خلال المدة المتراوحة بين الفاتح والخامس من أكتوبر الجاري، انعقدت بالعاصمة التركية، أنقرة، المناظرة العالمية لتاريخ تركيا، في دورتها الثامنة عشرة منذ انطلاق تنظيمها الدوري كل أربع سنوات، في أوائل ثلاثينيات القرن الماضي (1932)؛ وكان انعقاد أولى هذه المناظرات تحت الرعاية الشخصية المباشرة لمؤسس تركيا الحديثة، مصطفى كمال أتاتورك. ولا غرابة أن تنعقد الجلسة الافتتاحية للدورة الحالية بالمجمع المعماري المسمى أنيت كبير، وهو المجمع الذي يظم ضريح الزعيم المؤسس بالإضافة إلى مرافق مختلفة ضمنها قاعة كبرى للعروض تفوق سعتها ألف شخص. ومما يثير الانتباه أن مسجدا ضخما بأربعة مآذن ينتصب أمام هذه القاعة/المدرج، وهو جزء من المجمع فيما يبدو، ولم يكن قائما خلال أواخر الثمانينيات عندما زرت هذا الضريح أول مرة، وكأن هذا المسجد حديث الإنشاء يرمز إلى تصالح العلمانية الكمالية مع التوجهات الإسلامية المنفتحة لتركيا الألفية الثالثة. ومما أثار الانتباه خلال الجلسة الافتتاحية الكبرى، حضور وازن للسلطات الرسمية، المتمثلة في نائب رئيس الجمهورية، ووزير الثقافة والسياحة بالإضافة إلى عدد كبير من الشخصيات الرسمية، وهذا يدل على الحظوة التي يتمتع بها إلى اليوم البحث في التاريخ التركي لدى السلطة القائمة، وهو ما تجسد في الرعاية الخاصة التي حرص الرئيس التركي على تخصيصها لما يحيط بالمناظرة على الصعيد اللوجستيكي من نزل ونقل وتغذية وعناية فائقة. توالت الخطب في الجلسة الافتتاحية وكان لافتا أن ركز الأستاذ رفيق تران، رئيس مؤسسة الدراسات التاريخية التركية، وهي الهيئة المنظمة، على أن التاريخ أساسي لكل هوية قومية ولكل شعب يريد السير قدما في حاضره ومستقبله بالارتكاز على معرفة متينة لتاريخه، وهذا التاريخ لا يصنعه سوى رجال السياسة الأفذاذ مثل أتاتورك أو الطيب إردوغان. وقد سارت الكلمات المتتالية في نفس الاتجاه. بدا لي أن أشرك بعض القراء ولاسيما من جمهرة الباحثين المغاربة في التاريخ والعلوم الاجتماعية عامة في بعض الانطباعات الشخصية التي لا تدعي أكثر من حجمها، ولعل تسجيل هذه الملاحظات يحيل أيضا على المستوى المتقدم الذي حققته تركيا في عدد من المجالات الأخرى بدءا بهذا المستوى في البحث في كل ما يتعلق بالتاريخ التركي، وتاريخ العوالم التركية الفسيحة خارج الجمهورية التركية بالذات. ولربما يكون في هذه الانطباعات نسمة من الإعجاب الممزوج بالمرارة، وإنما يرجع ذلك إلى المقارنة التي تستبد بالمشارك في هذه التظاهرة الضخمة بين الاحتفاء الكبير بتاريخ تركيا والإهمال الذي يعانيه المعهد الذي كان من المفروض أن يلعب نفس الدور بالمغرب وهو المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب. من حيث الأعداد، شارك في هذه المناظرة ما يفوق 700 باحث وباحثة من مختلف أصقاع العالم، ولكن المشاركة الأقوى، فضلا عن الحضور التركي المكثف الوازن، جاءت من العوالم التركية بآسيا الوسطى وبلاد البلقان بالإضافة إلى حضور باهت من العراق والأردن ولبنان والمغرب وتغيب غير مفهوم لكل من مصر وليبيا وتونس والجزائر على الرغم من ماضي هذه البلدان ضمن الدولة العثمانية وتوفرها على معاهد للدراسات العثمانية والتركية وكونها حرصت على استنساخ ما يهم تاريخها من أرشيفات الحقبة العثمانية. فهل يعود ذلك للمنظمين أم لمؤرخي البلدان المذكورة أم للأوضاع السائدة في عدد من هذه البلدان مثل سوريا واليمن وليبيا؟ وبهذا الخصوص، وعلى غير المنتظر، تعتبر البعثة المغربية – على الرغم من كون المغرب لم يخضع للسيطرة العثمانية – من أكبر الوفود العربية، بما أنها ضمت ثلاثة أكاديميين بينما لم تتجاوز معظم المشاركات العربية القليلة الأخرى، باستثناء العراق، الفرد الواحد أو الفردين. وعلى العكس من ذلك، فإلى جانب الحضور القوي للباحثات والباحثين الأتراك، فإن دولا حديثة كانت في الماضي العثماني جزءا من الدولة العلية خلال مدة طالت أو قصرت بحسب الظروف - ومنها على وجه الخصوص، البلدان الناشئة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، كأزربايجان وكرغيستان وكزاخستان وأوزبكستان، فضلا عن داغستان الموجود حاليا ضمن أراضي روسيا الاتحادية-، مثلت أقوى الأعداد ضمن الوفود الأجنبية المشاركة. كما كان حضور بلدان أخرى تنتمي إلى البلقان مثل صربيا وألبانيا مهما يذكر بالماضي العثماني لهذه المناطق، بل إن بلدانا نائية كالهند سجلت حضورا رمزيا بهذه المناظرة. أما، بالنسبة للبلدان الغربية كألمانيا وانجلترا وفرنسا فإن حضورها كاد أن يكون منعدما (الباحث الفرنسي الوحيد المبرمج لم يحضر في الأخير) وهو ما لا يعكس بالمرة حيوية وقوة مراكز البحث والدراسات العثمانية والتركية بالبلدان المذكورة. وهنا أيضا يطرح السؤال هل يعود الأمر إلى اختيار المؤسسة المنظمة أم إلى عزوف الباحثين الغربيين عن الحضور في مناظرة تنظمها هذه المؤسسة.... ولعل تركيبة الأصول الجغرافية للمشاركين في المناظرة تشير إلى التوجهات التركية الراهنة نحو البلدان الناطقة بالتركية وفي ذلك إلى حد ما إحياء للحركة التورانية التي كانت تركز في أوائل القرن الماضي على الأخوة التركية بالتأكيد على المشترك اللساني والثقافي التركي العام. لكن هذه التركيبة هل تدل من جهة ثانية على إهمال البلاد العربية التي نالت في وقت من الأوقات كامل الاهتمام من لدن البحث التركي؟ ليس هذا من المؤكد إذ لكي نتبنى مثل هذا التقرير ينبغي أن يكون لدينا إلمام ولو تقريبي بمجموع الندوات والمؤتمرات التي تعقدها مئات الجامعات عبر التراب التركي وهو ما لا يتاح في الشروط الراهنة.. ولعل تخصص هذه المؤسسة في التاريخ التركي ورمزيتها التاريخية بالنسبة للدولة التركية والهوية الكمالية، هو العامل الأساس في كون التركيز وقع على الباحثين من أصول تركية وتركمانية (يميز الأتراك بين الترك المنتمين إلى الجمهورية التركية بالذات والتوركيك الذين يشتركون معهم الثقافة واللغة التركية ويتوزعون عبر مجموعة من الدول بآسيا الوسطى بالأساس)... على أن هذا التأويل لا يلغي التساؤل المطروح أعلاه حول غياب أو بَهَتُ الحضور بالنسبة لعدد من البلدان العربية. المصدر: كتاب برنامج الندوة 18th Turkish Congress of History، ص 107-133. كان إنشاء مؤسسة الدراسات التاريخية التركية جانبا من الجوانب الأساسية التي راهن عليها مصطفى كمال أتاتورك لترسيخ هوية تركية معتزة بجذورها ومشرئبة لبناء مجد مستقبلها على رصيد أمجاد ماضيها ولو أنه ربط ذلك بالعنصر التركي بدلا من الأمجاد العثمانية. وقد حرص أتاتورك على حضور المناظرتين الأولى (1932) والثانية (1937) حضورا شخصيا لما كان يوليه من أهمية قصوى للبحث التاريخي ولتدريس مادة التاريخ للأجيال الصاعدة في تشكيل شخصيتهم وترسيخ اعتزازهم بهويتهم. هكذا كانت المناظرة الأولى مخصصة للبحث في التاريخ التركي وكان معظم المشاركين فيها من المعلمين الذين أوكل إليهم نشر وتعزيز الأطروحة الرسمية للتاريخ التركي. وقد حظيت أنشطة هذه المؤسسة بعناية خاصة من لدن الرؤساء المتعاقبين عل رئاسة الجمهورية التركية منذ ذلك الوقت التأسيسي إلى اليوم على الرغم التقلبات السياسية المتوالية. ومما يثير الانتباه حقا التنظيم الفائق الدقة لمجريات المناظرة من استقبال المساهمين عند وصولهم إلى مطار أنقرة ونقلهم إلى الأوطيلات الثلاثة المحجوزة لإيوائهم، إلى