاعيل وإذا قيل بل: إمزغن، فهو وزن: جمع المذكر السالم أي »أمازيغين«، وقد درج اللسان العامي على نصب جع المذكر السالم غالبا ، إلا أنه من أكبر المغالطات التاريخية والأنطربولوجية اعتماد اختلاف اللسان بين قوم وآخرين للقول بتباين أعراقهم، واختلاف أجنساهم، فكم من نشأء من أب واحد وأم واحدة. نشأ كل واحد منهم في بيئة لغوية مختلفة عن الأخرى، فجاء لسانهم مختلفا عن الآخر حتى لا يكاد المرء يصدق أنهم من جنس واحد، فأحرى أن يصدق أنهم أشقاء، والحقيقة والواقع أنهم إخوة أخوة لا مراء فيها، وما أكثر الأمثلة على ذلك من الواقع المعيش، فالعديد من أبناء الجالية المغربية المقيمة بأوروبا لا يعرفون لغة الوطن المهاجر منه، ولا يستطيع التواصل مع أقرانه من أبناء بلده، بمن فيهم إخوانه وأبناء أعمامه وأخواله وغيرهم، فهل يعني ذلك أنهم ليسوا مغاربة لعدم تكلمهم العامية المغربية، ولا عربا لعدم تحدثهم اللغة العربية علما بأنهم مغاربة أبا عن جد، فضلا عن أن اللغة العربية الحالية المعتمدة في تلك المقارنة السطحية بينها وبين اللسان الأمازيغي، والتي توهم باختلافهما، ليست هي كل اللغة العربية وقد كان للعرب لغات، وإن شئت قلت »لهجات« ضاع الكثير منها، واللغة العربية التي بين أيدينا هي لغة القرآن، الذي اختار من بعض اللغات العربية أفصحها ، كان للغة قريش فيها الحظ الأوفر، وكون اللسان الأمازيغي لم يحظ بحصة الأسد في ألفاظ القرآن الكريم وآياته شأن لغة قريش، ليس لكونه غير عربي ولكن لأن بعض كلماته لا تستجيب لمعايير موضوعية، وصرفية تتيح لأسلوبه وألفاظه التجانس وقوة الإبانة ومع ذلك فقد احتوى القرآن الكريم على كثير من الألفاظ التي لا تزال تدور على ألسنة الأمازيغ الى اليوم، سنحاول إيراد بعض منها على سبيل المثال فقط، ويمكن تأكيد عروبة الأمازيغ كذلك بعدة أدلة، من بينها: الدليل اللساني والأنطروبولوجي التاريخي. أولا: الدليل التاريخي والعمراني ذكر ابن خلدون في تاريخه أن البربر من سكان المغرب الأولين، وأنهم قدموا من الجزيرة العربية من اليمن والشام، عن طريق الحبشة ومصر ، حيث عبروا إليه برا من شبه جزيرة سيناءوكانت أرضها متصلة بافريقية شمالا، عند برزخ السويس الذي أصبح اليوم قناة السويس (1)، أو بحرا باجتياز البحر الأحمر الى البر الافريقي الى بلاد الحبشة، لذلك فإن أمازيغ الشمال المغربي منهم الأبيض والأشقر بشأن عرب الشام، بينما نجد من بين أمازيغ الجنوب: الأبيض والأسمر، شأن عرب اليمن الموطن الأول لهم، وقد دأب أمازيغ الجنوب على تشييد دورهم وقصورهم على نفس النمط الذي كان يشيدونها عليه في اليمن قبل نزوحهم عنه، تقليدا لآبائهم وأجدادهم. ثانيا: دليل علم الفراسة: القيافة تأكيد لوحدة النسب بين العرب والبربر عرف العرب القيافة قديما واعتمدوها في إثبات أمور كثيرة من بينها النسب، وفي عهد الرسول صلى الله عليه وسلم حدث أن رزق الصحابي الجليل زيد بن حارثة بولد أسود، هو أسامة بن زيد ، فأثار بعض المغرضين الشك في نسب الولد الى أبيه، لاختلاف لونه عن أبيه الأبيض مما أوغر صدره وأحزنه، وأغم الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي كان يحب والد الغلام »زيد بن حارثة«، ولم يتدخل النبي صلى الله عليه وسلام