في أواسط صيف العام الماضي 2013، نظمت مؤسسة "زاكورة للتربية" ندوة دولية بمدينة الدارالبيضاء حول إصلاح منظومة التربية والتعليم بالمغرب، حضرها وزراء في التربية سابقون وأسبقون، وخبراء متخصصون أجانب، وحضرها ضمن الشخصيات المدعوة مستشار للملك ورئيس المجلس الأعلى للتعليم، ووزير الداخلية ومحافظو ولاية الدارالبيضاء الكبرى! ولكن الغياب الأبرز عنها كان غياب وزيري التربية والتعليم العالي لكونهما -في رأي رئيس المؤسسة- "لا يزالان يمارسان مهامهما، ولا نريد أن نخلق لهما مشاكل احتراما لهما"، ثم يتابع الرئيس بالقول: "إن هذا العمل الذي نشرف عليه يتعلق بالمجتمع المدني، ونريد أن تكون لنا كل الحرية، بعيدا عن الحكومة". لم تأت الندوة في توقيتها من فراغ، ولا كان اختيار "ضيوفها" ومؤطريها اعتباطيا، بل أتت في سياق رفع مؤسسة "زاكورة" مذكرة إلى الملك حول إصلاح منظومة التربية والتعليم قبل حلول ذكرى 20 و21 غشت الماضي (ذكرى ثورة الملك والشعب، ثم ذكرى عيد الشباب). تدرك المؤسسة أن الملك غالبا ما يخصص جزءا من خطابه بمناسبتهما لإشكالية التعليم بالمغرب، وللتعثرات التي تعترض عملية إصلاحه على مستوى التوجه العام، وعلى مستوى المناهج والبرامج، أدوات ومضامين. الندوة، وأيضا المذكرة المرفوعة إلى الملك، أعادت إثارة مجموعة من القضايا الإشكالية الكبرى، التي طالما راجت بين المختصين وفي الفضاء التداولي العام، لا تختلف في ما بينها كثيرا في ما يتعلق بالتشخيص وتوصيف واقع الحال: - فالمنظومة التربوية والتعليمية تعيش هدرا مستداما، لم تستطع السياسات ولا البرامج الحكومية (ناهيك عن المواثيق المتأتية من القصر مباشرة، وآخرها ميثاق التربية والتكوين) الحد من نزيف الموارد البشرية والمادية المترتبة عنها، ولا التقليص من الأعداد الضخمة التي تلفظها المدرسة، قبل أن يبلغ التلميذ مستوى يؤهله للاستمرار في الدراسة أو استدراك فشله في هذه الأخيرة، ليتعلم مهنة تضمن له الاندماج في البيئة المحيطة وتقيه شر البطالة أو السقوط في المحظور؛ - وربط المنظومة التربوية والتعليمية بهياكل السوق والإنتاج لم يذهب مدى بعيدا، إما بسبب غياب المسالك العملية والتكوينية الملائمة، التي من شأنها ضمان ذات الربط، وإما بسبب تخلف البرامج والمناهج عن مواكبة وتيرة سوق ينشد الكفاءة والنجاعة والتكوين الدقيق؛ - ونموذج تمويل المدرسة بقي متدحرجا، مستعصيا على الاستنبات بين قطاع خاص يراهن على الريع والربح السريع في أحسن الأحوال، وبين قطاع عمومي يستهلك ربع ميزانية الدولة، لكنه مترهل ومفلس ولا يفرز جودة معتبرة بمقياس المخرجات؛ - أما المؤسسات المشرفة على المنظومة فقد بقيت منذ استقلال البلاد أواخر خمسينيات القرن الماضي وإلى اليوم مسكونة بالتدبير اليومي للمنظومة إياها، ومشلولة القوى، بحكم تضارب برامج الأحزاب المتعاقبة عليها، وضبابية الاختيارات السياسية التي كانت خلف هذا التوجه أو ذاك. والمثال الصارخ لهذه الضبابية يتمثل في ازدواجية الخطاب حول لغة التعليم والتلقين، بين من ينادي بتعميم العربية في كل الأسلاك التعليمية، بما فيها الجامعي، ومن يطالب باعتماد الفرنسية (ولغات أخرى) كوسيلة للتلقين، ثم للبحث في العلوم والتقنيات بعد ذلك. هذه أمور معروفة، بل مكررة، أثثت الخطاب التربوي لسنين طويلة، على مستوى تشخيص واقع الحال، ولا نعتقد أن مذكرة مؤسسة "زاكورة" قد أضافت إليها شيئا مميزا يذكر. الجديد ربما في هذه "النازلة" هو إصدار المذكرة من جهة غير رسمية، وتسليمها إلى الديوان الملكي مباشرة، دونما المرور عبر الجهات المختصة، ولا طرحها في الفضاء العام للتداول بشأنها أو مناقشة مضامينها. قد يكون السر وراء ذلك إدراك المؤسسة أن الجهات