المدرسة المغربية حبلى بالإكراهات الواقعية أحيانا، والمصطنعة أحيانا كثيرة. وإذا كانت الأولى قابلة للمقاربات العملية ، فإن الثانية تتحول إلى إشكال مزمن يبدو غير قابل للتجاوز أو الحل مثلما هو شأن القيم التي كلما حصل مشكل أشارت الأصابع إلى المدرسة ،حتى وإن كان من يأتون تلك الأفعال المشينة مجرد أشخاص مروا بجوار المؤسسات التعليمية، ولم يكونوا من مريديها الأوفياء، أو مثلما هو شأن اللغة التي تقدم باعتبارها جسر الرمال الذي لايسمح لقنطرة التعليم بأداء وظائفها...ورغم وعينا بأننا أمام مشكل غير حقيقي فإننا نعتبر السكوت عنه مساهمة في ترسيخ عبث قد يطول مقامه،لذلك سنقدم في هذا المقال مقاربة للموضوع من زوايا متعددة تستحضر مختلف القراءات بهدف الكشف عن خلفياتها، وتأكيد مبدأ الارتباك المؤسسي في التعامل مع وضع خانه التعبير والتفسير. أولا: القراءة السياقية التي تعني تناول الموضوع من زاوية ربطه بتاريخ المغرب الذي يقول إن التفكير في جعل الدارجة لغة تدريس جاءت به فرنسا في ظل سلطة الحماية، لكنها لم تستطع الذهاب في تنفيذه لاعتبارات كثيرة. هذا الربط بين الاستعمار وهذه الدعوة يجعل مناقتشها تتم خارج دائرة المقاربات العلمية أو التربوية، كما أن من دعوا إلى ذلك خلال السنوات الأخيرة يٌربطون بهذا السياق وبالتيار الفرنكفوني، وغيرها من التوصيفات.فما الذي يعنيه ذلك؟ إنه يعني أن هذا الموضوع أصبح مقيدا بأحكام مسبقة و نهائية، كما أن صفة الأشخاص الذين يرافعون عن هذه الدعوة تجعل هذا الحكم مشروعا،خصوصا وأنهم يذهبون بعيدا فيما يقترحونه ضمن ما يعتبرونه تحديثا للمجتمع مثلما هو الحال مع حرية الجسد أو الحريات الفردية بشكل عام...إنهم الصوت الذي يبدو مناقضا لسياق عام يعتبر كل ذلك مهددا للهوية وللوحدة الوطنية وداعما لتمييع وجود المغاربة؛ ثانيا: القراءة السياسية التي تشتغل بالمضمرات وتشكك في النوايا، فتعتبر أن إدراج كلمات عامية في مقرر دراسي هو نوع من تحريف النقاش الحقيقي لقضايا التعليم بالمغرب، ووسيلة لتوجيه بوصلة المواطنين تجاه قضايا ليست من صميم المشاكل الكبرى للمدرسة المغربية، وإلهاء لهم عن مناقشة مشروع القانون الاطار المتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي،وغيرها من القضايا الكبرى..والحق أن هذا النوع من التحليل له شرعيته؛ إذ يعرف العاملون في المجال أن قضايا التعليم بالمغرب مركبة إلى الحد الذي جعلها تبدو مستعصية عن الحل، فأينما وليت وجهك ستجد مشكلا بدءا بالموارد البشرية، مرورا بالقيم، وصولا إلى البنيات التحتية والهدر المدرسي ...ما سبق يعني أن جعل هذا النقاش جوهر النقاش مسألة فيها إن...كما يقول الحس المغربي المشترك؛ ثالثا: القراءة المؤسسية التي تسائل دور المؤسسات في هذا الباب، فنحن نعلم أن الكتاب المدرسي يخضع لمسار منظم ومهيكل، وأن هناك ضوابط بيداغوجية ودفتر تحملات، ولجنا تسهر على فحص المحتويات المعرفية ومدى احترام القيم المجتمعية والكونية ...فكيف يتم إدراج اختيارات لغوية خارج هذه الضوابط؟ لاشك أن المسؤولية هنا واضحة، وربما ما يشفع لأصحاب المسؤولية هؤلاء هو أن التعليم أصبح الحائط القصير الذي يسهل القفز عليه وفوقه، وأنه قطاع يتدخل فيه الجميع؛ فالمجلس الأعلى للتعليم ينظر ويقترح وربما ينفذ، والمجلس الأعلى للحسابات لم يكتف ، في تقريره الأخير،بتقييم الجوانب المالية أو الإدارية، بل أصبح يقيم ما له صلة بالمضامين، وبالتكوين والبيداغوجيا... وغيرها من الجوانب التي لها أهل اختصاصها، وإذا أضفنا إلى ذلك تلك التقييمات غير المفهومة التي ينجزها البنك الدولي، أو غيره من المؤسسات الدولية التي تصبح توصياتها لدى البعض مرجعا مقدسا، استطعنا أن نتفهم الارتباك الحاصل في القطاع..واستطعنا إدراك لماذا سارعت وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي والتكوين المهني إلى تعليل توظيف العامية في المقررات ببلاغات تؤكد أن الأمر كان اختيارا، في مقابل تصريحات رئيس الحكومة والناطق الرسمي بها النافيين لاعتبار الأمر اختيارا رسميا...