الترتيبات المضبوطة المتعلقة بالإقامة، ثم النقل اليومي إلى مكان عقد الجلسات إلى الحرص على توزيع مضبوط لحجرات عقد الورشات المتوازية ثم حصص استراحات الشاي إلى وجبات الغذاء والعشاء إلى غير ذلك من المسائل اللوجستية التي لا يمكن الاستهانة بها في نجاح أي تظاهرة علمية من هذا القبيل. أما من حيث التنظيم العلمي، فيكفي الإشارة إلى أن عدد الورشات المتوازية كان مثيرا حقا، إذ أن اليوم الثاني مثلا شهد انعقاد ما لا يقل عن 54 مائدة مستديرة موزعة على 9 قاعات، تحتضن كل قاعة ما لا يقل عن ستة موائد مستديرة خلال اليوم، تتخللها استراحة أو وجبة الغداء بعد كل مائدة مستديرة (كتاب البرنامج المعد للمناظرة تحت عنوان 18th Turkish Congress of History(ص 33-60). وقد خول لكل عرض وقت لا يتعدى 15 دقيقة وكان مديرو الجلسات صارمين بأدب فيما يخص تدبير الزمن لأن كل أنشطة القاعات متزامنة والاستراحة منظمة بالنسبة لكل الجلسات في نفس الوقت. كما أن المداخلات المختلفة تبدأ تقريبا في وقتها أو بتجاوز قليل لكي يتمكن من يرغب في حضور أي منها أن ينظم وقته حسب ما يرغبه. ولعل تدبير الزمن بكل هذه الدقة من سمات التنظيم المتميزة لكل فعاليات هذه المناظرة، وهذا يعطي مضمونا خاصا للفهم التركي الراهن للزمن، وهذه الدقة والضبط والالتزام بالمواعيد باحترام كبير، بما في ذلك انطلاق الحافلة نحو مكان الجلسات، ووقت انطلاق أشغال الوائد المستديرة، كلها من سمات الحداثة التركية. أما من حيث مضامين الجلسات، فإن كتاب البرنامج يحدد في مقدمته المجالات التي تغطيها العروض، وهي عناوين الورشات، وهي كالتالي: "تاريخ وحضارة السلاجقة، تاريخ وحضارة الدولة العثمانية، تاريخ العالم التركي، تاريخ الجمهورية التركية، تاريخ التفافة والحضارات، تاريخ الديانات والطوائف، تاريخ وحضارة روما وبيزنطة، تاريخ العلوم والتكنولوجيا، التاريخ العسكري، التمردات والثورات والانقلابات العسكرية، العلاقات التركة الأرمينية، الإستوغرافيا، تاريخ الجغرافية التاريخية، الهجرة والاستيطان، تاريخ اللغة التركية وآدابها، التاريخ الاقتصادي، الحقوق والدبلوماسية، الأركيولوجيا، تاريخ الفن، تاريخ الأوقاف، المذكرات والتراجم والسير" (نفس المرج، ص 12-13). يبدو من هذه اللائحة أن رغبة المنظمين رمت إلى تغطية الحقول التاريخية الهامة المتعلقة بالتاريخ التركي لكن أيضا تلك المرتبطة بالعوالم التركية فضلا عن الحقول المؤثرة في التاريخ العالمي العام من اقتصاد وثقافة وحضارة بوجه عام. وما من شك في أن مختلف هذه القطاعات عرفت مساهمات مهمة فيها الكثير من التجديد من حيث المعلومات التاريخية. إلا أن هذه الكم من المداخلات لا بد وأن يتضمن بعض المداخلات ذات الأهمية المحدودة كما أن ضغط الزمن ربما لم يترك لبعض المتدخلين الفرصة الكاملة للإدلاء بكامل نتائج أبحاثهم. على أن معظم العروض في عدد من الموائد المستديرة التي تمكنت من الحضور فيها طيلة أيام المناظرة قد أتت بالفوائد الجمة في ميادين أبحاثها، وإن كانت في الغالب تعكف على المعرفة الإيجابية المبنية على الاستعمال المكثف للأرشيف العثماني والتركي الغزير حجما وإفادة. وبين الحين والأخر تصادف ظواهر تذكر بالتاريخ أو المجتمع المغربيين، وقد شد انتباهي في إحدى المداخلات الكيفية التقليدية التي يتم بها الحسم في حجم البحيرات هل هي صغيرة فتكون جبايتها من نصيب السلطة المحلية أم كبيرة فيكون عائدها من نصيب السلطة المركزية. كان المنادي يجهر بالمناداة بأعلى صوته من ساحل البحيرة في اتجاه الساحل الآخر، فإن وصل صوته، تصنف ضمن البحيرات الصغيرة، وإن لم يصل، تصنف ضمن البحيرات الكبرى، وهذه الحذاقة