كثيرا ما يُتعِب البعضُ أنفسهم كي يبرهنوا لنا أن اللغات العامية المغربية (الدوارج) لغات مستقلة بذاتها، وتجمع بين معجم اللغة العربية الفصحى في معظم مفرداتها، وبين قواعد الأمازيغيات في بنيتها وصرفها ونحوها، محاولين حشد الكثير من الأمثلة والنماذج لتأكيد ذلك، ومعتقدين أن هذا المسلك يعتبر كافيا لجعل الدّوارج العامية المغربية خصما عنيدا للغة العربية الفصحى؛ ومن ثمة درعا للدفاع عن الأمازيغية، ناسين أو متناسين وجاهلين أو متجاهلين، ألا الدّوارج العربية ولا الأمازيغيات يمكن أن تشكل خصما للعربية العالمة؛ لسبب بسيط هو أنّ الأدوار والمهام موزعة ومتكاملة في ما بينها، كما تقتضي ذلك صيرورة التطوّر في المجتمع والدولة، منذ العصر الوسيط، إذ الدّوارج العامية والأمازيغيات تقوم بوظائفها في المؤسسات الطبيعية والبنيات التحتية للمجتمع، كاللغات الأم للتواصل في الأسرة والبيت والقبيلة والشارع وفي العمل في مستوياته التي لا تحتاج المعارف العلمية التجريدية والقدرات الذهنية والمهارات التقنية المعقدة، والعربية العالمة (الفصحى) تقوم بدورها كلغة للتواصل في كلّ ما هو مؤسساتي ورسمي مرتبط بالدّولة، كالمدرسة والتربية والتعليم والعلم، وكلغة السياسة، ما أهّلها لتصير لغة إمبراطورية(langue impériale). فلا الدّواراج العامية والأمازيغيات تستطيع القيام بدور ووظيفة العربية العالمة (الفصحى)، ولا هذه الأخيرة يمكنها القيام بمهام لغات الأم والبيت والقبيلة. وعليه فالدّوارج العامية العربية هي التي تشكل خطرا على الأمازيغيات الشفوية، وليس العربية الفصحى في حد ذاتها، على اعتبار أن هذه الأخيرة تؤدي دورها وتنجز مهامها، في مجالات وفضاءات: المدرسة والتعليم والدولة والدين والإدارة، التي لم يسبق للأمازيغيات أن كان لها وجود تاريخي فيها، في وقت تشغل الدوارج العامية العربية الأدوار نفسها، وتقوم بنفس مهام الأمازيغيات، كلغات للأم والأسرة والقبيلة والشارع والعمل اليدوي؛ وبالتالي تزاحمها في الفضاءات والمجالات نفسها (مهام لغة الأم وأدوار لغة الشارع والعمل). ولذلك فالتعريب "الدارج" هو الذي يشكل خطرا على الأمازيغيات على المدى القريب والمتوسط وليس التعريب "الفصيح". سنحاول أن نقارب هذا الموضوع من وجهة نظر سوسيولسنية، وتاريخية، من خلال إبراز تطور العلاقات بين الأمازيغيات من جهة والعربية الفصحى من جهة ثانية، وكيف نشأت الدّوارج العامية من جهة ثانية، وسنبين بشكل مقتضب كيف تشكلت أضلاع هذا المثلث اللسني المؤطر لمعظم لوضع اللغوي بالمغرب. 1- في تعلُّمِ العربية ونشأة الدّوارج العامية المغربية: إن الدّاورج المغربية، كلغات مستقلة كما يحلو للبعض أن يراها، وباعتبارها حقلا لسانيا يعكس التفاعل بين الأمازيغيات والعربيات الشفوية، تشارك فيه ببنيتها التركيبية وقواعدها الصرفية والنحوية، من جهة، وبين اللغة العربية الفصحى، التي تساهم بمفردات معجمها من جهة ثانية، هو بمثابة مجال لسني حيوي بالنسبة للغة العربية الفصحى، ويخدمها ولا يخدم نهائيا الأمازيغيات الشفوية. فالدوارج العربية العامية هي كذلك بمثابة الخطوة الأولى والمرحلة الابتدائية للأمازيغ نحو تعلُّم اللغة العربية الفصحى، وليس قطعا ونهائيا مرحلة أولى للعرب الناطقين بالعربية الفصحى لتعلُّم الأمازيغيات؛ لأنّ المسار الطبيعي لتعلّم اللغات في كل بلاد العالم وعبر التاريخ، سواء على مستوى الأفراد أو على مستوى الجماعات، إنمّا