المختصة، وزارات ومجلسا أعلى للتعليم ولربما البرلمان أيضا، لا تملك سلطة البت في قضايا استراتيجية من هذا القبيل، للقصر بإزائها القول الفصل. وقد يكون توجه المؤسسة إلى القصر مباشرة تثبيتا لحقيقة استقلالية المجتمع المدني عن المجتمع السياسي، حكومة وبرلمانا ومجالس تنفيذية، حتى وإن كانت هذه الأخيرة منتخبة وذات صفة دستورية معتبرة. لا يبدو هذا السلوك معيبا أو مثار تحفظ كبير من لدنا، إذ من حق جمعية تشتغل بالمجال الأهلي أن ترفع مذكرة أو مشروعا أو مقترحا إلى رأس الدولة، إعمالا لمبدإ السلطة والسلطة المضادة الذي لا يستقيم مسار الديمقراطية بانتفائه أو نفيه. بالتالي، فالضجة التي ترتبت عن هذه "الواقعة"، بمسوغ انتفاء الصفة عن المؤسسة لكي تراسل الديوان الملكي دون المرور بالهياكل الوسيطة المشرفة على ملف التربية والتعليم، لا تبدو لنا ذات معنى يستحق التوقف عنده، ولاسيما إذا أتت من جهات تدرك ترهل هذه الهياكل وتكلسها وعدم قدرتها على اقتراح الحلول والبدائل. بالمقابل، فالضجة التي أثارتها بعض توصيات المذكرة، ولاسيما بجانب لغة التدريس المقترحة، تستوجب وقفة تساؤلية، إذا لم يكن لمناقشة خلفياتها المباشرة فعلى الأقل للوقوف عند تبعاتها وتداعياتها المستقبلية على منظومة التربية والتعليم. بخصوص هذه النقطة، تعتبر المذكرة أن اللغة بالمدرسة المغربية تطرح مشكلا كبيرا؛ ففي الدول المتقدمة، يقول صاحب المذكرة "عندما يلج الطفل المدرسة يتعلم بلغته الأم، وهي اللغة التي يتحدث بها في البيت. المشكلة عندنا هي عندما يدخل أطفالنا المدرسة، يتعلمون منذ البداية باللغة العربية الفصحى والفرنسية والإنجليزية. الملاحظ كذلك أنه في التعليم العمومي، فإن 10 % فقط من الذين يصلون الباكلوريا (الثانوية العامة) يتقنون التحدث بالفرنسية، في الوقت الذي نجد أغلبهم يتحدثون قليلا بالعربية والفرنسية. ولهذا نرى أنه يجب أن تكون أول لغة يتعلم بها الطفل هي الدارجة، ثم تأتي اللغات الأخرى". المذكرة هنا لا تتحايل على الكلمات، ولا تعتمد نبرة التلميح، بل توصي جهرا وجهارة بضرورة اعتماد العامية ك"لغة" تلقين وتدريس باعتبارها اللغة الأم، واستبعاد العربية، على الأقل من أسلاك التعليم الأولي، لكونها لا تضمن الاستمرارية بين المنزل والمدرسة، وأيضا لكونها معقدة، صرفا وتحويلا ونحوا، إلى درجة تدفع التلميذ إلى النفور منها في الفصل، وتحول دون قدرته على الاستمرار في التعلم بها بالثانوي أو البحث من خلالها بالجامعي. التوصية إذن واضحة ومباشرة، بل إنها أوردت معطيات إحصائية مبنية على دراسات واستبيانات ميدانية، تزكي طرحها القاضي بأن اعتماد اللغة العربية بالمدرسة المغربية يفرز هدرا مدرسيا يغادر بموجبه المدرسة حوالي 350 ألف تلميذ كل سنة. قد لا يكون هذا الاستنتاج مجانبا لعين الصواب كثيرا؛ فالهدر المدرسي فظيع بكل المقاييس، إلى درجة لا يصل من كل 100 يلجون المدرسة إلى الجامعة إلا أقل من 10 أفراد. بيد أن ربط الهدر المدرسي بلغة التعليم والتلقين (العربية في هذه الحالة) يبدو استخلاصا متسرعا واختزاليا وغير دقيق. فالإشكال منظومي بكل الحسابات، تتشابك في ظله عناصر سياسية وإيديولوجية وحسابات حزبية ضيقة ومناورات خارجية، ناهيك عن إكراهات المنظمات الدولية، التي كانت إملاءاتها غير بعيدة عن تحديد حال ومآل المدرسة المغربية، والمنظومة التربوية والتعليمية بوجه عام. صحيح أن المنظومة إياها تحتاج برمتها إلى إصلاح عميق وشامل، وصحيح أن تثبيت لغة التعليم أمر جوهري؛ لكن القول بأن عطب المنظومة متأت من اللغة أمر فيه تجن كبير وتنقصه الموضوعية المطلوبة، اللهم إذا اعتبرنا أن كل عناصر المنظومة سليم، والبقية (وضمنها اللغة) هي أصل الداء. لو تجاوزنا هذه الجزئية، وهي جوهرية في نظرنا، ودققنا في الأمر من الناحية العملية الصرفة، للاحظنا أن توصية مؤسسة "زاكورة" باعتماد العامية "لغة" تدريس، ستثير العديد من الإشكالات على مستوى التطبيق، وعلى مستوى تداعيات التوصية نفسها: - أولا: لا يمكن إنكار أن اعتماد اللغة الأم يعتبر مدخلا أساسيا من مداخل تطوير منظومة تعلم اللغات وتقدم عملية التعليم، وإلا لما كان لليونسكو أن تدعو (وإن بسياقات وطنية متباينة) للاهتمام بها واعتمادها كأداة تعلم وتعليم. لكن الإشكال بالمغرب يكمن في وجود تعدد في اللهجات بين مختلف جهات البلاد، يجعل من المتعذر حقا اعتماد لهجة واحدة للتعلم، وهو الأمر الذي نعيشه اليوم بعد ترسيم الأمازيغية ك"لغة" تعلم، مع العلم بأن الأمازيغية ليست واحدة في المنطوق الشفوي، حتى باعتماد حرف موحد لكتابتها؛ - ثانيا: استعمال اللهجات المحلية المغربية أمر معمول به على أرض الواقع منذ أمد بعيد، كل جهة بلهجتها، مما يجعل من توصية مؤسسة "زاكورة" مسألة نافلة على حد تعبير المفكر عبد الله العروي، وهذا أمر يضعف في حد ذاته القدرات التعبيرية الشفوية للتلميذ، سواء تعلق الأمر باللغة العربية أو باللغات الأخرى، لأن الشفوي عامي، في حين أن المكتوب فصيح. صحيح أن المذكرة، في مطالبتها بترسيم استعمال الدارجة، توصي بفتح الجسور مع العربية الفصحى، إلا أن هذا الاقتراح لا يمكنه إلا أن يزيد من تعقيد المسألة، "لأن المدرسة المغربية ستجد نفسها مضطرة إلى ضبط كتابة اللهجات وتقعيدها، بالإضافة إلى بلورة رؤية ديداكتيكية فعالة، تسمح بالتدريس الفعال للهجات، ثم خلق جسور بينها وبين اللغة العربية الفصيحة"؛ - ثالثا: لو تجاوزنا ما سبق، فإن السؤال يبقى مطروحا بخصوص مدى استخدام اللهجات، هل سيقتصر استخدامها على مراحل معينة (ما قبل المدرسي والابتدائي والثانوي) أم ستعتمد بكل الأسلاك ك"لغة" تعليم واكتساب للمعرفة؟ ثم كيف سيكون مصير ومكانة العربية والأمازيغية، المنصوص عليهما بالدستور كلغتين وطنيتين؟ وهل سيمتد الأمر إلى كل مرافق الدولة أم ستبقى "اللغة العربية الجديدة" حبيسة جدران المدارس والثانويات ولربما الجامعات أيضا؟ - رابعا: أوصت المذكرة بضرورة ضمان الاستمرارية بين السلكين الثانوي والجامعي، لكنها أوصت في الآن ذاته بالتوقف عن تدريس المواد العلمية بالعربية في السلك الثانوي. معنى هذا أن اللغة الفرنسية هي المرشحة لتعويضها، مما يجعلها في مواجهة صدامية مع اللغة الإنجليزية، التي تدعو المذكرة إلى "جعلها اللغة الأساسية للتعليم العلمي والتقني؟". ثم كيف السبيل إلى إدماج اللغات الأجنبية الأخرى (من إسبانية وصينية وبرتغالية) في حين أن اللغات المراهن على إدماجها من مدة (كالألمانية والإيطالية) لا تزال متعثرة وتعتريها صعوبات؟ هذه كلها إشكالات جوهرية تتجاوز التمنيات وسهولة المطلب، لتصطدم بتعذر مسالك التصريف والترجمة على أرض الواقع. فلو سلمنا بإمكانية تقعيد العامية المغربية (وهي عاميات!)، واعتمدناها كلغة للتلقين والتعليم، فإننا سنكون حتما كمن يبني فوق رمال متحركة، إذ العامية متحركة و"معجمها" غير قار، في حين أن اللغة العربية لا تعرف ذات الإشكال، فهي مقعدة علميا، وإن تسنى لها الاقتباس من هنا أو هناك، فذاك من باب التلاقح اللغوي ليس إلا. أليس من الأنجع أن نعمل على تبسيطها وتيسير ما تعقد منها حتى تواكب المطلوب، عوض تقعيد لهجات قد لا ندرك اليوم تكاليفها وتداعياتها؟ ثم لو عملنا على تقعيد الدارجة وجعلناها لغة الشفوي والمكتوب، فمن يا ترى سيفهمنا أو يقرؤنا من بين ال300 مليون عربي الذين هم سوق العربية بامتياز؟ ألا يبدو مقترح مؤسسة "زاكورة"، والحالة هذه، من باب النوافل الصرفة؟