في التحكم في المجال عن طريق المتاح من الوسائل البسيطة، تذكر بطريقة الطست في اعتماد توزيع المياه بكيفية عادلة بين مستعمليها في المناطق المغربية الجنوبية. على أن العديد من المداخلات تعزز ما تم التوصل إليه في دراسات سابقة من كون الدولة العثمانية تتميز عن مثيلتها المغربية ببيروقراطيتها المكثفة واعتمادها على المكتوب ولجوئها إلى المأسسة كلما تسنى لها الأمر. وفي هذا الباب استوقفني عرض خصص لظاهرة "المتسلم" بمنطقة أدانة، ووظيفة المتسلم وظيفة نيابية عن الوالي أو أي مسؤول على صعيد الإدارة المحلية. فبمجرد تعيينه كان عليه أن يعين بدوره "متسلما" رسميا يخبر به المركز كتابة ويخوله كل مسؤولياته كلما دعاه داع إلى مغادرة مقاطعة مسؤوليته. وبالمقارنة مع المغرب، فإن مثل هذه الوظيفة وجدت، ولكنها لم تكن أبدا ممأسسة، إذ لم يطلب من المسؤول الإخبار باختياره، بل كان نائبه في الغالب هو أخاه أو ابنه ولا نعثر على وجود هذه الوظيفة إلا عرضا في معرض حديث النصوص عن القائد أو العامل في غيبته وعن تركه لابنه أو أخيه نائبا له، أو بعثه محله إلى الحضور في مراسيم الهدية بالبلاط السلطاني إن توجس خيفة من التوجه بنفسه إلى القاعدة المخزنية. ومن الطبيعي في تظاهرة علمية بهذا الحجم أن تتفاوت العروض في مستواها العلمي وأن يتخلف بعض المبرمجين عن الحضور، على أن الظاهرتين ظلتا هامشيتين فيما يبدو. وفيما يخص التاريخ العثماني حيث تابعت معظم الجلسات، فإن الظاهر أن هناك اهتماما متجددا بهذه المرحلة؛ يبدو ذلك في كثافة الحضور للموائد المستديرة الخاصة بالموضوع كما يبدو في نوعية الحضور الذي ضم نسبة كبيرة من الشباب المتطلع إلى اختيار ميادين أبحاثه. ولا بد من التنويه الخاص بالمجهود الذي بذل في مستوى الترجمة من التركية إلى الانجليزية أو العكس، والظاهر أن أغلب المترجمات والمترجمين لهم تكوين خاص في المصطلحات الخاصة بمواضيع الموائد المستديرة بالإضافة إلى احترافيتهم في مجال الترجمة الفورية وهو ما أضفى على النصوص المترجمة فوريا طابعا أكاديميا مفيدا. وما من بأس هنا أن نؤكد أن المنظمين ميزوا الوفد المغربي بأن قبلوا منه دون غيره إلقاء عرضين باللغة العربية على الرغم من أنها لم تكن ضمن اللغات المعتمدة رسميا في المناظرة والتي لم تتجاوز التركية والإنجليزية. والحاصل أن هذه المناظرة، بقدر ما رمت إلى تطوير البحث التاريخي فإنها لم تخف أنها تبتغي لم شتات الشعوب الناطقة بالتركية على اختلاف صيغها، وقد ظهر ذلك جليا عند انعقاد الجلسة الختامية حيث ألحت أكثر من مداخلة على أن تركيا وأزربيجان تمثلان أمة واحدة بدولتن. أما بالنسبة للمغرب، فإن الانطباع السائد هو الاهتمام الخاص بالتجربة المغربية المتفردة؛ وقد لمسنا ذلك عبر أطوار المناظرة كما لمسناه عند رئيس مركز بحث آخر، هو مركز دراسات الشرق الأوسط الذي أسر على اللقاء بنا على الرغم من ضيق الوقت وشدة انشغالاته، وألح على ضرورة عقد اتفاقية للتبادل والعمل المشترك؛ وجاءت الجولة الثقافية التي نظمت ضمن آخر يوم لفعاليات المناظرة متوجة لكل هذه التوجهات بتنظيم زيارات لميدان انطلاق الثورة الكمالية وكذا لضريح الزعيم المؤسس. وبالجملة، فإن المشاركة المغربية حققت المبتغى بتميزها وجودة مداخلاتها. ولا بد في الأخير من التنويه بمجهود المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير التي تعمل على تعميق التعاون التركي المغربي يدا في يد مع السفارة التركية بالمغرب، وهو تعاون لن يعود إلا بالخير على البحث المغربي وربما على مستويات أعمق وأشمل من ذلك. *شعبة التاريخ، كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط