"متعة القراءة"، إنه أقل ما يمكن أن يوصف به أمر التفاعل مع الكتاب الجديد، الصادر مؤخرا ببيروت، ضمن إصدارات المركز الثقافي العربي، للمؤرخ المغربي أحمد التوفيق (وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمغرب، منذ سنة 2002)، كجزء ثان من ما يمكن تصنيفه كنوع من السيرة الذاتية، تحت ذات العنوان المركزي للجزء الأول منها "والد وما ولد"، مع عنوان فرعي جديد هو "الطريق إلى مراكش" (علما أن العنوان الفرعي للجزء الأول هو "طفولة في سفح الظل"). "متعة القراءة"، كتوصيف، كامن في تعدد وتشابك أبعاد تلك القراءة لكتاب الدكتور أحمد التوفيق، حيث يتعاضد فيها التاريخي، مع السيري، مع السوسيولوجي، مع الثقافي، مع السياسي. مما يجعل النص، تجربة حياة مغرية بالتتبع بشغف، عنوانا عن جيل كان، وعن مغرب يتحول لا يزال. ولعل ما منح للنص قوته، كامن في اللغة الوصفية الرائقة التي ينحت بها الكاتب جمله وصفحات كتابه. فهي لغة رفيقة (تأخدك في رفقتها بإغراء)، تغربك عن ذاتك، وتأخدك إلى قصة فتى مغربي بين سنوات 1955 و 1961، نزل من الجبل (الأطلس الكبير بثلوجه الكثيفة) إلى المدينة (مراكش). بذات تقنيات الجزء الأول، حيث يحكي الكاتب قصة "الولد"، الذي انتقل من عالم علائقي بدوي بسيط، إلى عالم علائقي جديد، مديني، مركب ومختلف. وكيف ظلت علاقته ب "الوالد" علاقة توادد رائقة، شفيفة، عميقة إنسانيا، وعلى درجة عالية من الجمال التربوي. "متعة القراءة" أخيرا، كامنة في جرأة الكاتب على أن يقول قصة ذلك الفتى، بذات الرؤية الإنسانية والوجدانية والمعرفية، التي كانت لذلك الفتى. أي أنه لم يمارس وصايته عليه، اليوم، وهو الكاتب والمؤرخ والروائي والصوفي والوزير. وهي جرأة أدبية (بالمعنى الأخلاقي للكلمة) وثقافية جد عالية. لأن الغاية كانت، هي عرض قصة حياة في مرحلة معينة من عمر الكاتب، هي مرحلة الفتوة وأول الشباب، وفي مرحلة انتقالية جد دقيقة ومكثفة مثل مغرب ما بعد الإستقلال في سنواته الست الأولى، بكل الصخب والتدافع السياسي والقيمي والسلوكي الذي ميز ذلك المغرب وأولئك المغاربة، الناهضين حينها من أجل التصالح مع شروط المدنية الحديثة، كما أخدتهم إليها "صدمة الإستعمار". ها هنا، تكمن احترافية الكاتب العالية، وأيضا متعة الكتاب كله. قراءة "والد وما ولد ? الطريق إلى المدينة"، هي سفر في معنى حياة لفرد وجماعة. حيث يهبنا الكاتب متعة تمثل وفهم، كيف تحقق انتقال مغربي في الزمن وفي الأمكنة، لممارسة الحياة، بين زمن الإستعمار وزمن الإستقلال. كيف تبدلت أشياء عدة في وعي المغربي بذاته. كيف تحققت انتفاضة سلوكية للمرأة، مع الإستقلال، الذي صار يعني لها الحرية في ممارسة أسباب وجودها بشكل منطلق. كيف أصبحت السينما فضاء للتربية العمومية على قيم جديدة، وكيف أن الإستهلاك الثقافي للمغربي مدينيا، طالته تبدلات، تذهب في اتجاه التصالح مع أسئلة العالم، بشكل مختلف عن انغلاقية منظومة التواصل الثقافي والسلوكي التقليدية قبل الإستعمار، لباسا وأكلا وعلائق واستهلاكا. بل إن الأجمل في النص، كيف أننا نسافر مع تبرعم ذات الفتى "الولد أحمد التوفيق" في سنه بين 12 و18 سنة، ضمن "نظام المدينة"، وكيف تنمو فيه قيم سياسية، وقيم أخلاقية، وقيم معرفية فكرية، وقيم