خبر صادم داهمنا مع نهاية شهر سبتمبر الفارط عن احتجاب جريدة "الأنوار" البيروتية التي كانت تصدر عن أعرق دار لنشر الثقافة، والفكر، والعلم، والصحافة، والفنون، والآداب في لبنان، ألا وهي "دار الصيّاد" الشّهيرة التي تأسّست عام 1943 على يد الكاتب والصّحافي اللبناني المعروف الراحل سعيد فريحة. وكان يعمل في هذه الدار صفوة من الكتّاب والمفكرين، والفنانين، والصحافيّين الذين كانوا يُخرِجُون لنا من جوف مطابعها ثمراتٍ ثرّة، وحصاداً هائلاً من الكتب، والمجلات، والصحف، والمنشورات التي طالما غذّت فكر أجيال متعاقبة، وأنعشت أفئدتهم، ووجدانهم، وصقلت عقولهم. كانت تصدر عن هذه الدار تسع مطبوعات، أبرزها جريدة "الأنوار" ومجلة "الشبكة" الفنية التي كانت من المجلات الرّائدة في لبنان. وأخيراً حدث ما لم يكن في الحُسبان. كيف أمكن لهذا الصّرح أن يتداعى نصب أعين الجميع ولا يحرّك أحد من ذوي المال، وصفاء البال، وعلوّ الهمّة والجاه والمآل ساكناً سوى هذا السّيل العارم ممّا رأيناه، وسمعناه، وقرأناه من كلمات العتاب، والحسرة، والألم، والأسف، وأخيراً الصّمت؟. مع احتجاب هذه الصّحيفة نأسف على حال الكلمة الحرّة المكتوبة المكسورة الجناحيْن في هذا العالم العربي الذي نسمّيه اعتباطاً وبهتاناً "الوطن العربي"!..إنه أمرٌ يكاد ألاّ يُصدّق، كأنه حلم مزعج تراءى لنا في جنح ليلٍ بهيم. "الأنوار" ستظلّ اسماً لامعاً، ونجمةً ساطعة في عالم الصحافة والثقافة والإعلام في العالم العربي، فأنوار الفكر والثقافة لا تنطفئ بسهولة ويُسر..! بعد توقف جريدة "السفير" عن الصدور في مطلع العام الحالي 2018، وإقفال جريدة "الأنوار" يتراجع عدد المطبوعات السياسية اليومية التي تصدر في لبنان إلى 10 مطبوعات. وقد حثّت "نقابة محرّري الصحافة" في لبنان المعنييّن في قطاع الإعلام على تنوّع اختصاصاته على "ضرورة التحرّك من أجل إنقاذ الصحافة الورقية وإقالتها من عثرتها، ودعمها مادياً ومعنوياً لأنها جزء لا يتجزأ من تاريخ لبنان، وذاكرته الوطنية والفكرية والأدبية والثقافية، التي قدمت مواكب الشهداء الذين سقوا بدمهم الزكية نبتة الحرية، والتعامل مع هذا الموضوع بما يستحقه من جديّة قصوى، وألا يبقى الدّعم في إطار الكلام الذي لا يقوم على خطة عملية وموضوعية". وكانت "الأنوار" التي واكبنا صدورَها، وأسهمنا فيها بقسطٍ وافر منذ سنوات بعيدة خلت... منبراً ثقافياً رفيعاً، ومناراً أدبياً بديعاً، وواحة فكرية نتفيّأ ظلالها، وكانت أغصانها الفيحاء ترشّ علينا عطرَ الشرق العبق الفوّاح؛ كانت صفحتها "الثقافية" على وجه الخصوص دوحة معرفية وارفة تحنو على قرّائها، وقارئاتها حنوّ المرضعات على الفطيم، تصدّ عنهم قيظ الشمس أنّىَ واجهتهم، فتحجبها وتأذن لهم بالنّسيم، تقيهم لفحة الرّمضاء، وتشفي غليلهم من ظمأ، وعطش، وهيام المتيّمين الوالهين هوىً وصبابةً وعشقاً بالحرف النابض، والكلمة العذبة، والأدب الرّصين، والفكر الخلاّق. كانت صفحة "الأنوار" الثقافية تتميّز بجاذبية سحرية غريبة، فأنت عند زيارتك الأولى لها لا تستطيع منها فكاكاً، تكاد أن يتوازى وَلَعُك بها مع قهوة الصباح عند غسَق الدُجىَ، أو مع شاي الظهيرة، أو مع كأس الطلى عند شفق المساء؛ وهي على غنى مضامينها، وثراء مواضيعها، وتباين حقولها، وتعدّد مشاربها، وتنوّع ينابيعها تجعل بينك وبين الرتابة والملل برزخاً واسعاً، ويمّاً شاسعاً، وتجعل بينك وبين الاستمتاع، والاستغوار، والاستكناه، والاتستبطان، والانغماس في روائع المعرفة والعلوم والعرفان، آصرة هي قاب قوسين منك أو أدنى؛ كانت ملتقى الكتّاب والمثقفين المُجدّدين، ليس في لبنان وحده، بل في مشارق الأرض ومغاربها؛ كانت قبلة للباحثين المستنيرين، ومنبراً للأدباء والمفكرين، وسوقَ عكاظٍ للشّعراء والفنّانين من كل صوب وحدب، وكانت معرضاً حيّاً، وساحة نقدٍ نابض للوحات المبدعين التشكيليين، ومنهلاً لذخائر التراث العربي والإنساني. واسمُ "الأنوار" دالّ علي عمق