غالبا هن سيدات غادرن مرحلة الشباب، أو هكذا يبدون على الأقل من خلال سحناتهن المتعبة وطريقة لباسهن التي لا تخرج عن نمط المغربية المتوسطة: "جلابة" أو لباس شبه منزلي، ومنديل بسيط فوق الرأس لا يعني أكثر من مجرد اختيار في اللباس. الملامح مغربية أليفة مما نصادف قسماته يوميا داخل الأسر وفي الأسواق والشوارع والأحياء، وما تعودنا عليه داخل الأوساط الشعبية في وجوه الأقارب: أمهات وأخوات وعمات. اللسان مغربي دارج، بنبرات وتنويعات محلية لا يخفيها النهل الملحوظ من القاموس المشترك الذي ولده الاندماج الوطني المتزايد، وغذته وسائل الإعلام والأعمال الفنية، ويسرته سهولة التواصل الاجتماعي. رواد الشبكات الرقمية تعودوا خلال فترات متقاربة على تقاسم ومشاركة فيديوهات وجيزة تتضمن واحدة من تلك النساء وهي تسترسل متحدثة في موضوع تضعه الأحداث في قلب الاهتمامات العامة بنبرة نقدية حادة، وبوجه مكشوف، وبقدر واف من الجرأة والإقدام. تتوزع المواضيع بين قضايا الاحتجاج الاجتماعي والانشغالات اليومية ذات الصلة بارتفاع الأسعار وشروط الولوج إلى البنيات التحتية وطبيعة الاستفادة من الخدمات الصحية ومرافق الإدارة العمومية ونوعية السكن وصعوبات تشغيل الأبناء، وتصل إلى إبداء الرأي في ما يستأثر باهتمامات النقاش العمومي، معبرة في الحقيقة عن مواقف سياسة مباشرة عارية مما تحفل به عادة لغة السياسيين من مخاتلات، وكلمات مسكوكة فقدت المعنى، وعبارات منهكة من شطط الاستعمال. هن نساء من عامة الشعب، بلا انتماء سياسي ولا نقابي؛ لذلك لا يشبهن كثيرا "نسوانيات" الطبقة الوسطى ولا مناضلات حقوق الإنسان في المدن الكبرى. ولا يبدو أنهن قد نلن حظهن من التعليم خارج ما لقنتهن حيوات شاقة، ولا قد استأنسن بلغة المقرات الحزبية المحشوة بالمفاهيم الثقيلة والعبارات المكررة والجمل المتشابهة، فغضبهن فطري وخطابهن قريب من السليقة وعباراتهن تحمل توقيعا شخصيا أصيلا. هن لم يحملن معهن بالتأكيد جملا قصيرة معدة بعناية خبراء تواصل، ولم يفكرن طويلا في أبعاد وخلفيات الرسالة المصاغة بكثير من الدقة والحرص المرضي للسياسيين. إنهن على الأرجح فوجئن بميكروفون عابر لأحد المواقع المتكاثرة أو بمجرد هاتف نقال على أهبة تسجيل غضب عميق يبحث عن كلماته الحارة. الباقي يصنعه "فيسبوك" و"واتساب" والصحافة الإلكترونية، عندما يحول الارتجالية السريعة إلى مادة للتقاسم بين عشرات الآلاف من المواطنين المتوفرين على هاتف ذكي! تواتر فيديوهات هؤلاء النسوة يقترب من جعل الأمر ظاهرة حقيقية تستحق الانتباه والتأمل: نساء، أمهات وربات بيوت في الغالب، في قلب الفضاء العام: داخل احتجاجات بالشارع أو على هامش مسيرات أو وقفات، لا يحملن أي اسم أو إشارة إلى انتماء أو صفة ما. إنهن فقط ما يقلن وما يعبرن عنه من غضب وحسرة، ولذلك فهن لسن في حاجة إلى عنوان وهوية واسم خاص للتوقيع على شهاداتهن التلقائية. هن لا يمثلن أحدا غير ذواتهن القلقة. في نبرة الكلام الكثير من الحرقة والقليل من البلاغة. الاسترسال الواضح يشبه سلسلة طلقات سريعة لسلاح ناري متأهب. في المضمون شذرات من قصة حياة وتفاصيل عن المعاناة اليومية للأبناء والزوج والأسرة والحي والمدينة. الفيديوهات المتفرقة لهؤلاء النسوة المفوهات القادمات من الجغرافية العميقة للمغرب المنسي تتحول إلى نداء مباشر لكبار المسؤولين من مختلف المستويات، بلا أدنى شعور بالخوف من مخاطبة السلطات في أعلى تراتبيتها أو من اجتراح لغة الحقيقة التي تزعج الاطمئنان المعمم للخطاب الرسمي. كثيرون قد ينظرون إلى ظاهرة هؤلاء الخطيبات بلا منابر كدليل على نوع من وعي المجتمع بذاته، وعلى حرية في القول لا يبدو أنها ستتراجع. وهي بالتأكيد واحدة من علامات الزمن الاحتجاجي حيث النساء فاعلات في دعم ومناصرة وتعبئة حراك اجتماعي لا يخفي طابعه الأنثوي. في العمق، تحيل الظاهرة كذلك إلى إعادة تسييس جزئي يطال المجتمع في أقصى مساحاته محافظة. في الحديث البسيط لهؤلاء النسوة عن مشاكلهن في التعليم والتشغيل والصحة ليس مجرد شجاعة رأي، بل كذلك نفحة عميقة من السياسة؛ ذلك أن الجهر بمخاطبة المسؤولين والتنديد بمظاهر الاختلال والفساد، يعني أنهن لا يعتبرن أن فقر أسرهن وعطالة أبنائهن مجرد حظ عاثر أو قدر محتوم، بل هو نتيجة لاختيارات في السياسة والاقتصاد، وهو ما يعني إدراكا حادا للعلاقة بين الوضع الخاص للأسرة وللفرد وبين الوضع العام للمجتمع والدولة، وذلك بالقطع واحد من المداخل المؤكدة لزمن السياسة.