بلغة عربية فصيحة فصاحة العرب القدامى، يُقدّم الكاتب محمد الصْفا، أو موموح كما يحلو له أن ينادى عليه، يوميات طفل قروي بقرية تاحفورت الواقعة بجماعة مغراوة عند مرتفعات الأطلس المتوسط بإقليم تازة، ويحكي تفاصيل طفل أصبح رجلا قبل الأوان، مروراً من منحدرات قريته وصولاً إلى المدينة. صدرت السيرة الذاتية "مُذكرات موموح" خلال السنة الجارية عن مطبعة الأنوار الذهبية بمدينة خريبكة، حيث يسكن موموح إلى حد الساعة؛ لكن عقله كان ولا يزال هناك في مرتفعات مسقط رأسه في "تَاحفورتْ"، التي لا يكل من حكي تفاصيلها، من بيته إلى المسجد مروراً بالبيدر، وبين هذا وذلك ينثر بسلاسة بارع في اللغة الضوء عن تاريخ منطقة لا يزال تاريخها في حكم المنسي. كانت تجربة حكي «مذكرات موحوح» قد بدأت بوادرها على صفحات موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك منذ سنوات مضت، هناك في هذا الفضاء الأزرق استقبل «موموح» بفرح طفولي أبناء قريته الصغيرة وقبيلته الكبيرة آيت وراين، ومضى الأيام الطوال يُحدث فلانا وابن فلان، ويتعرف على الجيل الجديد من أبناء الأطلس المتوسط من تاهلة وجرسيف وبويبلان. حماسة لقاء أبناء القبيلة نفسها والتاريخ المشترك كان حطبا لعودة ذكريات قريته المنسية، إلى أن شرع في سرد السيرة حول طفولته، كيف عاش أيامه بأفراحها وأتراحها، بتجارب عند سفوح جبال الأطلس المتوسط جعلته يتحمل مسؤولية ويصبح رجلاً قبل الأوان. انطلق موموح في حكي السيرة تلو الأخرى، ونال إعجاب أبناء جلدته وجعلته يستجمع قواه ويصبح منتجاً لكلمات الذكريات بشكل يومي، واستمر الأمر إلى أن حكى مائة سيرة، وقفت على تفاصيل عيشه وعيش محيطه، لتنطلق الكلمات من شاشات الحاسوب إلى كتاب ورقي رأى النور أخيراً، يعج بمصطلحات قديمة بلغه أمه، الأمازيغية. يقول موموح إن «مذكراته» رجوع بالذاكرة من حياة تحكمها قوانين المشترك الإنساني الاستهلاكي العصري الذي يغيب عنه التسلح الأخلاقي إلى عالم الطفولة الصارخ في بساطته، رجوع يعتبره ذات مبررات أولها الرغبة في السيطرة على أسباب إنتاج الخوف من مدرسة يتخرج منها الأطفال رجالاً قبل الأوان. أكثر من ذلك، فموموح، الذي حمله القدر طيلة سنوات من تازة إلى الرباط وفرنسا ومراكش ثم خريبكة، يعتبر أن هذه المذكرات «ليست سيرة ذاتية وتدفقاً من حنايا الماضي فحسب، بل هي كذلك بوح بتفاصيل حميمية بطعم القهر وإهدائها قرباناً للمساهمة في التعريف بمعاناة الأعالي وبؤس طفولتها". كما يعتبر محمد الصفا أن هذه المذكرات تكشف الستار عن معاناة طفولة القرى في سياق تاريخي وفي نقطة جغرافية معينة انطلاقاً من تجربة شخصية وإشهار وتشهير برداءة وبغياب التجهيزات الخدماتية بالبوادي خاصة منها الجبلية. هو يعي تماماً الدور المنوط به وعلى عاتق كل أبناء المنطقة لإماطة اللثام عن تاريخ منطقة مقصية، أبى أن يسجل فترة تاريخية، بدايات النصف الثاني من القرن العشرين، للمثلث المعزول والمنسي، كما يسميه، من منطقتي تاهلة وكرسيف وصولاً إلى جبال بويبلان، أحد مرتفعات الأطلس المتوسط ذات البياض الناصح بثلوجه التي تصمد أكثر من نصف سنة. يصف موموح آيت وراين الأمازيغية بالقبيلة الثائرة التي حاصرها ظلم التاريخ ولعنة الجغرافيا، ويحكي ركب رجال أحرار لا يطأطئون الرأس ولا يقبلون الاستسلام والانبطاح، ويصور صمود قبيلة كانت محاصرة تبحث عن طموحها العسكري ضد المستعمر وتبحث عن مجال رعوي يضمن لخيامها رحلة الشتاء والصيف. وبين السير التي يحكيها الكاتب محمد الصفا وبين ثنايات ذكرياته العتيقة، يفتخر أيما افتخار بقبيلته آيت وراين، ويقول: «هي الأرض حيث الرجولة تهوى الجندية والموت في سبيل الوطن، وحيث الجبال تتنفس وتتكلم الأمازيغية، هي حب موموح الأول والأخير". وفي النهاية، يبوح الصفا بأحلامه الصغيرة، أحلام لا هي صعود إلى سطح القمر في ليلة الزبرقان، بل حلمه بسيط هو "أن ينتبه العالم إلى جمال قريته وأن تشفع لها مناظرها الخلابة لدى من يهمه الأمر فتنال حقها في الترقي، وأن تزهر بها العدالة والديمقراطية الصافية ويزداد منسوب الكرامة وينسحب الفقر المعشش فوق خلال خلابة تاحفورت الساحرة".