في الأمر، كما أنه لم يوح اليه في ذلك بشيء، حتى كان الصحابي ذات يوم نائما بالمسجد هو وابنه أسامة، وهما متغطيان بقطيفة، وبقيت أقدامها مكشوفة لم يشملها الغطاء، ودخل المسجد رجل عرف بالقيافة، يقال له »مجزز المدلجي« فنظر إليهما ولم يكن قد عرفهما من قبل وقال: »هذه أقدام بعضها من بعض« فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله سر بذلك وأقره، كما فرح أب الصبي فرحا عظيما، وانجلى الهم والغم عنه، وقد روى البخاري بسند صحيح، عن عائشة رضي الله الله عنها قالت: »إن رسول الله صلى عليه وسلام دخل علي مسرورا تبرق أسارير وجهه فقال: ألم تري أن مجززا نظر آنفا الى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض« 2. وكان اعتماد الرجل في إثبات نسب الولد الى أبيه على الشبه القائم بين أقدامهما أما من حيث تشابه وجوه الأمازيغ مع إخوانهم العرب، فهو دليل آخر على وحدة أصولهم وانتمائهم لنفس الآباء والأجداد، وإثبات النسب عن طريق تشابه الوجوه. والملامح أسلوب علمي موثوق ومعروف، وقد تطور هذا العلم في العصر الحديث، تطورا كبيرا بفضل التكنولوجية الحديثة المستعينة بعلم الجينات وتحليل الحامض النووي، حتى لم يعد أحد يجسر دعاء نسب أو نفيه دون حق أو دليل، خوف افتضاح أمره. ومع ذلك فإن سكوت الأوساط العلمية عن بيان الحقيقة للناس ليدعو الى الريبة والحذر ويوحي بأن وراء الأكمة ما وراءها. والتشابه في ملامح الوجه والأعضاء الذي يكون بين أفراد الاسرة الواحدة أو السلالة أو الجنس أو النوع، دليل قوي على انتساب الأفراد والجماعات بعضهم لبعض، والعلم الحديث نفسه يؤكد ذلك، وإننا لانكاد نختلف عند رؤيتنا الاوروبي على أنه أوربي من ملامح وجهه وأعضاء جسمه، وكذلك الافريقي والصيني والهندي، والعربي من قبائل الأمازيغ وغيرها إذ هم جنس واحد ونوع واحد ودم واحد، وأقدام بعضها من بعض. ثالثا الدليل اللساني على عروبة البربر: الأمازيغ يشتمل اللسان الأمازيغي ضمن ما يشتمل عليه على كلمات لا تزال موجودة في أصل اللسان العربي المنحدرة منه، والمساهمة وفي تكوينه وكذلك في القرآن الكريم من بينها على سبيل المثال: 1 »أقم« بفتح الهمزة وكسر وتشديد القاف وسكون الميم، بمعنى: اجلس، أصله في العربية أقم ، وهو فعل أمر من أقام يقيم بمعنى اسكن، والإقامة والسكن أوسع معنى من الجلوس ومتضمن له، حصره الاستعمال الأمازيغي في الدلالة على الجلوس وهو تطور لساني طبيعي لأن اللغة كأي كائن حي تولد وتنمو وتتطور إذا أتيحت لها ظروف الانتشار والتطور، وتموت إذا تمت محاصرتها والتخلي عن استعمالها، كما أن عبارة أقم من الناحية الصرفية على وزن عربي خالص ، وهو » أفعل« الذي هو الأمر من »أفعل«. 2 »اسقر« بمعنى اسكت، أو اصمت، وهي نفس العبارة المستعملة في اللغة العربية كذلك، » استقر « من فعل »قر« أي هدأ وسكن. قال تعالى »وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الاولى« 3. وهي في لفظها ومعناها الأمازيغي وصرفها فعل أمر، كما هي في العربية كذلك مبني على السكون 3 »اكر« بمعنى : »انهض«، ومثلها في العربية، بمعنى »أقدم« من فعل كر ، يكر قال امرؤ القيس في وصف الفرس: مكر مفر مقبل مدبر معا كجلمود صخر حطه السيل من عل وقال شداد أو عنترة في حثه على الإقدام على قتال العدو المغير عليهم: »كر و أنت حر« عندما اعتذر له عن الكر بقوله: لا أحسن الكر وإنما أحسن الحلب والصر. 