يبدأ بتعلّم مفردات اللغة الأجنبية كمرحلة أولى ثم يأتي تعلّم تراكيبها وقواعدها الصرفية والنحوية كمرحلة ثانية، فتعلّم اللغات لا يبدأ بقواعدها النحوية والصرفية وتراكيبها البنيوية، ثم يأتي تعلم معجمها، وإنما يبدأ تعلم اللغات بمعرفة مفردات معجم اللغة الأجنبية كمرحلة أولى، فيأتي تعلم قواعد اللغة في المرحلة الثانية، وهذا ما حدث عند احتكاك الأمازيغ بالعرب، منذ النصف الثاني من القرن1ه/ 7م، وطيلة القرون الستة الهجرية الأولى، إذ تشكلت الدّوارج العربية العامية بالمغرب من المعجم العربي الفصيح والقواعد الصرفية والنحوية والبنية التركيبية للأمازيغيات، لأن أول ما أخذه الأمازيغ من العربية الفصحى هو معجمها الذي يوظفونه في حديثهم بالقواعد النحوية والصرفية للأمازيغيات. ويحدث هذا كثيرا على مستوى تعلُّم الأفراد للغات الأجنبية، فيقع أن نسمع إنسانا في بداية تعلّمه للغة أجنبية معينة أن يتحدث بمفرداتها، ولكن بالقواعد الصرفية والنحوية للغته الأصلية. وهذا ما وقع للأمازيغ في بداية مسار تعلُّمهم للغة العربية، ففي المرحلة الأولى بدؤوا بتعلّم معجمها، الذي يوظفونه بالقواعد الصرفية والنحوية وتراكيب لغاتهم الأمازيغية، فظهرت الدّوارج العامية المغربية الحالية. أما المرحلة الثانية من تعلم العربية الفصحى المتمثل في تعلم قواعدها واستيعابها بنيتها التركيبية، والذي يعني التعريب الشامل والكامل، فلا يتم إلا بشكل مؤسساتي في المدرسة، خاصة أن العربية الفصحى هي لغة مؤسسات، لغة مدرسة ودولة وأمة، وليست لغة أم وأسرة. 2 - في كون نشأة الدّوارج العامّية مرحلة أولى في التعريب: عادي جدّا أن يكون معجم الدّارجات العامية المغربية عربيا في ألفاظه، أي في المظهر الخارجي للغة، وتكون البنية التركيبية والنحوية والصرفية، أي الجانب الخفي من اللغة؛ فذلك يعكس الوضع والمسار الطبيعيين في تعلُّمِ الأفراد والجماعات للغات الأجنبية؛ فنشأة الدّوارج العربية العامية آلية لسنية (لغوية) رئيسية في تعريب الأمازيغ، وخطوة أولى وميسِّرة لتعلّم العربية الفصحى؛ وتعلّم مفردات لغة ما أيسر بكثير من تعلّم قواعدها التركيبية الخفية، ومعرفة مفردات معجم لغة ما أسبق دائما على تعلم قواعدها، ومن ثمة فتعلُّم الإنسان المغربي عموما والأمازيغي خصوصا للعربيات الدّارجة، خاصة في المرحلة الأمية، أي كلغة أم شفوية، هو بمثابة قطع نصف الطريق نحو التعريب الشامل في المرحلة الثانية من عمره عندما يلتحق بالمدرسة، وعندما يتوفر على القدرات الذهنية والمعرفية لتعلّم واستيعاب قواعد اللغة العربية الفصحى، أي الشق الأصعب والخفي من اللغة. وطبيعي أن يبدأ التعريب بالمعجم، لأنّه هو الأسهل والأيسر في تعلّم أي لغة وكمرحلة أولى في تعلُّم اللغة شعبيا واجتماعيا (الأسرة - الشارع - العمل..) لإعداد الإنسان للقبول بالتعريب الكامل والشامل مؤسساتيا ورسميا في المدرسة والدّولة، إذ يتعلم الإنسان قواعد اللغة، وهي الجانب الصعب والخفي من اللغة . ومن ثمة فالدّوارج العامّية المغربية تعكس سعي الأمازيغ تاريخيا إلى تعلم اللغة العربية الفصحى، بتعلم مفردات معجمها، ولا يعكس أي محاولة للعرب لتعلم الأمازيغيات، وهذا ما يمكن ملامسته في الواقع المعيش حاليا، إذ لا يقوم الإنسان الناطق بالعربية بأي محاولة لتعلم الأمازيغيات، حتى وإن كان يعيش وسط الأمازيغ، فهم الذي يبذلون الجهد للحديث والتواصل معه بالعربية، والعكس صحيح؛ فالإنسان الأمازيغي، إذا عاش وسط العرب، يتعلم الحديث بالعربية في أسرع وقت ممكن. ولو كان للأمازيغيات الشفوية تاريخيا لغة عالمة ممعيرة موحّدة وتراث مكتوب، وسعى العرب إلى تعلّمها، لنشأت في المغرب دوارج عامية معجمها سيكون أمازيغيا، وقواعدها الصرفية والنحوية وبنيتها التركيبية ستكون عربية. ومن المحتمل أن يكون شمال إفريقيا عرف قديما في مرحلة الهيمنة البونيقية (الفينيقية-القرطاجية) واللاتينية (الرومانية – البيزنطية) بوادر نشأة دوارج عامّية، قائمة على مفردات معجمي البونيقية واللاتينية، والقواعد التركيبية والصرفية والنحوية للأمازيغيات. 3- في زحف التعريب في ركاب التدريج إن "التعريب" الذي عانى منه الأمازيغ تاريخيا ولازالوا يعانون منه إلى اليوم ليس التعريب المباشر للعربية الفصحى، لأنّ هذا النمط من التعريب لا يمكن أن يكون إلا مؤسساتيا رسميا في المدرسة وباقي مؤسسات الدّولة، ولذلك فهو لا يزاحم الأمازيغيات ولا ينافسها في شيء؛ فالعرب الأوائل الذين غزوا شمال إفريقيا عموما والمغرب خصوصا، والذين ارتبط دخول اللغة العربية الفصحى إلى المغرب بهم، كانوا عبارة عن جيوش قبلية سرعان ما عبروا إلى الأندلس بعد استكمال مهم الفتح، أو قفلوا راجعين إلى المشرق، تاركين مهمة استتباب الأمن لأمازيغ زناتة الذين أسلموا مبكرا، وتاركين مجموعة محدودة من الفقهاء والدعاة والوعاظ المستقرين بالمراكز الحضرية المعدودة بالمغرب، الذين يعلمون العربية الفصحى للناس في إطار الدعوة إلى الإسلام، وكان تأثيرهم بالتعريب الفصيح على الأمازيغيات الشفوية محدودا جدا. إنما تعاني الأمازيغيات الشفوية من التعريب "الدارج" الذي يزحف عليها مجاليا، في السهل والجبل والفيافي والصحراء وفي المدن والقرى، ويبتلعها بشريا، بتعريب الأمازيغ الوافدين على المدن هجرة من القرى والبوادي. انطلق التعريب الدّارج مجاليا منذ عهد الدولة الموحّدية الأمازيغية المصمودية، عندما قام سلاطين هذه الدولة بإبادة ساكنة السهول الأطلسية (الغرب (أزاغار)- زعير والشاوية (تامسنا) – دكالة..) الأمازيغ، في إطار عملية "الاعتراف" التي قادها السلطان عبد المومن بن علي، فأفرغ هذه السهول من ديموغرافيتها المصمودية، وأسكن فيها بطون عرب بني هلال وبني سليم؛ وواصل حفيده يعقوب المنصور النهج نفسه باستقدام عرب بني هلال وإسكانهم في تلك السهول، ليمتد استيطان هذه القبائل إلى سهول سايس وتادلة بعد ذلك. وأنجز أمازيغ بنو مرين الزناتيين المرحلة الثانية باستقدام بطون عرب المعقل، وإقطاعهم هضاب الشمال الشرقي وسهوب الصحراء وجزءا من حوز مراكش وجزءا من سهل سوس، لينجز الشرفاء السعديون والعلويون الفصل الأخير من التعريب المجالي الدّارج ب"حْرْكاتِهم" العسكرية في مطاردة القبائل الأمازيغية "السائبة" وترحيلها من مكان إلى آخر. أما بخصوص التعريب الدّارج بشريا فالأمازيغيات منذ القرن 16م تحولت إلى لغات قروية وطردت من المدن، ومنذ الاستقلال شرع التعريب "الدارج" يزحف عليها في معاقلها بالقرى والأرياف. وتسارعت وتيرة هذا التعريب "الدارج" في المغرب خلال الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي بفعل قوة الهجرة القروية إلى المدن خلال تلك العقود، ما جعل الجيل الثاني من أبناء هؤلاء المهاجرين "معرّبين دارجيّا"، بشكل شبه كلّي، إذ سارت "العربية الدارجة" في ركاب التمدين؛ فبقدر ما تتمدن العديد من المناطق والساكنة الأمازيغية بقدر ما تتعرب "دارجيا" وتدريجيا، وبقدر ما تزداد الهجرة القروية من العالم القروي، بقدر ما يتعرب المهاجرون منه تعريبا "دارجا". 