أكيد أن الجميع لاحظ فراغ القاعة ساعة إلقاء رئيس الحكومة كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة. الحضور الضئيل يترجم الوزن الحقيقي لبلادنا في الساحة الدولية. الوعي بأننا دولة ضعيفة ومتخلفة قد يكون بداية لنقد ذاتي يدشنه القيمون على شؤون البلاد؛ وكذا كل النخب السياسية والثقافية لمحاولة رسم معالم طريق جديدة علها تخرجنا من المستنقع الذي نتواجد فيه حاليا. الغاية من هذا المقال إذن هي تسطير خطوط أرسمها "من بعيد لبعيد" علها تفتح نقاشا رصينا وجادا بين من يحبون هذا الوطن ويؤمنون بقدراته. أستسمح من لن يعجبهم كلامي وأدعوهم إلى فهم أن ما أحاوله هنا هو تنبيه إلى مكان حريق هم أدرى بطريقة إخماده. أعرف أن الصمت أسلم لمن في وضعي، ولكن هناك أمور يجب أن تقال ولو كانت مزعجة. تصنيفنا المتخلف عالميا وفي كل الأصعدة يجب أن ينبهنا إلى أن كل الترقيعات التكتيكية التي تهدف إلى البقاء في السلطة، وتكريس هيمنة أقلية تدافع عن مصالحها الضيقة فقط، لم تعد مجدية في عالم لا يرحم الدول الضعيفة. إننا نجني ثمار اختيارات خاطئة لم تستوعب أن أي خطوة إلى الأمام تحتاج إلى عنصر بشري متطور، وأن ما قام به أصحاب السلطة وبإتقان إلى اليوم لم يتعد عملية تجميل مستمرة هاجسها إقناع الآخرين، غير المغاربة، بأننا دولة مستقرة وآمنة..الخ من الأسطوانة إياها. ولما لم يكن بالإمكان تسويق هذه الصورة المغلوطة بدون إسكات كل صوت مخالف فإن ما يمكن نعتها ب"الدولة العميقة" برعت في إنتاج كل الأساليب الكفيلة بضمان استمرار خطابها الدعائي إلى ما لا نهاية. ولكن ها هو حبل هذا الخطاب يتشظى أمام أرقام جافة لا تعرف الرحمة. أرقام يجب أن نخجل منها جميعا "من الراس حتى للساس"؛ على أن يتحمل مسؤوليتها الكبرى من يدير زمام هذه الدولة. لنحلل تاريخنا الحديث وسنجد أن ساسة المغرب منذ الاستقلال اعتمدوا دائما على تكتيكات آنية غايتها تفريغ أي بناء مؤسساتي من محتواه، لتبقى مؤسسة واحدة منها المنبع وإليها المصير. هذا التصور الذي قد يكون له ما يبرره في زمن من الأزمنة لم يعد صالحا اليوم. لذا يتحتم على أصحاب القرار أن ينطلقوا في بناء إستراتيجية ناجعة تأخذ بعين الاعتبار بعض البديهيات: - كل الأحزاب السياسية فقدت زخمها، فلم يعد بإمكانها لعب أي دور كيفما كان نوعه. وهذا أخطر ما يمكن أن تعيشه أي ديمقراطية (ولو كانت صورية كما هو الحال عندنا). تسيير الدولة بدون قيادات سياسية مؤثرة يعني ترك القصر بدون وسيط “كايلقى الصهد” على المؤسسة الملكية في اللحظات الحرجة. - الإيمان بأن كل الحلول تمر عبر تكميم الأفواه وبتغليب الجانب الأمني ووضع المحتجين في السجون وبأحكام قاسية، لكي يعتبر أولي الألباب الخ، هو دليل قاطع على قلة حيلة من بيدهم الأمر، وكذا وهن المنظومة السياسية التي يشرفون عليها. - تكريس واقع لا يضع التعليم كأولى الأولويات، سواء بشكل مقصود أم لا، يعني انعداما تاما لحد أدنى من الوعي بخطورة اللحظة التاريخية. الدول أصبحت في عالمنا المعاصر كالشركات: بدون عنصر بشري مؤهل وبشكل جيد فإن الإفلاس هو المآل. لذا يجب إنقاذ التعليم أولا من السجالات العقيمة التي لا جدوى منها: اللغة العربية أم الدارجة؟ إصلاح هذا القطاع الحيوي في بلادنا يحتاج إلى ثورة بنيوية تنطلق من تأهيل جيد للأطر التربوية وتوفير المدارس الكافية وبالمجان. هذه العملية تحتاج إلى استثمار مالي ضخم ومتابعة مستمرة لتقييم النتائج. في العالم هناك العديد من التجارب التي يمكن استلهامها: سنغافورة مثلا استطاعت بمنهاجها الدراسي أن تعبر جسر التخلف في خمسين سنة لتصبح من أكثر الدول رقيا في العالم بأسره. البرتغال ورغم الأزمة الاقتصادية الخانقة التي ضربتها خلال السنوات العشر الأخيرة فإنها استثمرت في التعليم ليصبح نظامها التربوي نموذجا يقتدى به في أوروبا بأسرها. هذا هو التحدي الحقيقي الذي يمكن أن يجمعنا: لننسى اختلافاتنا الإيديولوجية ونتفرغ جميعا، كل حسب طاقته، لبناء مواطن مؤهل لمواجهة الواقع الراهن، وهو واقع لا يرحم المتخلفين. عودة الهجرة إلى الخارج وبكثافة، إذ الشباب يفر من بلاده كمن يفر من الجحيم، هو دليل آخر على الفشل الذي لا يمكن لأدوات الإعلام الرسمي إخفاؤه مهما عمدت إلى عمليات غسيل الدماغ اليومية عبر نشراتها المقرفة. صور هؤلاء الشباب وهم في طريقهم نحو فردوس، موجود في أذهانهم فقط، يكلم الأفئدة؛ يستعملون هواتفهم ليؤرخوا لحظة هروبهم وهم في عرض البحر بابتساماتهم البريئة..لقطات سريعة تلخص درجات اليأس من مستقبل بلد فقد الشيء الوحيد الذي لا يمكن لأي مجتمع أن يفقده: الأمل. أسيادنا..إن الوضع من هنا يبدو قاتما جدا. لقد انتهى زمن الماكياج. التركيبة نفسها ستعطي النتائج نفسها، وهي نتائج، كما ترون، مزرية؛ فهل من تصور لحل جذري وسريع؟ أم حتى أنتم فقدتم الأمل؟. *إعلامي مغربي بإيطاليا