4 تدارت، أي الدار وهي نفس العبارة العربية مع زيادة التاء في أولها وآخرها فالدار في العربية اسم مؤنث، لا يحمل تاء التأنيث استثناء، بينما تحملها في الأمازيغية. 5 »أرزم« بمعنى »افتح« وهو لفظ وارد في الاستعمال العربي بمعان كثيرة، من فعل: »رزم« منها جمع وشد، رازم الدار أطال القيام فيها، تركته بالمرتزم، أي ألصقته بالأرض، المرزم: ما يرزم به، كالحبل ونحو، ومعان واستعمالات أخرى، وقد حصره الاستعمال الأمازيغي في معنى: الفتح وهو أصل عربي واضح، يقول معروف الرصافي في وصف مبارة كرة القدم: وتخالها حينا قذيفة مدفع فتمر صائتة لها إرزام 6 « توورت« بمعنى »الباب«، أصلها العربي : »توارى« ، اختفى من فعل »وري« والتورية التغطية أو الإخفاء ، ودور الباب بالنسبة للمبنى تغطية ما بداخله وستره. * دليل مخارج الحروف بالاضافة لما سبق فإن مخارج الحروف العربية هي نفسها المخارج الأمازيغية، ولا يصعب على الأمازيغي التلفظ بأي كلمة عربية أو حرف عربي، بل انه قد يتفوق في إجادة النطق بها حتى على الذي ينعت بأنه عربي خالص، وإذا كانت اللغة العربية تعرف بكونها لغة الضد، فكذلك الشأن بالنسبة للسان الأمازيغي، ينطق الضاد والدال والذال والظاء من غير إشكال، إذن فما الذي يدعو المنكرين لعروبة البربر الى الإصرار على موقفهم، ولماذا يصرون على اعتماد المراجع الأجنبية، المغرضة، واستبعاد المراجع الاسلامية والعربية الموضوعية والبعيدة عن أية شبهة للتقرير في هوية الأمازيغ؟ ولماذا لم تصل الى كافة الأقاليم المغربية تلك المؤلفات عن عروبة البربر؟ ومن بينها كتاب الباحث الليبي (الدكتور غراب) بعنوان: »البربر عرب قدامى« ، هل تم طبعه في نسخ قليلة، أم قامت جهة ما بشراء كل النسخ قصد إخفائه، ولولا الإعلان عن صدوره في بعض الصحف لما سمعنا به قط، إن من يتبنى الرأي الآخر حول هوية البربر، ينبغي أن يحترم رأي نظيره، وأن لا يلجأ الى أساليب تدينها الأعراف العلمية، كما أنه ينبغي ألا يعتمد على التمويل الاجنبي الذي يفرض وصايته على الباحث ويعمل على توجيهه، ولا يضمن تمويله إلا إذا تيقن من مسايرته للوصول الى النتائج التي يرغب فيها، والتي تخدم أهدافه ومقاصده. والخلاصة أن البربر أو الأمازيغ عرب لاشك في عروبتهم، وهذه حقيقة يجهلها كثير من الناس، لضياع علم كان سائدا عند العرب، وهو علم الأنساب، واستمرار غيابه في هذا العصر، ومع تداول مضامينه بين العرب القدامى إلا أنه لم يكن يتعاطاه إلا المؤهلون لتحصيله وإتقانه وضبطه، ولعلم ما تقدم في هذه المقالة من شأنه أن يبين بعض ما أغفل من قضية الهوية الأمازيغية، وللحديث بقية. 1 تم شقها سنة 1854 ميلادية لربط البحر الأحمر بالأبيض المتوسط، لاختصار المسافة وتسهيل الملاحة بين أوروبا والشرق الأقصى 2 فتح الباري بشرح صحيح البخاري، للإمام الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، كتاب الفرائض ج 12 ص 57 باب »القائف« حديث رقم 6770، وسنده: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة رضي الله عنها . 3 الآية 33 من سورة الاحزاب. ""