4- في الإعاقة التاريخية للأمازيغيات: وكون العربية الفصحى مرتبطة بالكتب وكل ما له علاقة بالكتابة والمدرسة والدّولة والأمة هو مصدر قوتها، لأن "اللغات العربية" (الفصحى ودارجاتها) إن صح التعبير، حسمت في توزيعها للأدوار وتقسيم العمل في ما بينها، منذ أن نزل القرآن بعربية قريش في القرن 6م، إذ تكفلت اللغة العربية القريشية (الفصحى) بالتواصل كتابة وتعليما ومدرسة وإدارة دولة، فارتقت فصارت لغة أمة ودولة ومدينة وتجارة. وتولت الدّوارج العربية الشفوية المختلفة مهمة التواصل في فضاءات الأسرة والعمل والقبيلة، وتؤدي وظيفة "لغة الأم". إن انحصار وانحسار الأمازيغيات في الشفوي (الأسرة - القبيلة – العمل اليدوي الملموس..)، واكتفاءها بدور "لغة الأم" هو مصدر ضعفها، ولم تستطع، أو بالأحرى، لم تتح لها الفرصة تاريخيا، منذ أن وطئت أرجل الفينيقيين سواحل شمال إفريقيا في القرن 12 ق م، كي تتطور وتُكْتَب وتتوفّر على أبجديتها وتقعد، لترتقي إلى لغة المدرسة والتجارة والمدينة والدولة والأمة؛ فتاريخيا لم يسبق لها أن توفرت على الدولة والكتابة والأبجدية والمدرسة، وحتى في المرحلة التاريخية الاستثنائية التي أسس فيها الأمازيغ بعض ممالكهم، خلال المرحلة الانتقالية من الهيمنة القرطاجية إلى السيطرة الرومانية (من القرن 2 ق م إلى القرن5 م)، كانت هذه الممالك وملوكها تحت الهيمنة السياسية والثقافية والحضارية للقرطاجيين والرومان، فكانت لغات وأبجديات هؤلاء (القرطاجيون والرومان) هي التي وظفت في تدبير الدولة وفي الدين والتعليم والمدرسة. وبقيت الأمازيغيات في فضاءات الأسرة والقبيلة والعمل. هناك بعض المسلمات لدى المؤرخين للكتابة ينطلقون منها، وعليها يقومون ببناء تحليلاتهم واستنتاجاتهم، ومنها أن اكتشاف الكتابة في تاريخ البشرية لم ينزل على المجتمعات البشرية وحيا من السماء، وإنما كان نتيجة صيرورة تاريخية طويلة من التحولات؛ ولخصوا تلك الصيرورة في ثلاث مراحل أساسية: أ-مرحلة الرموز السحرية أو الكتابة الدينية، إذ الرموز تعبير عن علاقة تربط الإنسان بالغيب (الكتابة التصويرية أو التجسيمية). هذه الرموز والصور ينحصر استعمالها في فرد واحد أو بضعة أفراد، وفي أحسن الأحوال أسرة ممتدة أو قبيلة. هذه الرموز (السحرية الدينية) توظف للتواصل مع عالم الغيب وليست للتواصل بين البشر. وهذا النمط من الرسوم (الكتابة) مورس في الكهوف والمغارات والجبال، وفي مجتمعات بدائية تعيش على التنقل والترحال بحثا عن الغداء بالقنص والصيد والالتقاط، وتعود إلى أواخر العصر الحجري الأعلى. ب - الكتابة التجارية: استعملت رموز في التواصل التجاري، وهذه ظهرت في المجتمعات المستقرة، إذ ظهرت الملكية لوسائل الإنتاج والزراعة والتدجين. ظهر هذا النمط من الكتابة في مجتمعات حققت فائضا في الإنتاج، وقامت بصرفه بالتبادل، فظهرت الأسواق بين القبائل، وتأسست المدن، وتوسع نطاق التواصل ليتجاوز القبيلة الوحيدة إلى القبائل المتعددة التي تتواصل في الأسواق والمدن، فاتخذت لنفسها لغة جامعة للتوصل ورموزا مشتركة للتفاهم كتابة. ويدل كل رمز أو صورة على الشيء أو السلعة التي يمثلها، فانتقلت رموز الكتابة وصورها من التواصل مع القوى الغيبية إلى رموز وصور للتواصل بين البشر. ج - الكتابة الأدبية: بعد