في تسعينيات القرن الماضي، كان الحسن الثاني مهتماً بالتراث المغربي، بما فيه الدراجة المغربية. وكان الملك الراحل يلقي عدداً من خطبه المباشرة بالدارجة. وقد سبق أن كلف خبراء أكاديمية المملكة المغربية بوضع تصنيف يدرس فيه تأثر الدارجة المغربية باللغة الأمازيغية، وكُلف بهذه المهمة محمد شفيق، الأكاديمي والمفكر وعضو الأكاديمية، نظراً لتمكنه من الموضوع. ويحكي عبد اللطيف بربيش، أمين السر الدائم آنذاك لأكاديمية المملكة المغربية، في كتاب صدر سنة 1999، أنه أبلغ شفيقا برغبة الملك بالاهتمام بالدراجة؛ فتحمس لها كثيراً لكن قيدها لأسباب منهجية بوجوب القيام أولاً بوضع معجم عربي أمازيغي تكون فيه المداخل عربية فصيحة والمقابلات أمازيغية. وقد استحسن الملك الراحل الحسن الثاني هذا النهج الذي اختاره محمد شفيق، فأخذ الأخير يخرج جذاذاته المعجمية تباعاً إلى أن أكمل عمله، فأصدره في ثلاثة أجزاء بعنوان "المجمع العربي الأمازيغي"؛ وهو أول معجم من نوعه يصدر ويوضع رهن إشارة جمهور القراء والباحثين. بعد أن أنهى المفكر الأمازيغي شفيق العمل الأول، شرع في إخراج المصنف الخاص بالدارجة بعنوان "الدارجة المغربية مجال توارد بين الأمازيغية والعربية". وقد صدر في نونبر 1999، أي أشهراً بعد وفاة الراحل الحسن الثاني، ولم يكتب له أن يرى هذا العمل الأكاديمي الذي أمر به. في هذا الكتاب، يشير شفيق إلى أن الدارجة المغربية لغة وسط بين العربية والأمازيغية، ومعجمها "سامي تمثلته أرضية فونولوجية أمازيغية"، وهذا الأمر مألوف ومعروف عند اللسانيين، ويضيف شفيق قائلاً: "لأن اللغات منشآت اجتماعية حية تتعامل فيما بينها وتتبادل الخدمات". ويضيف الباحث في كتابه قائلاً: "الدارجة المغربية حرفت عدداً مهماً من الكلمات العربية عن معانيها الحقيقية؛ وذلك لأن من أخذها أول الأمر عن العرب كان أمازيغي اللسان فَهِم كل كلمة منها في ظروف معينة أوحت عليه بمدلول لتلك الكلمة غير مدلولها الحقيقي الدقيق، فشاع ذلك المدلول وصار هو الغالب". ويخلص شفيق إلى أنه كان من الطبيعي أن يتم بين الأمازيغية والعربية تداخل وتمازج على المستويات اللسانية والمعجمية والمستوى النحوي الصرفي والتركيبي والفونولوجي، نظراً لطول مدة الاحتكاك والتفاعل، ويزيد قائلاً: "لقد اقتبست الأمازيغية من العربية اقتباساً، مباشرة طوال قرون من التعايش معها، رصيداً معجمياً صارت تتراوح نسبته في المعجم الأمازيغي بين 5 و38 في المائة". أما نتيجة تأثير الأمازيغية، فتتجلى في "نشأة لغة مغربية وسط هي "العامية"، لغة سداها "أمازيغي" ولحمتها عربية وملمسها بين بين، وبُنى جملها وعباراتها أمازيغية، ومعجمها عربي أكثر منه أمازيغي، أما مخارج الحروف فيها والجرس والنبرة في مشتركة وتختلف باختلاف المناطق الجغرافية والأصول الإثنية والمستويات الثقافية. ويمضي شفيق إلى القول أن العربية الفصحى لم تكن في الماضي المغربي إلا لغة الخاصة، ولم تكن إلا لغة كتابة لا يتخاطب بها خارج دوائر دينية وثقافية ضيقة، ويؤكد أن انتشارها في المغرب كان بانتشار الصحافة والراديو وتعميم التعليم الابتدائي في ثلاثينيات القرن الماضي. كما يشير إلى أن ظاهرة تحول الدارجة من حال إلى حال في اتجاه "التفصح" تسارع ابتداءً من فجر الاستقلال، ويقول: "ومما قوى هذا التيار أن الفصحى تربط في يسر الخطاب السياسي بالخطاب الديني وتجعل أحدهما يخدم الآخر، وقد بلغت مداها واستنفدت ما كان في جعبتها من الحجج". كان محمد شفيق يسعى، من خلال هذا الكتاب، إلى "تحفيز المواطنين من التخلص من شبه عقدة في أنفسهم تجعلهم يرنون إلى ما عند خيرهم ويزدرون ما عنهم". ولعل ذلك يتزامن مع النقاش الدائر حالياً حول استعمال مصطلحات من الدارجة في مقررات الدراسة في السنوات الأولى. ويضيف شفيق قائلاً: "حبذا لو تكون المسألة اللغوية موضوع حوار جاد بين المغاربة كافة.. إذن، نتلافى محاذير التعصب، ونتراضى على أن اللغة وسيلة لا ينبغي أن تكون غاية في حد ذاتها، وأن الحذق لا يتجلى في الكلام؛ لكن في الخلق والإبداع، وأن عهد البلاغة الطنانة الرنانة قد أدبر منذ زمان، وخلفه عند الأمم الواعية عهد القصد في المبنى والإجزال في المعنى والخير أمام".