يأتي خطاب العرش، الذي يخلد للذكرى التاسعة عشرة لتربع جلالة الملك محمد السادس عرش أسلافه الميامين، في سياق خاص يعكس من جهة حجم الانتظارات الشعبية التي يرتفع سقفها، كما يبرز من جهة أخرى أن فكرة التغيير والإصلاح الشمولي حاضرة في المنظور الملكي، وذلك منذ أعلن في سنة 1999 مفهوما جديدا للسلطة قوامه ممارسة السلطة المواطنة، ثم في خطاب التاسع من مارس والذي دعا إلى اقرار دستور جديد للمملكة يضع أسس تعاقد اجتماعي ألف دستور فاتح يوليوز 2011 مرتكزاته الجديدة القائمة على التعاون بين السلطات وربط المسؤولية بالمحاسبة واعتماد ديموقراطية تشاركية. يطرح إذن خطاب العرش التاريخي لهذه السنة المخطط الاستعجالي الذي ينبغي أن يرتكز عليها النموذج التنموي المغربي من خلال إشاراته الواضحة والجلية بشأن الرؤية الملكية للمقومات التي يتعين أن ترتكز عليها التنمية المستدامة. وهذا ما ينبغي أن يتم في استحضار تام للتوجيهات الملكية السامية بالنسبة للعديد من القضايا التي تندرج في صلب التفكير بشأن نموذجنا التنموي، وعلى رأسها إصلاح التعليم والإدارة والنهوض بالأوضاع الاجتماعية للفئات الهشة، وكذا التركيز على دور الشباب في مسلسل التنمية والاهتمام بالبيئة من خلال تطوير البنيات المتعلقة بالموارد الطبيعية وعلى رأسها المخطط الوطني للماء. فالملاحظ أنه وفِي مناسبات متعددة، تمت إثارة انتباه النخب المغربية لوجوب التفاعل الايجابي مع التحديات التي تطرحها المرحلة الراهنة المتسمة بالتداعيات المترتبة عن العولمة، والمتجسدة على وجه الخصوص في التنافسية التي قد تصل حد الحروب التجارية، بالإضافة إلى واجب تقديم هذه النخب الدليل على كونها مبدعة ومترفعة عن الحسابات السياسية الضيقة، مؤكدا أيضا على وجوب ديمومة الحوار الاجتماعي بين الحكومة ومختلف الفرقاء الاجتماعيين للوصول إلى نتائج عملية لفائدة الطبقة الشغيلة. فالتحدي الحقيقي يكمن في ضمان الوقع المباشر والإيجابي لمختلف السياسات العمومية على المعيش اليومي للمواطن المغربي على النحو الذي يضمن توزيعا عادلا ومجزيا لخيرات البلاد، ويساهم في تحقيق العدالة الاجتماعية من خلال مختلف المشاريع والبرامج العمومية التي يتوجب إخراجها الى حيّز الوجود في آجالها المعقولة عبر التطبيق الصارم لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة. وقد وضع جلالته لأجل بلوغ هذا المبتغى سقفا زمنيا لتنزيل حزمة من الاجراءات تهم الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، إيمانا منه أن النموذج التنموي المغربي الجديد ينبغي أن يكون هذا الكل المتكامل والغير القابل للتجزيء. فالمساهمة في تنمية المغرب واجب على الجميع، وعلى الحكومة والأحزاب المشكلة للأغلبية أن يتحليا بروح العمل الجماعي وتجاوز الخلافات الظرفية والموضوعية، لأن مطالب المواطنين لا تقبل التأجيل. كما على الأحزاب السياسية تجديد آليات العمل السياسي من خلال استقطاب نخب جديدة وتبويء فئة الشباب مكانتها اللائقة بها ضمن المسلس التنموي للبلد. ومن هذا المنطلق يصبح تقاسم الخيرات وتوزيعها توزيعا عادلا وتضامنيا ليس مجرد خيار، بل قاعدة أساسية ترتكز عليها حكامة تدبير مختلف الموارد التي من شأنها تنزيل مشاريع التنمية ببلدنا، وذلك حتى يتم ضمان استفادة تلك الفئات التي لا تحظى بنصيبها من المشاريع المختلفة، ولن يتم هذا المبتغى إلا من خلال إعادة هيكلة عميقة لبرامج الدعم الاجتماعي، لأنه على الرغم من الجهود المبذولة على صعيد الشأن الاجتماعي إلا أن نسب الاستهداف الفئوية غير مدروسة بالشكل المطلوب، لذا دعا الملك إلى واجب التعجيل بوضع سجل اجتماعي موحد لتحصين المكاسب وضمان الاستفادة من الاستثمارات في القطاع الاجتماعي. ولتجاوز معضلة المحدودية فيما يخص مردودية الأثر المنشود من مختلف البرامج الاجتماعية الموزعة بين العديد من القطاعات الوزارية، فإن الالتقائية والتنسيق بين مختلف الفاعلين المتدخلين في هذا الإطار تبقى حلا منشودا، مع التأكيد على إطلاق مرحلة جديدة من المبادرة الوطنية للتنمية البشرية تتضمن جيلا جديدا من البرامج المذرة للدخل، ناهيك عن تصحيح الاختلالات بشأن منظومة التغطية الصحية وإعطاء دفعات قوية لمختلف البرامج الاجتماعية والتي تمول معظمها في إطار صندوق التماسك الاجتماعي كبرنامج تيسير من