لندخل بذلك في باب الارتباك الرسمي ؛ رابعا: القراءة التربوية: مسوغ توظيف كلمات عامية في مقرر دراسي للابتدائي لم تقدم بشأنه مسوغات تربوية، ولم يبن على دراسات تبين فائدته، بل إن هذا التوظيف يبدو مقحما وكأنه اختبار لمدى صلابة المجتمع فيما يعتبره خصوصية وهوية جامعة. ناهيك على أن المسوغات التي عللت بها الوزارة لاحقا هذا التوظيف؛ وهو ربط الكتاب المدرسي بمحيط المتعلم وبيئته القريبة ..يبدو غير مقنع؛ لأن المعجم المعتمد قد لايكون بالضرورة جامعا بحكم الاختلاف بين الجهات في طريقة نطقها للكلمات أو استعمال بدائل لغوية أخرى. تربويا، كذلك، لم تتم مراعاة تمثلات التلاميذ للمدرسة وأدوارها، إذ سيجعلهم الحديث عن (البغرير والبريوات ) وما شابههما يخلطون بين أدوار المؤسسة التعليمية وما يجري في الحياة اليومية، وسيصبح من المعلل لدى أستاذ العربية أو الاجتماعيات أو الفلسفة أن يتحدث بلغة البيت؛ مما يلغي عمليا أي حاجة لتقييم عمله، بل وقد يلغي جزءا أساسيا من وظائف المؤسسة التعليمية ؛ خامسا: القراءة المجتمعية: لهذه القراءة قيمتها الديمقراطية بغض النظر عن مدى سلامتها العلمية. فللمجتمع تصوره للغة المدرسة التي لها هيبتها الضرورية في ارتباط بين الكلفة والفائدة،وفي ارتباط بالآفاق (الممكنة) التي يتيحها إتقان اللغات، والحال أن الإدراج الاعتباطي للدارجة المغربية سيفسد هذا التقدير الذي أصبح يتآكل ، ولم يكن في حاجة إلى جرعة مسمومة، وعديمة الفائدة. من هنا نفهم حدة ردود الفعل المجتمعية كما عكستها وسائل التواصل الاجتماعي، والتصريحات العفوية لأولياء الأمور الذين يعتبرون المدرسة مدخلا للنجاح الاجتماعي، ولتجاوز وضعية الهشاشة في مختلف صورها. فهل بترسيخ العامية سيخاطب المتعلم عالما متحولا باستمرار أم إنه لن يتجاوز في أقصى الحالات حيه، وإذا حلت معه البركة أتقن مهنة يدوية تغنيه عن بعض الكفاف والحاجة إلى بعض الناس؟ سادسا: القراءة الجيوستراتيجية: إدماج الدارجة في المقررات قد يكون مدخلا لتحول أكبر يقطع المغرب عن محيطه الجيوستراتيجي الذي يمثله الناطقون بالعربية ،وهم بالملايين الكثيرة التي تجعلهم سوقا ثقافيا وازنا، وامتدادا وجدانيا ضروريا، وجسرا سياسيا واقتصاديا..لاشك أن متعلما ،مستقبلا، يمتلك بلاغة العامية التي نقدرها، سوف لن يتجاوز ما ينتجه معرفيا حدود البلاد، وسيجعل التواصل مع الناطقين بالعربية أمرا عسيرا، وعيا مستفيضا. وفي ذلك خسارة عمق جيو استراتيجي في قضايا تتجاوز أسوار المدرسة. سابعا: القراءة الاستراتيجية التي تعتبر أن النقاش بشأن التعليم بالمغرب يراد له السير في اتجاه خاطئ فيما يتعلق باللغة، ذلك أن الكثيرمن المدعين يربطون بين المدرسة والأزمة، ويعتبرون اللغة وجها من وجوهها، لذلك ابتكروا أسماء كثيرة مثل الباكلوريا الدولية أو الباكلوريا المهنية ، وأفاضوا في اتهام تدريس العلوم بالعربية ..والحال أن جوهر السؤال هو: هل يمتلك المغرب اختيارا لغويا محددا؟ وما الذي يمنعه من أن يجعله اختيارا ملزما؟ ولماذا يتجاهل هؤلاء مناقشة قضايا السياسة اللغوية بالمغرب؟ ولماذا يتعمدون الخلط بين لغات التدريس وتدريس اللغات؟ ... تدريس اللغات متداول في المغرب منذ عقود ، ورغم ذلك تقر التقييمات بمشاكل المعرفة الجيدة بالفرنسية أو الإسبانية أو الإنجليزية، ولغات التدريس يتم الترويج أنها العربية في الشعب العلمية، والواقع أن لغات التدريس بالمغرب لم تستقر على حال، وما الحديث عن الباكلوريا الدولية سوى نموذج مصغر يؤكد ذلك، لكن دعونا من كل هذا ولنناقش بموضوعية علاقة العربية بتدريس العلوم، ولنأخذ الرياضيات ء مثالا...ذلك أنها ، في الجزء الأكبر، تعتمد نظاما إشاريا عالميا، وأن الكلمات الأخرى تكاد تصبح روابط أو استنتاجات.. لذلك نفهم لماذا لا يجد الطالب المغربي في مرحلته الجامعية صعوبة في الانتقال للدراسة بلغات أمم أخرى... ختاما ليست الدعوة إلى توظيف العامية في التدريس جديدة، وليست معللة حضاريا واجتماعيا وسياسيا وتربويا واستراتيجيا، إنها بمثابة النفخ في قربة مثقوبة، لكن على المجتمع ألا يجعل هذا الثقب قضيته الوحيدة، وأن ينشغل عن جوهر قضايا المنظومة.