الحر يعلن نفسه بطلا لا يقهر هذه الأيام، فيتراقص ميزان الحرارة لتعلو درجاته علوا كبيرا، ويَهُبُّ الهواء الصحراوي السَّاخن بالمدن والقرى، وكأنه في اشتياق لوجودنا، قادما إلينا لِيُململ ذاكرة التاريخ، لَعلنا نَتذكر وطن الأجداد، وعَبق رحلة الشتاء والصيف. الحر ليس مجرد تكشير الشمس عن أنيابها، للدخول في ضيافة زمن موسم الصيف، بل أضحى عاملا مؤثرا في نمط حياة المجتمعات والشعوب، في مأكلهم ومشربهم كما في لباسهم ومرقدهم. هذا الحر، هناك من يرى فيه نعمة تُخرجه من سُبات مَوسم البرودة طوال السنة، وتنتشله من عتمة المَساكن والدُّور المُظلمة إلى عالم الفضاء المشمس الرحب، لتلفح الشمس الجسم وتُغير لونه، وتُكسبه دِفئا؛ في المقابل هناك من يرى فيه نِقمة تهلك نسل المسنين، ورمزا للصفرة والجفاف والقحط، وجَمْرَة تُشعل خشيش الأرض، لتلتهم الحرائق أشجار الغابات الممتدة في الطبيعة. فهذه المنظمة العالمية للتغذية والزراعة ترتعد من قدوم الحر، فالجفاف يضرب أطنابه بالأراضي الخصبة، ويحبس الغيث والزرع، فتسقط البلدان في المجاعات، ونقص الغذاء، وارتفاع ثمنه في الأسواق. الجسد والحر ثنائية متلازمة، تكشف عن طبيعة العلاقة الملتبسة بينهما، فجسد الإنسان الضعيف يستسلم لقهر الحر، لينهار وتخور قواه مهزوما مدحورا، كما يستسلم لوخز البرودة الشديدة، التي تكشف عن ثنائية النقيض، في دلالة عميقة تحمل أسرار الحياة، وقوة الخالق. الماء يغدو مقصد الناس وسعيهم، فتزداد قيمته واستهلاكه، إذ يبحث عنه بأي ثمن، للشرب من ينابيعه، فتبتل العروق، وترتوي خلايا الجسد، ويهنأ البشر بِرَطب برودة الشواطئ والأنهار والشلالات وظلال أشجار الغابات، ورياح سفوح السلاسل الجبلية. اقتصاديات الحر، هكذا يمكن تسمية ما أصبح بات بفرزه فصل الحر من أنشطة تجارية مهمة، فهو يعبئ شركات الملابس العملاقة وعلاماتها التجارية لتصميم الألبسة لمختلف الأعمار والأذواق، ويدفع شركات الأدوية ومستحضرات التجميل لصنع موادها، مقاومة لأشعة الشمس، وحفاظا على بشرة الإنسان، في سعيه إلى بلوغ صور الجمال. موسم الحر فرصة ذهبية للبلدان السياحية لاستقدام السياح، بحثا عن فسحة البحر، وممارسة مختلف الأنشطة اللصيقة به، من صيد للأسماك وما شابه، إضافة إلى الرياضات المائية؛ فضلا عن أنه بات موعدا للمهرجانات الفنية والثقافية بمختلف المدن والأماكن السياحية. الليل يغدو فسحة البشر، وزمنا للحركة والتجوال، لعل الإنسان يستدرك ما فاته في وقت الظهيرة وما بعدها، حيث تقصف الشمس أشعتها، فيصبح الخروج تحتها مخاطرة، ومحنة للجسد. الحر مناسبة بدورها لشتى الكائنات الحية للخروج للعلن، لتنافس وجود الإنسان على فضاء سطح اليابسة، فالحشرات ترفرف وتجوب مختلف الأماكن، فيخشى من لدغاتها، ويهرب من سعارها، كما يستأنس بطنين صوتها. ثمة شعوب ترى في لهيب الحر إعلان ناقوس خطر، لمستقبل كوكب الأرض، وللإنسانية جمعاء، ليأخذ هذا الأمر بعدا بيئيا، اتسع صداه ومداه في السنوات الأخيرة، للدعوة إلى الحد من سباق التصنيع، وتلويث الطبيعة، في انتهاك لحرمتها من طرف سلوك الإنسان المفرط في الأنانية، طمعا في استغلال ثرواتها. ثقافتنا تنظر إلى الحر على كونه جزءا من الطبيعة، وقدرا للمشيئة الإلهية، وآية من آياتها، ننحني لجلال قدرها، وندعو رحمة الله أن تنقذنا من حر جهنم، يوم لا ظل إلا ظله. هي صنوف الفواكه الناضجة التي جنتها أيدي الإنسان من خصب الأرض، تظهر على قارعة طرقاتنا كما في الأسواق، لترمز إلى خيرات حر فصل الصيف، التي تتيح للمرء الاستمتاع بمذاقها، وعذوبة مياهها، وطيب فضلها على جسم الإنسان ونفسيته. لم يسلم هذا الحر من تهم بعض المهتمين بموضوع التنمية، فهو سبب ومبعث مظاهر التخلف، إذ إن شعوب الجنوب التي ترزح في الفقر والتخلف يغلب على طقسها الطابع الحار، لذلك فدول الشمال ترتعد من سطوته، وتخاف أن يتحول هذا الحر إلى مجالها الجغرافي، فترتخي عضلاتها عن العمل، كما تخبو عقولها عن التفكير. لا يمكن إلا أن تملكنا الدهشة والرهبة ونحن نقف أمام هالة الشمس العجيبة، وقدرة خالقها المتناهية في العظمة، وكوكب الأرض يحني جناحيه ليدور حولها، كأنها الأم التي ترعى أبناءها المتحلقين حول حضنها، وهي تمدهم بوقود الطاقة وإكسير الحياة.. فلتحيا الشمس.