(والد وما ولد)، سيرة أو توبيوغرافية روائية لطفولة الكاتب أحمد التوفيق، تبتدئ كرونولوجيا من سنة ولادته في 1943.. وتنتهي في دجنبر 1955، وعمر الولد ينيف على اثنتي عشرة سنة، هي جماع الطفولة المسرودة في سفح الظل بقرية إمرغن الرابضة في عمق جبال الأطلس الكبير. ولقائل هنا أن يقول، إن النص سيرة غيرية – بيوغرافية لطفولة الكاتب، مسرودة بالضمير الثالث (هو) من الألف إلى الياء. ففي فاتحة النص نقرأ / - عندما ولد محمد (والد الولد) في بداية العقد الثاني من القرن العشرين، كان والده بورخيم قد فارق الحياة منذ ستة أشهر): ص9). وفي خاتمته نقرأ / وبوصول الولد إلى المدينة (مراكش) انتهت الحلقة الأولى من ذكريات صباه الأول، لتبدأ حلقة جديدة، في بيئة جديدة). ص274). لكن الضمير الغائب هنا، ليس سوى قناع شفاف للضمير الأول المتكلم، - كصنيع طه حسين على سبيل المثال، في رائعته الرائدة (الأيام). ومرد ذلك، إلى أن الكاتبين أحمد التوفيق وطه حسين، قد كتبا عمليهما بعد أن أوغلا في العمر، وأمست ذكرياتها الخوالي أثرا بعد عين. هي إذن سيرة ذاتية – روائية يشيد أحمد التوفيق من خلالها، ما يشبه السرادق أو القداس الإحتفائي بقريته إمرغن وبآل واحمان القاطنين فيها. والإنسان موكول كلف بمكانه وزمانه وآله. وما حب الديار الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديار. وقطبا دائرة هذا النص، كما يبدو من العنوان، هما الوالد والولد. وإن كان الولد في الأساس هو بوصلة النص ومركز دائرته ومرآته المقعرة التي تنعكس عليها الأحداث وتتقاطع عندها الأزمنة والأمكنة. والعنوان مستقى قرآنيا من سورة البلد، الآية الثالثة / - (لا أقسم بهذا البلد، وأنت حل بهذا البلد، ووالد وما ولد، لقد خلقنا الإنسان في كبد). وللقرآن حضور جلي وبهي في هذا النص، وسلطة روحية عميقة في النفوس، كما أن اللغة التي كتب بها النص، تنضح بمسحة قرآنية ندية. ولا غرو، فالولد أحمد، قطب النص ومحوره، ارتوى بنمير القرآن. منذ نعومة أظفار حيث حرص الوالد على إلحاقه بالكتاب وتربيته تربية قرآنية. والمفارقة الجميلة اللافتة، أن القرآن يحضر هنا بجلاء وبهاء وتنشد إليه الأسماع والأفئدة ، في فضاء أمازيغي صرف، لا يعرف سوى الأمازيغية وسيلة للتواصل والتداول. وهذا هو العمق الروحي تماما للمغرب، أمازيغ أقحاح، يقدسون القرآن ولغة القرآن. لايرتهن النص للوالد والولد حصرا، ولا يدور فحسب في فلكهما الخاص، فلك الأبوة والبنوة، بل هو محفل سردي ووصفي إتنولوجي وسيكولوجي عميق ودقيق وشائق، لمرحلة حساسة من تاريخ المغرب الحديث بكل مستجداتها والتباساتها، وغوص شفاف وذكي في تجاويفها وتضاعيفها. ولعل موهبة أحمد التوفيق السردية وحنكته التاريخية، كانتا وراء ذلك. لأجل هذا عنونت هذه المقاربة ب (حفريات الولد، في نص والد وما ولد). وكلمة (حفريات) لم أبتدعها من عندي، ولكن استقيتها من الكلمة التقديمية للكاتب، حيث يقول / (..وهنالك حرص على الحفر عما يمكن أن يكون تأثير تلك الوقائع في تشكيل شخصيته الأولى وتقعيدها). إن النص بالفعل، حفر عميق وشاعري في الذاكرة والوجدان والجسد، أو هو حفريات الولد في ماضيه وماضي الوالد والبلد، حفريات في التاريخ والجغرافيا والنص لذلك، يحقق لقارئه المتعة والفائدة في قرن واحد. المتعة من جهة لغة حكية الجزلة وطلاوة هذا الحكي. والفائدة من جهة ثراء وتنوع محكيه ومخزون ذكرياته وتداعياته التي تجلو خبايا المرحلة. والنص لذلك أيضا، يعد وثيقة تاريخية إلى جانب كونه سيرة روائية. وما يسترعي النظر في هذا النص الموشوم بحناء التاريخ، أنه مكتوب بسيولة سردية – نهرية من مبتدئه إلى خبره، دون توقف أو استراحة أو تغيير لوجهة السرد، وكأنه يقوم فعلا برحلة