سلوكية. كيف أنه يتفاعل مع سؤال "الأنا / الذات"، وسؤال "الآخر/ الجماعة". كيف يتفاعل مع أول الحب، مع غلالته الشفيفة البكر اليافعة. كيف يتأمل يتمه الباكر من جهة أمه، ثم زواج والده، الذي لم يتم سوى بعد موافقته هو، ترجمانا شفيفا عن شكل علاقته الآسرة مع والده، وجدانيا وإنسانيا ووجوديا. كيف أنهما في نهاية المطاف، كانا صديقين باكرا، مما يعكس علو كعب الوالد التربوي، حتى وهو منتم لثقافة بدوية فلاحية. في ذلك التبرعم، نتابع شكل تعالق صداقاته التي ستدوم عمرا كاملا إلى اليوم، وأن الكثير من تلك الصداقات لم ينهها غير الموت. كيف تشكل وعيه السياسي، من خلال الإحتكاك بالحركة الإستقلالية والحركة الشورية ثم الحركة الإتحادية بمراكش، عبر حضوره لقاءات خاصة أو عمومية، مع كل من مولاي عبد الله إبراهيم، الشهيد المهدي بنبركة، وصديق والده، الذي كان منتظما معه في خلايا الحزب محمد الحبيب الفرقاني (الغيغائي). ثم كيف قاده القدر أن يحتك باكرا ضمن مساره الدراسي والتكويني للتخرج معلما، بالأستاذ عبد السلام ياسين (مؤسس جماعة العدل والإحسان سنوات بعد ذلك). كيف امتلك جرأة النشر والكتابة باكرا في جرائد المعارضة وفي الجرائد الوطنية، وكيف فاز بجائزة أدبية باكرا وهو تلميذ في الإعدادي. كيف قاده القدر لتجدير العلاقة مع أساتذة مشرقيين (مصريين، لبنانيين وفلسطينيين)، وعبرهم تفاعل مع الناصرية، ثم حركة المقاومة الفلسطينية، وهو لما يزل في يفاعته الأولى بمراكش. مع لغته الواصفة، نبني مع توالي الصفحات، شكل تحقق تحول سوسيولوجي مغربي، لما بعد الإستقلال. تحول اقتصادي، تحول عمراني، تحول فني، تحول سلوكي، تحول تجاري. وأن المغاربة أولئك، لم يكونوا منخرطين فقط في معمدان السياسة والتدافع بين مشروع الدولة التي تسعى بكل قوتها التاريخية أن تعيد بناء ذاتها وأداتها الإدارية التنظيمية، وبين مشروع نخبة الحركة الوطنية، ذات الإمتداد المجتمعي والشرعية التاريخية والنضالية، من أجل تحقيق التوازي بين تحرير الأرض من الأجنبي وتحرير الفرد المغربي من أسباب التخلف. المغاربة أولئك، لم يكونوا منخرطين في ذلك فقط، بل نكتشف أنهم كانوا منخرطين عميقا، في التفاعل مع أسباب حياة سلوكية جديدة. مما يجعلنا أمام مادة جد غنية للتحليل التاريخي والتحليل السوسيولوجي. في الكتاب الرائق فعلا "والد وما ولد ? الطريق إلى المدينة"، نتتبع أيضا تجربة حياة الفتى أحمد التوفيق، وهو أعزل وحيدا في عالم المدينة، مراكش. فسقف العائلة بعيد، هناك في قرية "إمرغن" الأمازيغية الشلحة، بالسفح الشمالي للأطلس الكبير (كان الفتى كثيرا ما يسافر إليها عبر دراجة هوائية في قصص مغامرات مثيرة). وستكبر غربته حين توفيت والدته، وولج إلى يتم مضاعف، يتم الأم كمعنى ضليل للوجود، وهو وحيدها من الأبناء الذكور. ثم يتم ثقافي سلوكي، هو الذي ولج إلى مراكش بقلب الجبل، الذي فيه رهافة الثلج، فيه رائحة السفرجل، فيه لون زهر اللوز، فيه عذوبة ماء الأعالي الرقراق دوما باردا. ليجد أن مراكش غير، لأن المدينة طبيعيا وسوسيولوجيا مختلفة. فكان أن غاص الفتى في الدراسة ليكون دوما من الأوائل، كتحد أمام الذات وأمام العالم وأمام الأقران باختلاف جدورهم الإجتماعية ومستوياتهم العائلية. مثلما