ماذا تريد؟ أتبحث عن بقايا النفس أم بقايا الناس؟ الأرض لها ألوان كما السماء، والأشجار الغائرة في الانهيار والنمو والبسوق والانخفاض، تبدو كملامح الأموات النابزة من شقوق المقابر. النهر الجميل المتدفق من النبع إلى المصب، تتخلل شفافيته طحالب متعفنة تزخر بالنتانة والتقزز، تنتابك هواجس متعفنة تلتصق بالطحالب لتنتقل إلى مساحات النفس والروح، هي الأشياء، هي الذات، هي الإنسان. عن ماذا تبحث؟ في هذا الأفق المشدود إلى نوازع وغرائز، تبدو وتتشكل كلها في صدور البشر، في صدور الناس، المغلفة بغرائبية الغابة والوحوش، البسمة لها ثمن، والخدمة لها ثمن، أتدري، كيف تتشكل النفس بالداخل وتتقلب وكأنها على مرجل، لتتقلب صفات الغدر والخيانة والغرور والأنانية والجشع والبخل، لتطفو على السطح المغطى ببسمة تكاد تمزق حجب الحياة. الناس هم الناس، فيهم ما يكفي لهدم الجبال، وفيهم ما يكفي لإقعاد الجن والشياطين، فإما أن تكون منهم، مترعا بالكذب والخيانة والغدر والغرور، وإما أن تبحث عن جزيرة عذراء لم تطأها قدم بشر، لتعيش هناك، مع الطبيعة والفطرة، مع الحياة التي تتكون بتناغم وتواتر قدري منتظم، وإياك، إياك، أن تحاول التأثير بذلك التناغم والتواتر. – لكن الناس فيها خير، فيها طيبة، وفيها مقابل ما ذكرت من الصفات ، صفات أخرى. – حالم أنت، تماما كما الشعراء وكما الرواة، أتحدثني عن الناس؟ عن البشر؟ أم تحدثني عن مجهول لا اعرفه، أم عن وجود تخترعه المخيلة الخصبة، في حين أن الحقيقة والواقع ينفيان وجوده. الناس أيها الحالم الراقد في سبات الهوس، لا تعرف الأشياء بعيدا عن ثمنها، هل تعرف كيف خاطب الخالق الناس؟ أنت تعرف ذلك، لكنك لا تجرؤ على اقتحام هذا الميدان، ليس جهلا، ولا غباء، بل لأنك إنسان، يخاف من الاعتراف بحقيقته، يخاف من تعرية ذاته. الخالق – وهو العالم الخبير – خاطب الناس بالترغيب والترهيب، رغبهم بالجنة وما بها من الحور العين، اخبرهم بالأنهار الجارية والأرزاق الوفيرة والسعادة التي لا تنتهي ولا يمكن التعود عليها والملل منها، فهي متجددة، ترتدي أثواب التغير والجمال والتناسق غير المحدود. ووصف لهم العذاب، وصفا يحول القلب إلى مخزن من رعب غير محتمل، فصقر، والويل، واليوم الطويل الممتد آلاف آلاف الأعوام، والعذاب المتجدد، إلى ما لا نهاية، وعذاب القبر وويلاته. والناس، الناس إنما تعبد الله خوفا من قوته غير المحدودة، المتعالية على الادراك والاحاطة، في محاولة لتجنب الويلات والعذاب. فماذا تظن؟ – وهل في هذا خطأ؟ – أتدري ما هو الفرق بين من يعبد الخالق وهو يسعى الى مراتب التقى مدركا بأعماقه بان رحمة الله ورضاه هي التي توصله الى الجنة الموصوفة وتبعده عن النار التي يتشقق الفؤاد هلعا ورعبا حين يداهمه وصفها، وبين من يعبده بالعادة والتعود ممنيا نفسه بكثير الكثير دون ان يبذل من ذاته وما يملك ما يؤهله الى ذلك. – هو فرق عظيم. – وكم من الناس من البشر يمكنه أن يرتقي إلى هذه المرتبة السامية؟ – قليل. – وهذا القليل هو من ادرك الحقيقة، ادرك طبيعته الانسانية التي تقف عاجزة امام النوائب والنوازل، وهو لا ينتظر ان يمسه الضر حيث لا منقذ الا الله جل شأنه كي يصل الى عبودية الشكر. بل يسعى في اليسر كما يسعى ساعة الضر ليكون ذاك العبد الذي تتجافى كل اوصاله وسكناته في محاولة مستمرة من الوصول الى ما يصبو اليه من رضا الله ورحمته، ويظل رغم ذلك ينكر على ذاته قدرتها على الوصول الى تلك المرحلة، فيبكي، ويبكي، وهو يعلم ان التذلل في البكاء لله وحده، تسند الذات وترفعها، تتسامى بها الى حيث الدرجات التي يمكن له ان يشعر ولو للحظات بالاطمئنان، بالسكينة، ويبقى رغم ذلك، شاعرا بالتقصير امام النعم المخلوقة فيه ومن حوله. – لكنها الطبيعة، طبيعة الناس والبشر. – نعم هي طبيعة الناس والبشر، فحاذر من تلك الطبيعة القابلة للتحول من حب إلى كراهية، ومن طيبة إلى حقد، ومن فاء إلى غدر، ومن تواضع إلى غرور. – إذن أنت تعترف بوجود الحب والطيبة والحقد والوفاء والتواضع؟ – اعترف بها كمسميات افرزها العقل العاجز عن فهم أغوار النفس، كألفاظ وجدت لتقابل حقيقة الصفات المناقضة لها كوجود ملموس لا يمكن الشك فيه أو التنصل من حقيقته، ولكني لا اعترف بها كمكونات أصيلة في النفس البشرية الملوثة بكل سخام الإنسان. اعترف الآن وبعد أن بَلَوت الناس والحياة، وبعد دوران على محور يشبه محاور الجنون والغثيان، بل ويتوحد مع محاور المجهول والتناقض والاختلاط، بان المسميات تأتي من لغة عاجزة عن التعبير والإفصاح، عن وصف ما لا يوصف، لتنضد في بوتقة من كلمات وتعابير ومفردات، في منظومة غريبة، تبدو غرابتها فقط من التنضيد المختلف في الشكل والمضمون. – أتعني بان الحياة خالية من مدلولات تلك الكلمات وتلك التعابير؟ إن كنت تقصد ذلك حقا؟ فأنت ممن يستحق الرثاء والشفقة والبكاء والدموع. – أتدري ما هو الفرق بين من مثلك ومن يستحق الرثاء والشفقة؟ هو ذات الفرق بين المهزوم المعترف بهزيمته، وبين المهزوم الصانع من الهزيمة الساحقة نصرا مؤزرا، فذاك ينطوي على حزن الهزيمة وألمها، وهذا يفرح بالنصر المنبثق من وهم الضعف والخوف والكذب والتدليس. الإنسان ليس إنسانا، ما لم يتمكن منه الألم والوجع، ما لم يسيطر عليه الحزن، ويقتحمه الأنين، أترى هذا التدفق الهائل الغاص بالطرقات والشوارع، هذا الهدير المتصاعد ضجيجه إلى مساحات النفس والروح. هذا ” الإنسان ” الذي تراه، ليس ذات الإنسان الواقف بين الليل والعتمة، بين البحر والعاصفة، بين الصحراء والسراب، بين الثلج والجليد والتجمد. هناك، وحين يقترب الخطر والموت، تراه على حقيقته، يبكي، تماما كامرأة عاجزة، كقنفذ يعرف معنى زجه بالماء، يعرف أن بعد الماء نصلا سيحز رقبته من الوريد إلى الوريد، فتراه يبكي، بكاء طفل مقهور. الخوف بداخله معنى من معاني الحزن، من معاني الألم، وكذلك المجهول، فيه عذاب ووجع وتوق إلى الخلاص من عيوب العجز، هناك يكون ” الإنسان ” إنسانا. هناك تندفع الصفات الحقيقية المكونة، تتفجر كما يتفجر الرعد، بعفوية وتلقائية، لتبدو النفس، النفس المعبأة بالألم والخوف والضياع، صورة يمكن التعامل مع مكوناتها وحقيقتها، مع طبيعتها العاجزة عن التستر خلف الألفاظ والمسميات والتعابير. فإذا ما انفك الخطر، وزال الألم والوجع، وانخفض العذاب واستتر الضياع، وخرج ” الإنسان ” من كل ذلك، تراه ينقلب من النقيض إلى النقيض، من حالة الانكشاف والتعري، من حالة الوضوح والصفاء، إلى عالم الخداع والزيف والمكر والغرور والغدر والكذب، تراه وقد تحول من ضعيف يشكو الضعف ضعفه، إلى جبار قادر على حصد مدينة كاملة، بلمحة عين، وطرفة رمش. الوثوق بمثل هذه الانقلابات، يعني الوثوق بالجهل المطبق، بموجة قادمة من نواة إعصار متشكل من غضب الرياح والأعاصير والبراكين، أو كالوثوق بأرض يهزها زلزال عظيم متنامي القوة والاندفاع. قال لي والدي يوما: ” أتعرف الحمار؟ استهجنت سؤاله، ولكنه واصل: الحمار من اشد المخلوقات علما بالطرقات، ومن أكثرها علما باختيار أسهل الصعاب من بين الوعورة، وهو صبور، فيه جلد لا يقدر بقيمة أو يحاط بوصف، لكنه حين يدمى جسده، لا يحمل صبرا على ذبابة تحط فوق الجرح، فتراه يرفس، يدور حول نفسه، لكنه يستطيع، أن يصمت، أن يكف عن النهيق، ليمارس ألمه وضيقه بطريقة رائعة، تختلف عن طريقة ” الإنسان “. فهو يجر العربة المُكَدَنة على الجرح، ويسير نحو طريقه، بهدوء، بصمت، يؤدي عمله وواجبه، وحين يعود، ويكون قد أنهى ما عليه نحو الإنسان والحياة، يتفرغ للرفس والدوران للتخلص من تلك الذبابة. انتهى كلام والدي. الذبابة هي ” الإنسان “، لكن الذبابة، خلقت لتمارس حياتها، فوق النتانة والجروح، لتمتص الدم الممزوج بالصديد، ولتدخل بيوت الخلاء، هي حياتها، طبيعتها، تكوينها، وهي متأصلة بكل ذلك، دون اللجوء إلى قناع المسميات والتعبير والوصف، وحين تسحقها بحذائك، ينتابك شعور بالتقزز والقرف من الحذاء والذبابة، ولكن لا ينتابك ذات الشعور حين تبدأ بارتداء أقنعة المسميات والدلالات الناهضة من عالم الكذب والخيانة والغرور. – أتشبه ” الإنسان ” بالذبابة؟ أم تشبهه بالحمار؟ – لا هذا ولا ذاك، لان عالم كل واحد مختلف تماما عن عالم الآخر، وللعوالم أسرار وخفايا، يمكن سردها، وصفها، التدليل عليها، والتعلم منها، لكنها تبقى عوالم منفصلة، متباعدة، تؤثر في ” الإنسان ” ولكنها – وهذا المهم – لا تتأثر به. أتعرف الكلب؟ أهناك وفاء بحجم وفائه، يجوع إذا جاع ” الإنسان ” ويموت قهرا وكمدا إذا مات ” الإنسان ” . ظل وفيا رائعا في وفائه، إلى أن جاء ” الإنسان ” وتدخل بتكوينة، فهجنه من ضبع، ومن ذئب ومن ثعلب، فتحول الوفاء الطبيعي العفوي، إلى غدر متنامي، إلى كذب ونهم وتوحش، تحول الوفاء إلى اللاوفاء، إلى النقيض، ولكن الاسم ظل على ما هو عليه، الكلب. حتى وفاء الكلاب والخيول، تدخل ” الإنسان ” به، أتدري لماذا؟ حسدا وضغينة، فقد عز عليه أن تحمل الكلاب والخيول صفات، تترفع عن الوجود بذاته وتكوينه، فأصيب بالحمى، بالغثيان الممزوج بالتقيؤ، فادخل تكوينه وصفاته ومسمياته ونوازعه إلى براءة الكلاب والخيول والحيوانات، فحولها بطريقة ما، إلى جزء من “الإنسان “. – أنت مجنون. – وهل الجنون غير لفظ لا نعرف معناه؟ لا نعرف كنهه؟ لا نعرف سره؟ ماذا تعرف عن الجنون؟ ولماذا تحتقر المجنون؟ ألأنة أكثر صفاء ونقاء منك؟ أم لأنه يعيش بعالم لم تستطع المسميات والتعابير التي تستخدمها من اقتحامه؟ المجنون هو الإنسان، بدون قوسين، لأنه المكشوف أمام الحياة بفطرة الطبيعة والتكوين، لذلك نرفضه نحن، نقصيه عن عالمنا، عن تكويننا، عن تقلباتنا واختلاطاتنا، ونزدريه، نحتقره، ليس لشيء، سوى انه يمارس الحياة بعفوية الحياة والوجود. المجنون الذي ترفضه أنت، يعيش في عالم واحد، في فكرة واحدة، ويغوص في بؤرة عميقة الدلالة، بعيدة عن مسميات يمكننا إدراكها، لكنه هو، يستطيع بجنونه أن يرسم اللحظات والخطوات التي تقوده بعيدا عن الأذى والابتذال، ويستطيع وبقوة خارقة، لا يمكننا إدراك كنهها أن يجعل من أشيائه وخطواته وتكويناته أن تنتظم في مسار محدد ومؤطر، في مسار متدفق نحو السلامة والهدوء وعدم الأذى، فهو من النقاء والصفاء إلى الدرجة التي تجعلنا نخجل من أنفسنا، فنندفع بنوع من ردة الفعل إلى احتقاره والتقليل من شأنه. – أتكره ” الإنسان ” إلى هذا الحد؟ – أنا لا أكره ” الإنسان “، وحتى لو قررت كراهيته، فماذا سيقدم ذلك أو يؤخر بتفاصيل الحياة والوجود، ولكني اعرف ” الإنسان ” وأجهله، اعرفه حين أراه، واجهله حين أراه، تماما كما تعرف أنت وغيرك مفردة ” التناقض “، تعرفها كمعنى يدور بقواك العقلية الموروثة، المفسرة من قبل أجيال مضت، رحلت وهي مقتنعة تمام الاقتناع بأنها أدركت كل ما تحمل كلمة التناقض من معنى، ونحن جئنا لنأخذ بتلك التفسيرات وتلك التحاليل، زدنا عليها القليل، وما زدناه قادم من أصل الجهل الذي ورثناه، وسلمنا به على انه الحقيقة المطلقة. نحن لا نعرف معنى واحدا من معاني التناقض، أو معنى واحدا من معاني التضاد، الليل والنهار غير متناقضين، تماما كما الربيع والخريف، والصيف والشتاء، وكما النور والظلمة، وكما الأبيض والأسود، ولكننا أردنا مسمى يرضي غرورنا، فقلنا بالتناقض، بالتضاد. الغرور والجهل، دفعا ” بالإنسان ” إلى كراهية الأسد الرابض فوق جثة الثور، يمزق لحمه ليقتات استمرارية الوجود، لكننا وبلحظة بسيطة نعود لنكره الثور الذي يبقر بطن إنسان بقرنيه دفاعا عن حقه بالحياة. هل تستطيع أن تفسر لي ذلك؟ هل تستطيع أن تخبرني كيف قررنا أن نمنح الأسد صفة الوحشية في لحظة تمزيقه للثور، ثم كيف اندفعنا لنمزق الثور حين بقر بطن ” الإنسان ” الذي يود انتزاع حياته. – هذا جنون مفرط، انهيار قاتل، أنت هباء في هذا الوجود. – نعم وعلى هذا الهباء أن يتلاشى من وجود ” الإنسان “. مأمون احمد مصطفى فلسطين- مخيم طول كرم النرويج – 21-06 – 2007