رسالتها التنويرية الرّفيعة، تألقت بفضل همّة صفوة من خيرة المُبدعين والمُبدعات من فرسان وفارسات اليراع والإبداع، ونخبة من المثقفين والمثقفات الذين واللاّئي بذلوا وبذلن جهوداً مضنية ليخرج علينا ذلك المنبر الثقافي كلّ يوم في تلك الحلّة القشيبة، والهندامٍ البديع. هذا المصباح الذي أشعّت علينا "أنوارُه" منذ 1959، والذي بعد أن شبّ عن الطوق واستوى واقفاً مُشرئباً وأصبح قويّ العود ساهراً مثابراً، وبعد أن تجاوز غيرَ قليلٍ من الصّعاب والعقبات، التي كانت تواجه مشروعه الصحافي، والإعلامي، والثقافي الطموح، وبعد أن تبوّأ مكانة مرموقة في الساحة العربية، بعد كلّ ذلك جاءته الضّربة اللاّزبة من الأقربين، وضربة الأقربين هي أشدّ إيلاماً ومضاضةً على النّفس من وقع الحُسَام المُهنّد.! "نقابة محرّري الصحافة" في لبنان تأسّفت لقرار التوقف، معتبرة أنّ توقف مطبوعات "دار الصيّاد" عن الصدور بعد القرار المتخذ من أصحاب الدار بإغلاقها تباعاً حتى الاحتجاب النهائي، "نبأ صادم للأسرة الصحافية والإعلامية في لبنان والعالم العربي". وتخشى النقابة أن تلقىَ هذه الدار العريقة مثل هذا المصير، خصوصاً أن نتائج هذا القرار ستكون قاسية جداً على عشرات الزملاء والعاملين فيها الذين سينقطع مورد رزقهم، ويدخلون نادي العاطلين عن العمل. وترى النقابة أنّ "ما حلّ بدار الصياد وبمؤسّساتها الصحافية والإعلامية يعكس مدى إهمال الدولة لقطاع الصحافة الورقية، وبقاء مشروعات الدعم التي وعد المسؤولون المعنيّون بتحقيقها شعاراً فارغاً من أيّ مضمون يلجؤون إليه في بعض المناسبات، من دون الإقدام على أيّ خطوة عملية". تحيّة حارّة أيتها "الأنوار"، ونأسف من جانبنا كذلك أسفاً شديداً عن الأخبار المُزعجة التي انتهت إلى علمنا، كما نأسف عن الظروف الصّعبة التي شاءت الأقدار أن تواجه هذه الصحيفة الغرّاء، ولا غرو، ولا عجب فهذا حال عالمنا العربي، وهذا حال ما يحدث فيه من غرائب، وعجائب؛ فكم من تجربة رائدة، ومبادرة ناجحة سدّوا عليها الخناق بلا شفقة ولا رحمة واغتالوا فيها "الحرفَ" النقيّ الذي كانت ترعاه. إنهم بعدم مساندة ودعم هذا المنبر الصحافي والإعلامي والثقافي الرّصين وأمثاله إنما هم يكتمون أنفاسَ المثقفين، ويحبطون رغبتهم في مواصلة الخلْق والعطاء، بعد أن أصبحت الكتابة عندهم في هذا الزّمن الرديء المِعول والمِنجل اللذين تحملهما أيديهم بالكاد. شكراً أيتها "الأنوار"، شكراً لكتّابكِ، ومثقفيكِ، ونقّادك، وشعرائك، وعمّالك، وسائر أفراد طاقمك الذين داوموا على العمل والكتابة في فضائك التنويري المضيء، حيث كانت حبّ الكلمة الجميلة الحرّة الهادفة الملتزمة ديدنهم، وكان الانفتاح والتسامح والإخاء هدفهم . هذه النافذة الثقافية الكبرى المُشرعة كنّا نطلّ من خلال شرفاتها الفسيحة على لبنان الجميل وعلى كلّ بديع رائع، في عالم الخلق والعطاء، والفنون، والإبداع – قرّاءً، وكتّاباً، وشعراء، وفنّانين، ومبدعين- حدائق غنّاء، وبساتين باسقة تغصّ بباقات، ومزهريّات تتألق، وتتأنّق، وتينع وتزدهي بكل صنوف الأزهار النّضرة، والورود الناعمة في رقة وأناقة، ورونق وبهاء. وأغتنم هذه السّانحة - على الرغم من مرارتها- لأزجي خالصَ الشّكر، وعميق الامتنان والعِرفان للأديب الألمعيّ، عراب الثقافة الحرّة الصّافية الموفية الهادفة في لبنان وفي مختلف أرجاء العالم العربي، الصّديق الكبير، والإنسان الطيّب، الأستاذ جورج طرابلسي الذي أشرف على الصّفحة الثقافية بهذه الجريدة بألمعيّة فائقة. آهٍ..ثمّ آهٍ على هذا العالم العربي المُمزّق الأشلاء، والمُشتّت الفكر الذي قيّضَ لنا الجَدُّ العاثرُ، والحَظُّ الغادرُ أن نعيش في كنفه، والذي إنْ لم نجد فيه مَنْ يدعم أو ينقذ مثل هذه المنابر الصّحافية والثقافية التي تتهاوى أمام أنظارنا فسلامٌ عليه، وسلامٌ على الكلمة الحرّة فيه إلى يوم يُبعثون..!. * عضو الأكاديميّة الإسبانيّة - الأمريكيّة للآداب والعلوم - بوغوطا- كولومبيا.