تحسّن الإنتاج ارتفع الفائض منه، وتحسنت المعيشة وارتفع عدد السكان، فتطورت التجارة وتوسّعت الأسواق، ثم ظهرت المدن واتحدت، فأسّست دولة المدينة، ثم دولة المدن المتعددة، وتطورّت الحرف اليدوية، وظهر تقسيم العمل جنسيا (بين الذكور والإناث) وفئويا (بين التجار والفلاحين والحرفيين والساسة). كما تمّ تقسيم العمل على مستوى الدولة (الحكام - الجيش - الكتاب - الكهنة). ومع ظهور الدولة ظهرت الكتابة الأدبية التي يدلّ فيها كل رمز على صوت بشري، فظهرت الحروف، التي هي رموز للأصوات البشرية، فصارت الكتابة وسيلة للتواصل بين مختلف الناس الذين يعرفون رموزها، وصار الإنسان يكتب كل ما يقول، فكتب الرسائل والأشعار والحكايات. وفي هذه المرحلة "بدأ التاريخ"، فصار المؤرخون يميزون بين فترة "ما قبل التاريخ" وفترة "التاريخ"، لأن الكتابة هي التأريخ والتأريخ هو الكتابة. هذه المراحل لم تعرفها ما تسمى الكتابة الأمازيغية "أبجدية تيفيناغ"، بل وقفت عند المرحلة الأولى أو الجنينية البدائية (الدينية والسحرية). وأكبر دليل على ذلك أن كل رموز تيفيناغ التاريخية (الفن الصخري) عثر عليها في المغارات والكهوف بالجبال والصحراء، وليس بالمدن، في حين أن كل المجتمعات البشرية القديمة (السومرية - الفرعونية - الفينيقية - الإغريقية – الرومانية) ظهرت فيها الكتابة بالمدن، وليس الكهوف والمغارات. كما أن كون رموز تيفيناغ المنقوشة في الصخور لم يتم بعد فك شفرتها وقراءاتها، وهو دليل على أنها ليست رموزا للتواصل بين البشر (الكتابة) بقدر ما هي رموز إلى التواصل بين الأفراد والقوى الغيبة. وعليه فما يعتقده البعض في رموز "تيفيناغ" ويعتبرها حروفا للكتابة ليس صحيحا، كما بينا أعلاه، وليس هناك ما يثبته تاريخيا ولا وجود لما يؤكده أركيولوجيا؛ فشعوب شمال إفريقيا لم يسبق أن توفرت لها الشروط التاريخية لتطوير التجارة لتؤسس المدن وتبني الدّول، كي تكتشف الكتابة؛ فالتجارة التي مارستها مع الطلائع الأولى للفينيقين على السواحل كانت "تجارة صامتة" بالمقايضة، أي إنها تجارة بدائية، والممالك التي أسسها الأمازيغ في المرحلة الانتقالية من الهيمنة القرطاجية إلى السيطرة الرومانية لم تستطع الخروج من التبعية السياسية والثقافية والحضارية القرطاجية والرومانية، إذ كانت تلك الممالك وحكامها يستعملون إما اللغة والكتابة القرطاجية البونيقية أو اللغة والكتابة الرومانية، كما كان الأمر في العهد الإسلامي كذلك عندما أسس أمازيغ صنهاجة ومصمودة وزناتة دول المرابطين والموحدين والمرينيين، وصاروا يستعملون اللغة والكتابة العربية في دواليب دولتهم ومدارسهم. أما أول كتابة عرفتها شعوب شمال إفريقيا فهي الكتابة الفينيقية، ومنها اشتق اسم أبجدية "تيفيناغ"، وهي في الأصل " تيفيناق". ومعلوم لسنيا كيف يتحول حرف القاف غينا والغين قافا في وبين اللغات السامية الحامية، كالقراءة = تيغري، آر إقاز = إيغزا، آر يقّرف = يغرف، إقّور= تَغارتْ، من تيفيناغ الفينيقية، التي انحدرت منها تيفيناغ الطوارق وغيرهم، والتي انتقلت إليها وظلت محدودة الانتشار، لطغيان الشفوية على تقاليدهم. ولو كانت رموز تيفيناغ بالفعل كتابة لتركت لنا تراثا من النصوص أو المدونات من الكتب والرسائل والأشعار والحكايات والأساطير مكتوبة بلغة أمازيغية وبأبجدية تيفيناغ، والواقع والتاريخ إلى حد الآن لم يكشفا ولو كلمة أو جملة أو سطرا أو فقرة أو بيتا شعريا من ذلك.