انغمس بشغف في القراءة وفي السينما، ما جعله في تلك السن الباكرة، يقرأ أمهات الكتب والروايات العالمية، وأن يصبح له (وهو لما يصل بعد إلى 16 سنة) موقفا أدبيا ومعرفيا منها. حيث نكتشف كيف أنه ظل منتصرا للأدب الروائي الروسي، أكثر من الأدب الفرنسي أو الإنجليزي. هل لأن تجربة الحياة التي صدرت عنها شخوص الأدب والرواية الروسية، هي حياة مركبة يؤطرها وعي قلق للتحول الإجتماعي، مثل التي كان الفتى أحمد التوفيق يواجهها ويواجهها جيله من المغاربة؟. مثلما نكتشف، كيف تعايشت فيه الحداثة مع إرثه التقليدي، كيف أنه وهو يقرأ دوستويفسكي وماركس، بقي محافظا دوما على صلواته والتزامه الديني. وكيف أنه رغم احتكاكه بالسؤال الأمازيغي، لم يجد أبدا غربة بين أمازيغيته ومغربيته وعروبته. إن ذلك كله، هو بعض قليل من معنى "متعة القراءة" التي قصدت من تتبع صفحات كتاب الدكتور أحمد التوفيق الجديد، الجزء الثاني من سيرة طفولته وشبابه "والد وما ولد ? الطريق إلى المدينة". وهي المتعة التي أطمع أن أغريكم بها، لأنه جديا، كتاب ممتع على أكثر من صعيد. "والد وما ولد: الطريق إلى المدينة". المركز الثقافي المغربي، بيروت / الدارالبيضاء (304 من الصفحات، من القطع المتوسط 14/ 21). تقديم الدكتور أحمد التوفيق لكتابه الجديد: قصة كتاب سجلت ذكريات طفولتي في كتاب سابق وضعت له هذا العنوان الرئيس نفسه: والد وما ولد، مشفوعا بعنوان فرعي هو: »طفولة في سفح الظل«، حكيت فيه بعض ما علق بذاكرتي من الحوادث والوقائع في ما بين عمري في سن الخامسة، وعمري في الثانية عشرة، وتوافق في التاريخ مابين عام 1948، وعام 1955. وفي هذا الكتاب الثاني الذي بين يدي القارئ، أحكي ذكريات حياتي في السنوات الست الموالية: من آخر عام 1955، الى بداية خريف 1961. كان مسرح ذكريات المرحلة الأولى هو قرية امرغن، على السفح الشمالي (سفح الظل) للأطلس الكبير. أما المكان الذي شهد معظم ذكريات هذه المرحلة الثانية فهو المدينة، مدينة مراكش التي انتقلت إليها في شهر دجنبر عام 1955. لقد احتفظت بهذا الكتاب الثاني بالعنوان الرئيس نفسه: والد وما ولد، لأن رعاية الوالد، والدي، لولده الذي هو أنا، هي مدار الحكي والحكاية. لكن العنوان الفرعي لهذا الكتاب الثاني »"الطريق الى المدينة« "يحيل على انتقالي الى عالم مختلف عن عالم القرية، مع كل تبعات هذا الانتقال والتحول، لا على سبيل الاكتشاف وحسب، بل على سبيل المعاناة أيضا، إذ أن الشعور المعبر عنه بهذا العنوان الفرعي هو الاقتناع بأن مسيرتي نحو عالم المدينة قد لا تكون وصلت الى نهايتها حتى يومنا هذا، وأنا أشارف السبعين، لأن المدينة في تجربتي ليست مجرد مكان يسافر إليه، بل هي أحاسيس ولغة، وانفعالات وتصورات وأحكام، وهي جوانب بقيت في فكرتي وسلوكي متحفظا على كثير منها، أو دون الاطمئنان الكامل إليها. قد لا تكون مدينة مراكش نفسها وصلت في الطابع الحضري الخالص الى حالة الإنقطاع الكلي في العقلية والسلوك عن حالة الريف والبداوة، اذ قد يلاحظ نوع من هذا الاستمرار حتى عند أقدم بيوتات المدينة المذكورة، فأغلبها لم تصل الى حد القطيعة مع خلفياتها البدوية، فمعظم سكانها إما أمازيغ (شلوح) (بربر الجنوب)، جاؤوا من الجبال، وإما أعراب من القبائل السهلية المجاورة. والسكان من الفريقين إنما سبق بعضهم بعضا الى داخل الاسوار، وتبلدوا كما يقال. لذلك تجد الأقدم إزاء القديم متورطا في موقف المدافع الخائف من البداوة المطاردة له، حيث لم يقدم عهده بها. فهل كان انقباضي عن كثير من أحوالهم من باب الرفض والترفع الارستقراطي البدوي الموروث، أم بسبب العجز النفسي عن حذق بعض شطارة أهل المدينة؟ لست أدري. تنطبق المدة المغطاة بهذا الحكي على مرحلة تحولات »صاخبة« في حياتي، لكونها أعوام مراهقتي الصعبة الهائمة الولهى، وأعوام انتقال المغرب كله من عهد الاستعمار الى عهد الاستقلال، وأعوام التحول الكبير في عائلتي بالقرية، اذ ماتت أمي وماتت ضرتها، زوجة أبي الثاني، وتزوج الوالد بامرأة العم الذي كان آخر شيخ لقبيلته من الطبقة البائدة حتى توفي. وفي هذه المدة، أيضا، تنامى لدي وعي أكبر بقراءة الأحداث الجارية في حياتي على أساس أنها مكتوبة حتي في أدق جزئياتها بيد تكاد أناملها الرقيقة تتبدى لي من وراء حجاب مخملي دقيق، بل تنامى في داخلي حوار مع تلك الأصابع، لا أحكمه ولا أستدعيه حسب الرغبة، وإن كنت أنصت منه لأصوات في باطني لا أتنبأ بها في كل وقت متى تتكلم، تحتلني، فأحس بها بدرجات على اختلاف أوقات الكثافة والاستبلاد أو الشفوف والاستعداد، وفي كثير من الأحيان لا أتبين خطاب تلك الأصوات الباطنية إلا بعد فوات وقت معين، أو فوات الأوان. إن السير الذاتية للأشخاص المتميزين تهم بقدر خطورة وقائعها، أو عمومية تلك الوقائع، وقد يزيدها حسن السرد طلاوة. أما السيرة الذاتية لشخص عادي فقد لا تهم إلا من حيث هي عادية، وقلة الاكتراث بما هو عادي فوت علينا أصالته المحتجبة، ذلك أن تعبير »الحياة العادية« لا يخلو من إشكال، ما دامت تستوقفنا كل حكاية حياة، وإن كانت تشبه حياة الغالبية العظمى من البشر، بمشاعرهم وعواطفهم ونوازعهم وتخبطهم في دروب الحياة ومنعرجاتها، إذ إن سردها قد يكون مثيرا للفرجة، بل وحتى للتأمل، حتى وإن بدا سخيفا أو مبتذلا في بعض الأحيان. وقد يرجع ذلك لكون صاحبها الكاشف لها، يسمح ويرضى بتعرية بعض حال نفسه، معرضا إياها عن طواعية لشيء مما جبل عليه الناس من حب الفضول والميل إلى الفرجة، بل وحتى الشماتة والاغتياب. كتبت كتاب الذكريات الأول استجابة لحاجة شخصية، وهي الرغبة في تكريس امتنان وعرفان في حق الوالد، يكون لبوسه من قبيل الحنين والالتذاذ بالحكي والاسترجاع، ومعناه أنني لم أر في بداية المشروع أهمية للوقائع التي أحكيها إلا بالنسبة إلى من يود الإطلاع على هذا البرور بالوالد، وبالنسبة إلى من يريد أن يتخذ على ذلك شهودا، وهم بالنسبة إلي أولادي والأقربين من ّلي. ولكنني دهشت وسعدت في آن واحد عندما علمت أن عددا كبيرا من القراء، من مختلف البلدان، قد شهدوا بأنهم تمتعوا بقراءة ذلك الحكي الأول، بل قال بعضهم إنه كان يقرأ ويقول: هذا أنا، فقلت قد يكون ذلك بسبب الصدق والاجتهاد في التذكر والسرد، والصدق يمنح الأمور قيمتها، وإن كانت صغيرة تافهة بين شؤون هذا العالم. من هذا المنطلق الخاص والعام أيضا أعيد الكرة وأكتب مرة أخرى. و على غرار النهج في الكتاب السابق، فإن الكاتب يحكي عن نفسه كما لو كان الأمر يتعلق بغائب قبل الأجل، اسمه «الولد». أحمد التوفيق