مديدة بين جبال الأطلس الكبير ولشعابها ووهادها. إنه يتشكل كتابة وبناء، من جملة سردية طويلة ومسترسلة تنداح دون توقف، على امتداد 280 صفحة من القطع المتوسط، خالية تماما من أية محطات استراحة، مرقمة أو معنونة، ولا يتنفس القارئ صعداءه الأخيرة إلا في الصفحة الأخيرة. وبدهي أن نصا باذخا بهذا الثراء الحكائي، يصعب عبوره ونفض مكنوناته ومخزوناته، في مقاربة – عجالة محددة ومقيدة. لكن يمكن إجمال المادة الحكائية، السردية والوصفية في التيمات والمحكيات الأساسية – الناتئة التالية / - الحياة الإجتماعية القبلية والعائلية في القرية، القائمة على نمط العيش التقليدية، الزراعي والرعوي. - العوائد والطقوس الإجتماعية القروية في الأفراح والأتراح - طقوس ختان الأطفال، وحلق رؤوسهم وترك خصلة في الجنب. - وصف الملابس والحلي وطرائق الطبخ والأكل. - أجواء العيش وحفظ القرآن في الكتاب. - علاقة عائلة آيت واحمان بالزاوية التيجانية. - التلصص على بعض الكواليس والأسرار الجنسية في المحيط القروي. - موقع ودور بعض العائلات اليهودية الأمازيغية المتنقلة حرفيا في جبال الأطلس. - مظاهر الشعودة والسحر، وزيارة بعض الأضرحة لمآرب شتى. - ظاهرة الهداويين والحواة الذين يطوفون على القرى. - وصف بعض الآفات والأمراض المتفشية في القرية. وفي مقدمتها داء القرع وأمراض العيون. - طقوس استقبال رمضان وأداء فريضته. - موسم جمع الزيتون وعصره. وموسم الحصاد والدراس: وطقوس الإحتفاء بهما. - الألعاب التقليدية والطبيعية للأطفال، أوقات فراغهم. وأنا أورد هذه التيمات والمهيمنات الحكائية كما أتفق، لأنها واردة أصلا في النص كما أتفق، بحسب بندول ذكريات وتداعيات الولد أحمد، المتخفي وراء ضمير السارد - الغائب، أو الرؤية من خلف، حسب جان بويون. ولعل هذا هو السر أو بعض السر الكامن وراء السيولة السردية – النهرية في النص. هذا، والنص يغذ السير صعدا. في برنامجه الزمني – السردي، يرصد أيضا، وبدقة وذكاء، طروء بعض «البدع الحديثة» على القرية، والتي كانت علامات ونذرا لمخاض المغرب الجديد وتحوله في الزمان والمكان / الساعة – السيارة –المسجلة –الراديو – الكانتينة.. ولعل أهم مظاهر وأشكال هذه (البدع الحديثة) الشاهدة على التحول الحداثي المغربي، هو التحول من الكتاب القرآني – التقليدي، إلى «السكويلة» إلى المدرسة العصرية الحديثة، حيث تحضر كتب مدرسية جديدة وقشيبة من قبيل / (bonjour!, ali! bonjour, Fatima) زمنيا، تدور وقائع هذا النص بين 1943 و1955. وغني عن البيان، أن هذه المرحلة كانت حساسة وساخنة، شهدت أحداثا ووقائع كبرى، كنهاية الحرب العالمية، ونكبة فلسطين في 1948. وثورة 23 يوليه المصرية، وخلع السلطان محمد الخامس وتنصيب محمد بن عرفة بديله، واشتعال شرارة المقاومة والحركة الوطنية، وعودة محمد الخامس من المنفى وإعلان الاستقلال. وكان طبيعيا أن تتردد أصداء هذه الوقائع والأحداث في النص، على هذه النحو أوذلك. لنقرأ، على سبيل المثال، الحوار التالي بين أحد اليهود الأمازيغ باروخ، وكبير الخدم إبراهيم، عقيب نكبة 1948 / - (فإذا باليهودي يتشجع ويقول: - نحن اليهود! - ماذا جرى لكم أنتم اليهود؟! - صار عندنا سلطان. - كيف صار عندكم سلطان، وأين؟! -غلبنا المسلمين ودخلنا بيت القدس.) ص .104 كل هذا السجل الزاخر العرم من الوقائع والأحداث والتحولات والتفاعلات، يسرد ويعرض من خلال عين وذاكرة طفل صغير مدلل رخو البنية اسمه أحمد. يقول عنه السارد في صفحة 174 / (إن أكثر عضو هشاشة في العائلة كلها، هو هذا الولد السريع العطب). لكن هذا الولد الهش السريع العطب، هو الذي سيكون له شأن، في قابل الأيام هو الذي سيطرز لنا نصوصا، منها أخيرا وليس آخرا، (والد وما ولد).