خلال تبني إجراءات عملية تحد من الهدر المدرسي، ووضع استراتيجية مندمجة من خلال برنامج مليون محفظة بشراكة مع مختلف المتدخلين توضح الأهداف والفئات المستهدفة ومخططات التمويل. ويعتبر الشق الاقتصادي وحكامة التدبير أوفر حظا أيضا ضمن هذا المخطط الاستعجالي للنموذج التنموي الجديد، حيث ركز جلالته على أجندة واضحة وزمنية دقيقة فيما يخص إقرار نصوص ومواثيق حاسمة بالنسبة لمناخ الأعمال والاستثمار، منها ميثاق اللاتمركز الإداري وميثاق الاستثمار، بالإضافة إلى نصوص قانونية تضع أجل شهر بالنسبة لمعالجة الملفات المتعلقة بالاستثمار، وهي إجراءات حاسمة لتحسين شروط الاستثمار وتوفير فرص الشغل ودعم تنافسية المقاولة المغربية. فهذا النموذج التنموي المنشود يجد مقوماته الأولية في النموذج التنموي المخصص للأقاليم الجنوبية، والذي يتجاوز البعد الاقتصادي ليتخذ شكل مشروع مجتمعي متناسق هدفه الرئيسي تحقيق الرفاه للمواطن المغربي، وذلك من خلال الدور الذي تلعبه الجهوية المتقدمة في هذا المجال، والتي ستمكن سكان هذه الأقاليم من ضمان المساهمة في التدبير الديموقراطي لشؤونها عبر إبراز الاستثمارات الخاصة بالمنطقة مراعاة للخصوصية الثقافية للمنطقة. ذلك أن الحصيلة الأولية للمشاريع المعتمدة في المنطقة منذ سنة 2016، تؤكد أن من بين 77 مليار درهم المخصصة للبرامج في المنطقة، تم الالتزام بحوالي 40 مليار درهم ضمن 139 مشروعا التي تم اطلاقها، وإذا كانت نسبة تنفيذ المشاريع الاجتماعية قد بلغت 52%، فإن نسبة الارضاء المحققة قد بلغت نسبا مهما، وما كان لهذه المشاريع أن تتحقق لولا حكمة وتبصر جلالة الملك الذي يسعى لأن يكون النموذج التنموي للأقاليم الجنوبية رافعة حقيقة للإنماء والازدهار. فالعاهل المغربي ما فتئ في كل مناسبة يحث على وجوب تحديد العوائق التي تحول دون تقديم نموذج تنموي يستجيب لإكراهات وتحديات المرحلة، وهي مسألة تتطلب من مختلف الفاعلين أن يتم ضبط السياسات العمومية مع انتظارات المواطنين، وذلك بالنظر لأولويات وخصوصيات مختلف جهات المملكة. وتبقى أولوية هذه الأولويات متمثلة في التنزيل العملي لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة من خلال القطع مع الممارسات التي تثبط عزائم انتظارات المواطنين وتترك الحبل على الغارب في تجسيد وترجمة إرادة الإصلاح والتغيير، لأن جودة النصوص القانونية لا تترجم بمدى صياغتها الدقيقة، وإنما بمدى الحرص الذي يعتمده المسؤولون في تنزيلها وتنفيذها على أرض الواقع. فهذا التحول الذي ينبغي أن يشهده نموذجنا التنموي لا يعني بالضرورة خضوعه للمنطق الحسابي المتعلق برصد أثر المشاريع القطاعية والبرامج التنموية، وإنما يتطلب استحضار دور هذا النموذج الجديد لتقليص الفوارق التي هي التربة الخصبة للتوترات والاحتجاجات الاجتماعية. وعليه فمطلب العدالة الاجتماعية قد أصبح خيارا استراتيجيا بالنسبة للمغرب، حيث لم يعد الارتقاء بمستويات عيش الفئات الهشة شأنا يهم الدولة لوحدها، وإنما أضحى موضوعا تشترك فيه حتى المجالس المنتخبة من خلال واجبها المتمثل في ضمان تتبع تنفيذ السياسات والبرامج الاجتماعية، فهذا الأمر يرتهن أيضا بمدى إرساء ثقافة جديدة تؤسس لاتخاذ المبادرة والابداع وتثبيت مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة في مقومات التدبير العمومي، لاسيما في ظل عدم استدامة العديد من مؤشرات المالية العمومية التي أقرها التقريرين الأخيرين لكل من بنك المغرب والمجلس الأعلى للحسابات كالنمو الاقتصادي الذي لا يحدث الدينامية المطلوبة في الاقتصاد الوطني لخلق فرص الشغل، في وقت لا يشهد نضجا في أنظمة الحماية الاجتماعية، مما يؤثر في ولوجية العديد من الفئات الاجتماعية إلى الخدمات الأساسية. هكذا يكون خطاب العرش لهذه السنة بمثابة خارطة طريق حقيقية تضع وبالملموس من خلال حزمة من التدابير مخططا استعجالا على الحكومة أن تترجمه من خلال قوانين ذات صلة بمناخ الأعمال، وعلى رأسها قانون المالية لسنة 2019، الذي ينبغي أن يمنح مدلولا جديدا للبرمجة الميزانية المتعددة السنوات لاتقف عند حدود البعد الزمني في استشراف أفق تمويل المشاريع العمومية، وإنما يتعين عليها أن تضمن الالتقائية بين هذه المشاريع حتى تحقق المردودية ونسب الاستهداف المنشودة لكل الفئات والشرائح الاجتماعية.