أن ننعت الكتاب الجديد للروائي والمؤرخ المغربي أحمد التوفيق "والد وما ولد" بأنه سيرة ذاتية، فيه الكثير من الدقة، رغم أن الكاتب أو الناشر، لم يضع أية إشارة لتجنيس الكتاب. لكن الأدق هو نعته ب"سيرة الطفولة" مادام يقدم سردا استرجاعيا لسنوات الطفولة. فالسارد "يتذكر ما عاشه أو سمعه أو فهمه أو أحس به حين كان عمره بين السنة الخامسة والثانية عشرة" ( ص.7). فالطفولة تمثل لحظات نموذجية في حياة كل كتاب السيرة الذاتية ، أقرب الأجناس الأدبية إلى رواية التعلم ، التي تتأسس على مراحل تكون الفرد واندماجه في العالم. فالطفولة ، كما تبرز في "والد وما ولد" أو "خارج المكان ""لإدوارد سعيد مثلا، باعتبارها بلاغة نموذجية يروم الكاتب الكشف عنها. إلى درجة أننا يمكن أن نجزم بأن السير الذاتية هي التزام بالإجابة بتفصيل عن هذه الأسئلة: أي طفل كنته؟كيف كنت أتفاعل مع محيطي؟كيف كنت أتصور المستقبل؟ ما هي الاضطرابات التي كنت أشعر بها؟ وماذا بعد سن العاشرة؟ كيف بدأت أتعاطى الكتابة؟ ما هي شجرة النسب التي أنحدر منها؟ ما هي اعتزازاتي و تجليات غروري كطفل؟ ما هي أنواع فضولي؟ إن هذه الأسئلة ، وغيرها كثير، تؤكد على الأهمية القصوى للحظة الحياة الأولى ، لحظة السرد الأولى: محكي الطفولة. عند الشروع في قراءة "والد وما ولد" لابد أن نتوقف عند تصريح "أحمد التوفيق" بأنه سيتناول فترة عمره الممتدة بين الخامسة والثانية عشرة؟ وجان "بول سارتر" في سيرة طفولته "الكلمات" يعلن أيضا أنه يكتب عن السنوات الاثنتي عشرة الأولى من حياته؟ إنهما ، "سارتر" و"التوفيق" ، يحبان طفولتهما . لكن ماذا بعد سن الثانية عشرة؟ على كل حال فهما لا يفعلان سوى اتباع مسار "جان جاك روسو" الذي أدرك أهمية الطفولة في تكوين الشخصية فخصها بمكانة مهمة في سيرته الذاتية "الاعترافات"، بحوالي قرن من الزمن قبل شيخ "فيينا" الطبيب "سيغموند فرويد" . ألم يصرح " أندري مالرو" في سيرته الذاتية " مذكرات مضادة" قائلا : "كل الكتاب الذين أعرفهم يحبون طفولتهم". كان" أحمد التوفيق" في حاجة ملحة إلى اللحظة الأولى ، الذكرى الأولى ، التي تساعده فعليا على الانطلاق في سرده . وذلك أمر طبيعي. فكل كاتب يحتاج إلى تلك اللحظة. وعليه أن يضفي عليها نوعا من القداسة ، و أن يثقلها بدلالة كلية ومهيمنة. وقد عثر عليها. إنها ولادة والده "محمد" ،الذي يذكر في النص بنعت " الوالد" ، في بداية العقد الثاني من القرن العشرين ، في قرية " إمرغن" إحدى قرى الاطلس الكبير ، قرية توجد في منتصف الطريق التي كان يسلكها خلفاء "الدولة الموحدية" في القرن السادس الهجري ، كلما توجهوا جنوبا من عاصمة المغرب الكبير والأندلس ، مدينة "مراكش" ، في ركب زيارتهم لمدينة "تينمل" مهد دولتهم ومدفن إمامها المؤسس ، " المهدي بن تومرت". وبذلك يثبت التوفيق أهمية هذه القرية المجهولة ، وبعد ذلك يضع شجرة عائلة "ايت واحمان" ( أهل واحمان) وموقع الوالد فيها. وهي غائلة عرفت العديد من الشيوخ : محمد. بروحيم (ترخيم لعبد الرحيم عند البربر). الحسين. محمد .عمر. بعد أهمية القرية تأتي أهمية النسب . ولذلك أهمية سردية خاصة تكمن في مرونة الانتقال إلى اليفاعة وحفظ القرآن .فسيرة " والد وما ولد" تتضمن فصولا مهمة من محكي التعلم في ذلك السفح البعيد. إن الحديث عن التعلم والقراءة والكتابة كانت من بين اللحظات المفضلة عند التوفيق. وهي كذلك عند أغلب كتاب السيرة الذاتية. ولذلك دلالة قصوى. فعالم الحفظ على يد مشيخة من العلماء والفقهاء يرمز إلى الانتقال إلى النضج واليفاعة لتناسي هشاشة السنين الأولى. هناك صفحات مشوقة عن الحفظ ومحو الألواح وطلائها بالصلصال ليكتب فيها التلميذ جزءا جديدا من القرآن إملاء من المعلم " سي عابد" الذي يرمز للهيبة و الوقار والسلطة ، " و أبرز صفاته المعتبرة لدى الناس أنه كان لا يلتفت في مشيته ، وإذا تكلم كان كلامه ذا صخب ، ولكنه كالرعد الحاد له صوت مهيب دون هرج ، وفد يرعب إذا سمع من بعيد" ( ص. 125). إن أهمية ال " أنا" لا تكتمل دون التفصيل في سنوات التحصيل العلمي ، ودون الوقوف عند المعلمين والعلماء الذين حولوا ذات " أحمد التوفيق" إلى اسم علم. فحفظ القرآن لابد أن يتم على يد معلم مثل " سي عابد" . إن البربر يكرسون أعمارهم لحفظ القرآن وإتقان قراءته كجزء أصيل من ثقافتهم، وشطر من زمنهم، ومقوم من انتسابهم للإسلام وللكون من خلاله (ص. 129). إن هيبة الطبيعة الظليلة. وهيبة العائلة والنسب. وهيبة المعلم، هي التي أعطت هذا المؤرخ الذي وقع كتابا بهذا الاسم: أحمد التوفيق، الذي أكدت سيرة طفولته أن النسب يدل إلى المكانة الاجتماعية، والتعلم يدل على الرتبة العلمية. على أن هناك عناصر أخرى صنعت أحمد التوفيق. وذلك يحتاج إلى كتاب آخر.